البدر الزاهر في صلاه الجمعه و المسافر

اشارة

سرشناسه : بروجردي، حسين، 1340 - 1253

عنوان و نام پديدآور : البدر الزاهر في صلاه الجمعه و المسافر/ تقرير الابحاث حسين الطباطبايي البروجردي؛ بقلم حسينعلي المنتظري

وضعيت ويراست : [ويرايش ]2

مشخصات نشر : قم: مكتب آيه الله العظمي المنتظري، 1416ق. = 1375.

مشخصات ظاهري : ص 399

شابك : 9000ريال

يادداشت : عربي

يادداشت : چاپ سوم: 1416ق. = 1374؛ 9000 ريال

يادداشت : كتابنامه: ص. [376] - 390؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : نماز مسافر

موضوع : نماز جمعه

شناسه افزوده : منتظري، حسينعلي، 1301 - ، محرر

رده بندي كنگره : BP187/4/ب 4ب 4 1375

رده بندي ديويي : 297/353

شماره كتابشناسي ملي : م 77-5657

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى حجّة اللّٰه و وليه و بقية اللّٰه في أرضه و خليفته على عباده، صاحب العصر و الزمان و ناشر العدل و الإيمان، الإمام المنتظر و العدل المظفر، الحجّة بن الحسن العسكري- عجّل اللّٰه تعالى فرجه- أهدي هذه البضاعة المزجاة.

و المرجوّ من ساحته المقدسة أن يغمض عما قصرت فيه و أقصر من أداء حقوقه و أن يشفع لي عند اللّٰه شفاعة حسنة، سهّل اللّٰه مخرجه و قرّب زمانه، و جعلنا من أعوانه و أنصاره بحق أجداده الطيبين الطاهرين و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين.

ص: 7

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

كلمة المقرر:

الحمد للّٰه الذي جعل الصلاة معراجا لمن يؤمن به ليعرج بها في مدارج الكمال و السعادة، و قربانا لمن يتقيه فيتقرب بها إلى معدن الجمال و العظمة، و ميزانا يوزن به المخلصون من عباده و أوليائه، و عمودا للدين يعتمد عليه من سافر إلى رحمته و رضوانه.

و الصلاة و السلام على جامع شمل الدين و خاتم النبيين محمد و على آله و عترته المصطفين الأخيار و الطيبين الأطهار، الناطق بفضلهم و وجوب التمسك بهم حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين بنحو لا يشوبه ريب و لا مين.

أما بعد، فلا يخفى على المتتبع البصير و الناقد الخبير أنّ علم الفقه في هذه الأعصار و إن تشعبت أغصانه و أثمرت فروعه، و وصل إلى ذروة الكمال و السعة التي تليق به فصار كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء: اخضرّت غصونها و أينعت ثمارها و تناول منها كل من أرادها، لكنه مع تشعب الفروع و كثرة الأثمار قد ضلّت الثمرات خلال الأوراق و الزيادات، فعسر اجتناؤها و اقتطافها على طلّاب الحقيقة و روّادها، و لم يتأت لكلّ أحد الوقوف على المقاصد الأصلية فيها، إلى أن

ص: 8

انتهت رئاسة الشيعة الإمامية و زعامة حوزاتهم العلمية إلى شمس فلك الفقاهة و الاجتهاد و مركز دائرة البحث و الانتقاد، زبدة الفقهاء و المجتهدين و آية اللّٰه العظمى في الأرضين، حافظ الشريعة الباقية و ملجأ الشيعة الإماميّة، سيدنا الأعظم «الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي» (1) مدّ ظلّه العالي على رءوس المسلمين، فهو- مدّ ظلّه- كان في أثناء تدريسه لأبواب الفقه يميز المسائل الأصلية الأساسية المتلقاة عن الأئمة عليهم السّلام من التفريعات المستنبطة التي أعمل فيها الرأي و الاجتهاد، و يشير في كل مسألة إلى تأريخها و التطورات اللاحقة لها في أدوار فقه الفريقين، ثم يأتي خلال الاستدلال عليها بما هو الركن و الأساس و عليه اعتماد الفحول، و يحذف ما لا يفيد من الزوائد و الفضول، و قد أفاد و درس- مدّ ظلّه- منذ تصدى لزعامة الحوزة العلمية بقم، من أبواب الفقه كتب الإجارة و الغصب و الشركة و الوصية و كتاب الصلاة بطولها، و كنت أضبط من بادئ الأمر كلّ ما يفيده و يلقيه من مباحث الفقه و الأصول، و قد شرع- مدّ ظلّه- في تدريس كتاب الصلاة في السابع من جمادى الثانية سنة 1367. و أوّل ما شرع فيه عنون البحث عن صلاة الجمعة و صلاة المسافر فضبطت ما أفاده و ألقاه في المسألتين، و لكن مرّ الزمان و تعاقب الجديدان و لم أوفّق خلاله لمراجعتهما طرفة عين، إلى أن التمس مني في هذه الأزمان بعض من لا يسعني مخالفته من الأصدقاء و الخلّان نشر ما كتبت سابقا في المسألتين، فراجعت السيد الأستاذ- مدّ ظلّه العالي على رءوسنا- و شاورته في ذلك فأجاز النشر و استحسنه، فبادرت إلى ذلك مستعينا باللّٰه و متوكلا عليه، و سميته: «البدر الزاهر» في حكم الصلاة الجمعة و المسافر و رتبته على فصلين: الفصل الأوّل في صلاة الجمعة، و الفصل الثاني في صلاة المسافر.


1- تجدر الإشارة إلى أنّ آية اللّٰه العظمى البروجردي- قدس سرّه الشريف- انتقل إلى جوار رحمة ربّه الكريم سنة 1380 ه. ق.

ص: 9

و لا يخفى أنّ الروايات المروية في هذا الكتاب عن المشايخ الثلاثة أكثرها مأخوذة من كتاب «وسائل الشيعة» (1) اعتمادا عليه. نعم، ربما أخذنا بعضها من الكتب الأربعة لكون الرواية في الوسائل مقطّعة أو لجهات أخر.

و المرجوّ ممن عثر في الكتاب على خطأ و زلّة أن ينظر إليه بعين العفو و الإغماض فإنّ الإنسان محلّ النسيان و الخطأ.

و في الختام أقدّم صلاتي و تحيّتي إلى صاحب العصر و الزمان- عجّل اللّٰه تعالى فرجه.

و قد وقع الفراغ من طبع الكتاب في يوم ولادته: 15 شعبان سنة 1378 ه. ق.

حسين علي المنتظري النجف آبادي


1- لا يخفى على القارئ الكريم أنه يراعى في تعليقات هذه الطبعة، الطبعات الحديثة لمصادر الكتاب إن كانت، إلّا في موارد قليلة كما توافيك في فهرس المصادر

ص: 10

ص: 11

الفصل الأول في صلاة الجمعة

اشارة

صلاة الجمعة و هي واجبة بإجماع الفريقين، بل هو من الضروريات.

و اختلف في كونها صلاة مستقلة أو ظهرا مقصورة، و المستفاد من بعض الأخبار أنّها ظهر مقصورة و أن الخطبتين بدل الأخيرتين، فكونها صلاة مستقلة محل إشكال و إن ادعاه العلامة في التذكرة (1) و عقد لها الفقهاء في متونهم الفقهية فصلا مستقلا.

بعض ما يشترط في صحة انعقادها

و يشترط في وجوبها إقامة السلطان أو نائبه عند علمائنا، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي و مالك و أحمد: ليس السلطان و لا أذنه شرطا، لأنّ عليا عليه السلام أقامه و عثمان محصور مع أنّ الخلافة لم تنتقل بعد إليه. و الجواب عن ذلك على أصولنا واضح، و على أصولهم أنّ حصر عثمان عزل له من قبل المسلمين و نصب لعلي عليه السلام (2) (3)


1- راجع الوسائل 5- 29 (ط. أخرى 7- 331)، الباب 14 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2، و التذكرة 1- 143 (ط. أخرى 4- 12)، البحث الأوّل من المطلب الأوّل من الفصل الأوّل من المقصد الثالث، المسألة 377.
2- المصدر السابق 1- 144 (ط. أخرى 4- 19)، البحث الثاني، المسألة 381.
3- النصب على أصولهم يتوقف على البيعة بالخلافة و لم تتحقق إلّا بعد ما قتل عثمان. ح ع- م.

ص: 12

ص: 13

ص: 14

تفسير آية الجمعة

و لنذكر أوّلا مفاد آية الجمعة ثم نرجع إلى تحقيق المسألة:

قال اللّٰه تعالى في سورة الجمعة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الى أن قال:) وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً (1) الآية.

و قد يتوهم دلالة الآية الشريفة على وجوب صلاة الجمعة بنحو الإطلاق على كل أحد، فيجوز التمسك بها لنفي كل ما شك في شرطيته.

و قد نشأ هذا التوهم من عدم الملاحظة لمورد نزولها، إذ بملاحظته يعلم أنها ليست بصدد تشريع الجمعة، و إنما نزلت في واقعة خاصة اتفقت بعد ما كانت صلاة الجمعة مشرعة و معمولا بها بين المسلمين.

و قصة ذلك أن دحية بن خليفة الكلبي كان يسافر إلى الشام و يأتي بمال التجارة إلى المدينة ثم يضرب بالطبل لإعلام الناس بقدومه، فقدم ذات جمعة و رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قائم على المنبر يخطب، فلمّا ارتفع صوت الطبل خرج الناس و انفضوا إليه، بعضهم الاشتراء المتاع، و بعضهم لاستماع اللهو (الطبل) و تركوا النبي صلّى اللّٰه عليه و آله قائماً فنزلت الآيات الشريفة.

و المراد بالذكر فيها هو الخطبة كما عليه الأكثر، و لذا استدل بها أبو حنيفة على كفاية ذكر اللّٰه فقط في خطبة الجمعة. كما استدل لها أيضا بفعل عثمان، فإنّه حين ما ولي الخلافة خطب الجمعة فقال: الحمد لله، فلمّا قال ذلك صار ألكن. فقال: إنّكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال (2).


1- سورة الجمعة (62) الآيات 11- 9.
2- راجع التذكرة 1- 150 (ط. أخرى 4- 62)، البحث السادس من المطلب الأوّل، المسألة 405، و تفسير القرطبي 18- 115.

ص: 15

و قوله تَرَكُوكَ قٰائِماً يعنى به قائماً في الخطبة. و كان سيرته صلّى اللّٰه عليه و آله و سيرة الخلفاء بعده على القيام فيها، إلى أن وصلت النوبة إلى معاوية فاختار القعود. (1)

و تقديم التجارة على اللهو في صدر الآية لعله من جهة كونها عندهم أهمّ، و تأخيرها في الذليل من جهة أنّ الترتيب الطبيعي يقتضي تقديم الأوضح على الواضح، و كون ما عند اللّٰه خيرا من اللهو أوضح.

و المراد بالنداء للجمعة هو الأذان لها، فإنّه لم يكن على عهد رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله نداء سواه، و كان يجلس على المنبر فيؤذن مؤذنه بلال على باب المسجد ثم كان أبو بكر و عمر كذلك، حتى إذا كان عثمان و كثر الناس زاد أذانا للجمعة فأمر بالتأذين الأول على سطح دار له بالسوق و بالثاني على باب المسجد. (2) و إلى هذا يشير ما في بعض الأخبار (3) من كون الأذان الثاني أو الثالث يوم الجمعة بدعة. و التثليث إنما يتحقق بضمّ أذان الصبح.

و كيف كان فالمراد بالذكر في الآية بقرينة المورد هو الخطبة، و المقصود أمر الناس بأن يسعوا و يسرعوا لإدراك الخطبة و لا يقدّموا عليه المشاغل الدّنيوية، و هذا بعد ما فرض النداء إلى الجمعة التي أريد بها الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط لا محالة.

و إن شئت قلت: إنّ الآيات ليست بصدد تشريع الجمعة و إثبات وجوبها بل نزلت بعد ما كانت من قبل مشرعة و كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله يقيمها، فإنها نزلت بالمدينة و قد عقدها و أقامها صلّى اللّٰه عليه و آله في طريق مهاجرته إليها على ما في التواريخ (4) فالآيات الشريفة إنما وردت في مقام التوبيخ و التعيير لمن ترك حضور الجمعة المنعقدة و قدّم


1- راجع الخلاف 1- 615، المسألة 382 من كتاب الصلاة، و التذكرة 1- 151 (ط. أخرى 4- 70)، البحث السادس، المسألة 408.
2- راجع مجمع البيان 5- 288 (الجزء العاشر من التفسير)، و تفسير القرطبي 18- 100.
3- راجع الوسائل 5- 81 (ط. أخرى 7- 400)، الباب 49 من أبواب صلاة الجمعة.
4- راجع سيرة ابن هشام 2- 139.

ص: 16

التجارة أو اللهو عليها بعد ما كان أصل تشريعها بشرائطها مفروغا عنه. فمفادها أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة بشرائطها و حدودها فعلى الناس أن يسعوا إليها و يذروا ما يشغل عنها، و أما أنّه على من يجب عقدها و إقامتها، و ما هي حدودها و شروطها فليست الآية في مقام بيانها.

فإن قلت: نعم، الآية لا تدل على وجوب العقد، و لكنها تدل بإطلاقها على وجوب السعي إليها كلّما عقدت و أينما أقيمت، و بالجملة مفادها أنه كلّما أقيمت الجمعة يجب السعي إليها، عملا بإطلاق الشرط و عمومه كما يعمل به في نحو: إذا جاءك زيد فأكرمه، و يشمل إطلاق الشرط لما عقدها السلطان أو نائبه و لما عقدها غيرهما.

قلت: ليست الآية في مقام بيان أنّ كل جمعة أقيمت يجب السعي إليها، بل في مقام التوبيخ لمن يفرّ عن الجمعة الصحيحة المعقودة بقصد البيع أو اللهو أو سائر المشاغل. (1) و الحاصل أنها غير مسوقة لبيان وجوب العقد و الإقامة، أو لبيان وجوب الحضور و السعي إلى كل جمعة أقيمت كيفما كانت، بل وردت للتوبيخ على تساهل الحضور و تقديم سائر المشاغل بعد ما فرض إقامة جمعة واجدة للشرائط و ثبت إجمالا وجوب السعي إليها.

إشارة إلى أمرين:

اشارة

و كيف كان فلنشرع في تحقيق أخبار الباب، و لنشر قبله إلى أمرين:

الأوّل: بيان نكتة تاريخية في باب إقامة الجمعة

اعلم أنّ ها هنا نكتة تاريخية تكون بمنزلة القرينة المتصلة للأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام فيجب التوجه إليها في فهم مفاد الأخبار، و هي أنّه لا ريب في أنّ


1- و إن شئت قلت: إنّ الأسامي قد وضعت للصحيح على الصحيح، فمفاد الآية وجوب السعي إلى الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط فلا تدل بإطلاقها على صحة كل جمعة أقيمت. ح ع- م.

ص: 17

رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله كان بنفسه يقيم الجمعة و يعقدها، و بعده أيضا ما أقامها إلا الخلفاء و الأمراء و من ولي الصلاة من قبلهم، حتى وصلت النوبة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فكان هو أيضا كذلك، و كان من سيرتهم جميعا تعيين أشخاص معينة لإمامة الجمعة في البلدان و إن كان الغالب تعيين الحكام لها، فكان عقدها و إقامتها من مناصبهم الخاصة و لم يعهد في عهدهم إقامة شخص آخر لها، بدون إذنهم حتى في عصر خلافة على عليه السلام و هكذا كان سيرة الخلفاء غير الراشدين من الأموية و العباسية، فكان ينظر و يرى كل واحد من آحاد المسلمين أنه كلما أقبل يوم الجمعة حضر الخليفة بنفسه أو نائبه لإقامتها و اجتمع الناس و سعوا إليها و لم يروا قط أحدا يعقدها باختياره.

فهذه السيرة و الطريقة كانت مشهودة للمسلمين مركوزة في أذهانهم حتى لأصحاب أئمتنا عليهم السلام، فالأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام قد ألقيت إلى أشخاص قد شهدوا هذه الطريقة من الخلفاء و عمّالهم و من الناس في الجمعات و ارتكزت هذه الطريقة في أذهانهم من الصغر، و قد استمر سيرة السلاطين بعد الخلفاء أيضا على إقامة الجمعة بأنفسهم و على نصب أشخاص خاصة لها، حتى إنّ السلطان إسماعيل الصفوي (1) قد مال إلى إقامتها في قبال العثمانية و كانت الصفوية يعينون أشخاصا خاصة لإقامة الجمعة في البلدان، و كان إقامة الجمعة من المناصب المفوضة من قبلهم، و هكذا كان سيرة القاجارية، و لأجل ذلك كان في كل بلد شخص خاص ملقبا بلقب إمام الجمعة.

و الحاصل أنّ إقامة الجمعة و إمامتها منذ عهد الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله إلى زماننا هذا كانت من مناصب سلطان المسلمين و من بيده أزمّة أمورهم أو المنصوبين من قبلهم.


1- المراد منه إسماعيل الأوّل- من أحفاد الشيخ صفي الدين الأردبيلي- المؤسس للحكومة الصفوية في إيران في العشر الأوّل من القرن العاشر للهجرة النبوية.

ص: 18

و قد نقل في نفائس الفنون: أن السلطان خدا بنده بنى في سلطانية قزوين مدرسة كان يدرس فيها خمسة من الفقهاء بالمذاهب الخمسة، منهم العلّامة بمذهب الشيعة، ثم حضر السلطان يوما من الأيام لإمامة الجمعة، فسأل العلماء بعد اجتماعهم عن وجه وجوب الصلاة على الآل، ثم قال: لعل النكتة فيه أنّ اللّٰه تعالى أراد عدم نسيان الآل و كونهم في ذكر الناس حتى يرجو إليهم. (1) انتهى.

فيعلم من ذلك أن السلطان خدا بنده كان بنفسه يقيم الجمعة مع حضور العلماء و الفقهاء.

و كان سيرة الأمراء و الحكام بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة فكان دار الإمارة و المسجد الذي تقام فيه الجمعة متقاربين كما هو الحال في مسجد الكوفة، و كان في كل مصر مسجد واحد يسمى عند العرب بالمسجد الجامع و عند العجم بمسجد الجمعة، و أغلبها باق إلى زماننا هذا، و لم يعهد بناء الجامع في القرى، حيث إن إيران كانت من توابع العراق و كان فقيه العراق أبا حنيفة و هو ممن يخص إقامة الجمعة بالأمصار و ينكر مشروعيتها في القرى (2)، و قد كان إقامة الجمعة في المسجد المعدّ لها في كل مصر من خصائص شخص خاص عينه خليفة الوقت لذلك. هكذا كان سيرة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الخلفاء و الأمراء و المسلمين من عهد النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إلى اليوم، فلتكن هذه النكتة التاريخية في ذكر منك عند مراجعة الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام.

الأمر الثاني: تقسيم مسائل الفقه إلى أصول و تفريعات

لا يخفى أنّ رواياتنا معاشر الإمامية لم تكن مقصورة على ما في الكتب الأربعة بل كان كثير منها موجودة في الجوامع الأولية، كجامع علي بن الحكم و ابن أبي


1- راجع نفائس الفنون 2- 260- 257، المقالة الرابعة، الفن الثالث، الباب الخامس. و لغة الكتاب فارسية. و ليس فيه أن السلطان حضر يوم الجمعة.
2- راجع الخلاف 1- 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.

ص: 19

عمير و البزنطي و حسن بن علي بن فضّال و مشيخة حسن بن محبوب و نحو ذلك، و لم يذكرها المشايخ الثلاثة في جوامعهم، فإذا عثرنا في مسألة على إطباق أصحابنا و إجماعهم على الفتوى في كتبهم المعدّة لنقل خصوص المسائل المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام مثل كتب القدماء من أصحابنا نستكشف من ذلك وجود نص و أصل إليهم يدا بيد، و هذا هو الإجماع المعتبر عندنا، فالعمل بالإجماع ليس رفضا لقول المعصومين بل هو من الطرق القطعية الكاشفة عن أقوالهم.

و إن شئت تفصيل ذلك فنقول: إن القدماء من أصحابنا كانوا لا يذكرون في كتبهم الفقهية إلّا أصول المسائل المأثورة عن الأئمة عليهم السلام و المتلقاة منهم يدا بيد، من دون أن يتصرفوا فيها أو يذكروا التفريعات المستحدثة، بل كم تجد مسألة واحدة تذكر في كتبهم بلفظ واحد مأخوذ من متون الروايات و الأخبار المأثورة، بحيث يتخيل الناظر في تلك الكتب أنهم ليسوا أهل اجتهاد و استنباط بل كان الأواخر منهم يقلدون الأوائل، و لم يكن ذلك منهم إلّا لشدّة العناية بذكر خصوص ما صدر عنهم عليهم السلام و وصل إليهم بنقل الشيوخ و الأساتذة، فراجع كتب الصدوق كالهداية و المقنع و الفقيه و مقنعة المفيد و رسائل علم الهدى و نهاية الشيخ و مراسم سلار و الكافي لأبي الصلاح و مهذب ابن البراج و أمثال ذلك تجد صدق ما ذكرنا.

و قد ذكر الشيخ «ره» في أول المبسوط ما ملخصه: أنّ استمرار هذه الطريقة بين أصحابنا صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية و ينسبونهم إلى قلّة الفروع و المسائل، مع أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، و ما كثروا به كتبهم من الفروع فلا فرع من ذلك إلّا و له مدخل في أصولنا و مخرج على مذهبنا لا على وجه القياس. و كنت على قديم الوقت و حديثه متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع و تضعف نيتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه و ترك عنايتهم به لأنهم ألقوا

ص: 20

الأخبار و ما رووه من صريح الألفاظ، حتى إنّ مسألة لو غيّر لفظها و عبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها. و كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية و ذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أصلوها من المسائل، و لم أ تعرّض للتفريع على المسائل و لا لتعقيد الأبواب و ترتيب المسائل و تعليقها و الجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من ذلك و عملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات، و وعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة يضاف إلى كتاب النهاية، ثم رأيت أنّ ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه، لأن الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه فعدلت إلى عمل كتاب يشتمل على عدد جميع كتب الفقه و أعقد فيه الأبواب و أقسم فيه المسائل و أجمع بين النظائر و أستوفيه غاية الاستيفاء و أذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون. انتهى. (1)

و هذا الكلام منه «قده» ينادي بما ذكرناه، و بأنّه أيضا عمل كتاب النهاية على طريقتهم مقتصرا فيها على ذكر ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أصلوها، و لكنه لدفع طعن المخالفين عمل كتاب المبسوط ليستوفي فيه الفروع و الأصول و يجمع بين الأصول و النظائر.

و على هذا فإذا عثرت في مسألة على إطباق القدماء من أصحابنا على فتوى أو اشتهاره بينهم في تلك الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة و المأثورة فأحدس بتلقيهم ذلك يدا بيد من قبل الأئمة عليهم السلام و إن لم تجد به نصا في الجوامع التي بأيدينا حيث إن سلسلة فقهنا لم تنقطع و لم تحصل فترة بين الفقهاء من أصحابنا و بين


1- المبسوط 1- 3- 1. و قال الصدوق في أوّل المقنع (الجوامع الفقهية ص 2): «و سميته كتاب المقنع لقنوع من يقرأه بما فيه، و حذفت الأسناد منه لئلا يثقل حمله و لا يصعب حفظه و لا يمل قارئه، إذ كان ما أبينه فيه في الكتب الأصولية موجودا مبينا عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات». و هذا الكلام أيضا يؤيد ما ذكره الأستاذ مد ظله العالي. ح ع- م.

ص: 21

الحجج المعصومين، كما لا يخفى على من تتبع تاريخ الفقه و الحديث، و قد عثرنا في أثناء تتبعنا على مواضع كثيرة يستكشف فيها من فتاوى الأصحاب وجود نص و أصل إليهم من دون أن يكون منه في الجوامع التي بأيدينا عين و لا أثر.

فتلخص مما ذكرنا أنّ مسائل الفقه على قسمين: فبعضها أصول متلقاة عنهم عليهم السلام و قد ذكرناها القدماء في كتبهم المعدة لنقلها، و يكون إطباقهم في تلك المسائل بل الاشتهار فيها حجة شرعية لاستكشاف قول المعصوم عليه السلام بذلك، و بعضها تفريعات تستنبط من تلك الأصول بإعمال الاجتهاد، و لا يكون الإجماع فيها فضلا عن الشهرة مغنيا عن الحق شيئا.

و لا يخفى أن الاجتهاد عند أصحابنا الإمامية ليس إلّا استقصاء طرق الكشف عن قول المعصوم و استنتاج الأحكام من آثارهم و استنباط الفروع من الأصول المأثورة عنهم، نعم الاجتهاد عند العامة يخالف ما ذكر، فإنّه عندهم دليل مستقل في قبال سائر الأدلة الشرعية، و لذلك كانوا في كتبهم الأصولية يذكرونه في فصل مستقل.

فالاجتهاد عندنا عبارة عن استفراغ الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها و أما عندهم فدليل في قبال سائر الأدلة.

بيان ذلك أنهم لما لم يقرّوا بإمامة أئمتنا و حجية أقوالهم و لم يكن الأخبار النبوية وافية بالفقه احتاجوا إلى استنباط أحكام الوقائع بالقياسات، و حيث لم يف القياس أيضا بذلك لجئوا إلى الاستحسانات الذوقية و الحكم على طبق المصالح و المفاسد المظنونة، فهذا هو المراد بالاجتهاد عندهم. فالاجتهاد عندنا ليس إلّا تطبيق الأصول المأثورة على الموارد، و عندهم إعمال النظر في النظائر و الملاكات المظنونة ليقاس عليها و يحكم على وفقها، و الأخبار الواردة في ذمّه ناظرة إلى ما هو المعهود عندهم من تفويض الواقعة إلى الفقيه حتى يحكم فيها على وفق ما يبدو في نظره من الملاكات. و كيف كان فمستندنا في الفقه ليس إلّا الأخبار المأثورة و ما بحكمها

ص: 22

مما يكشف عن قولهم عليهم السلام، و حجية الإجماع عندنا أيضا من هذا الباب فلا طعن علينا في العمل به، فتدبّر.

طوائف الأخبار التي يستدلّ بها على وجوب الجمعة

اشارة

و أما الأخبار الواردة التي يستدل بها على وجوب صلاة الجمعة فثلاث طوائف:

الأولى: ما تدل على أصل وجوبها إجمالا، و يتبادر منها وجوب الحضور و السعي إلى الجمعة بعد ما فرض انعقادها بشروطها، و إن كان ربما يستدل بالإطلاق المتوهم في بعضها على عدم اشتراط حضور السلطان أو من نصبه و وجوبها العيني حتى في عصر الغيبة.

الثانية: ما تدل على اشتراط الإمام أو من نصبه و أنّ إقامتها من وظائفه و مناصبه.

الثالثة: ما استدل بها على ترخيص الأئمة عليهم السلام لشيعتهم في إقامتها، و يترتب عليه جواز إقامة الشيعة لها أو وجوبها في عصر الغيبة، و أكثر هاتين الطائفتين أيضا تدل على أصل الوجوب إجمالا.

ما تدلّ على وجوب حضور الجمعة بعد فرض انعقادها

أما الطائفة الأولى فهي أخبار كثيرة ذكرها القوم، و إن كان في دلالة بعضها على أصل الوجوب أيضا نظر:

1- ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «إنما فرض اللّٰه عزّ و جلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا و ثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّٰه عزّ و جلّ في جماعة، و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة: عن الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة و المريض و الأعمى و من كان على رأس فرسخين.» و رواه الكليني عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان و عن

ص: 23

علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة. و رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب (1) و لا بأس بسند الحديث. و لا يخفى أنه ليس بصدد بيان وجوب إقامة الجمعة فضلا عن وجوبها على كل أحد و إن لم يؤذن له من قبل الإمام عليه السلام، و لا في مقام بيان شروط الانعقاد، بل هو بصدد بيان وجوب حضور الجمعة و السعي إليها بعد ما فرض انعقادها بشرائطها، و يشهد لذلك استثناء الذين لا يجب عليهم الحضور من التسعة المذكورة في الحديث.

و الحاصل أنه بالدقة في الحديث يعلم كونه في مقام بيان وظيفة الناس بالنسبة إلى الجمعات المعقودة، و أنه يجب عليهم حضورها إلّا على التسعة المذكورين و منهم من بعد عن الجمعة المنعقدة بفرسخين.

و قوله «في جماعة» يحتمل أن يكون المراد منها اجتماع الناس بنحو يناسب الجمعة لا الجماعة المصطلحة، و هذا أيضا شاهد آخر على كون الحديث في مقام بيان وجوب الحضور بعد اجتماع الناس.

2- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير و محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «ان الله عزّ و جلّ فرض في كل سبعة أيّام خمسا و ثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدنا إلّا خمسة: المريض و المملوك و المسافر و المرأة و الصبي.» و رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب. (2)

و الرواية صحيحة من حيث السند. و مرسلة المفيد في المقنعة أيضا مأخوذة من الحديثين، فراجع (3).


1- الوسائل 5- 2 (ط. أخرى 7- 295)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 5 (ط. أخرى 7- 299) و الباب، الحديث 14.
3- المصدر السابق 5- 6 (ط. أخرى 7- 300) و الباب، الحديث 19، عن المقنعة- 162.

ص: 24

و الرواية صريحة في كونها بصدد بيان وجوب السعي و الحضور بعد ما فرض انعقاد الجمعة، و ليست بصدد بيان وجوب العقد و من يجب عليه ذلك من الإمام أو نائبه أو مطلق الناس. و لعل الاقتصار فيها على استثناء الخمسة من جهة دخول الأعمى و الكبير في المريض، و كون الرواية في مقام تقسيم الناس باعتبار حالاتهم إلى من تجب عليه الجمعة و من لا تجب، و كون الشخص على رأس فرسخين ليس من تطوراته و حالاته.

3- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلّا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبي.» (1)

و هذا الحديث أيضا بصدد بيان وجوب الحضور لا العقد و الإقامة.

4- ما رواه الصدوق في الفقيه. قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام في الجمعة فقال:

«الحمد لله الوليّ الحميد (إلى أن قال:) و الجمعة واجبة على كل مؤمن إلّا على الصبي و المريض و المجنون و الشيخ الكبير و الأعمى و المسافر و المرأة و العبد المملوك و من كان على رأس فرسخين.» (2)

و عدم كون الرواية بصدد بيان وجوب العقد فضلا عمن يجب عليه ذلك، بيّن لا يدخله ريب، فإنّه عليه السلام كان بنفسه يعقد الجمعة و يقيمها حينما صدر عنه هذه الخطبة، و ليس بصدد بيان الوظيفة لنفسه أو لعمّاله، بل بصدد بيان وظيفة الناس بالنسبة إلى الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها، أعني وجوب الحضور و السعي إليها. و نحوها الأحاديث النبوية الدالة على وجوب الجمعة و حثّ الناس عليها، فإنّ


1- المصدر السابق 5- 5 (ط. أخرى 7- 300) و الباب الحديث 16 و 5- 8 (ط. أخرى 7- 304)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 7.
2- المصدر السابق 5- 3 (ط. أخرى 7- 297)، الباب 1 منها، الحديث 6.

ص: 25

المتصدي لعقدها في زمن الرسول صلّى الله عليه و آله كان نفسه الشريفة.

5- ما رواه المحقق في المعتبر مرسلا من قوله عليه السلام (1): «إنّ الله كتب عليكم الجمعة فريضة واجبة إلى يوم القيامة.» (2)

و قد عرفت أنّ الأخبار النبوية إنما صدرت عنه صلّى الله عليه و آله في عصر كان هو بنفسه يتصدى لإقامة الجمعة أو ينصب لها من يقيمها، فليست بصدد بيان وجوب العقد و الإقامة بل بصدد بيان وجوب الحضور و السعي إلى ما انعقدت بشرائطها.

6- ما رواه أيضا مرسلا من قوله عليه السلام: «الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة.» (3)

و الظاهر كونه بصدد بيان اشتراطها بالجماعة المصطلحة، أو الجماعة بمعنى الاجتماع الخاص المناسب للجمعة كما مرّ بيانه في ذيل الخبر الأوّل.

7- ما رواه أيضا مرسلا من قول النبي صلّى الله عليه و آله: «الجمعة حق على كل مسلم إلّا أربعة.» (4)

و الاستثناء فيه دليل على كونه في مقام بيان حكم الحضور، و المراد بالحق فيه هو الثابت أو حق الله على الناس أو حق الإمام المقيم لها عليهم.

8- ما رواه الشهيد الثاني في رسالة الجمعة مرسلا قال: قال النبي صلّى الله عليه و آله «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلّا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض.» (5)

و الظاهر اتحاده مع سابقه.


1- لم يصرح في المعتبر بمرجع الضمير، و لعل المراد به النبي صلّى الله عليه و آله كما فهمه في الوسائل، و كذا الكلام في الرواية التالية. ح ع- م
2- الوسائل 5- 6 (ط. أخرى 7- 301)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 22.
3- المصدر السابق، الحديث 23.
4- المصدر السابق، الحديث 21.
5- المصدر السابق، الحديث 24، عن رسالة الجمعة للشهيد (المطبوعة مع جملة من رسائله) ص 54.

ص: 26

و لا يخفى أنّ اشتراط إقامة الجمعة بوجود السلطان العادل أو من نصبه كان من واضحات فقه أصحابنا الإمامية إلى عهد الشهيد الثاني، و في عصره شرع فقهاؤنا في تأليف الرسالات باسم رسالة الجمعة و ألغوا فيها الشرط المذكور. و المراسيل التي ذكرت أو تذكر في هذه المسألة أخبار نبوية عامية أخذها أصحابنا من المسانيد المذكورة في كتب العامّة كسنن ابن ماجة و نحوه، فراجع (1).

9- ما رواه أيضا مرسلا. قال: قال النبي صلّى الله عليه و آله في خطبة طويلة نقلها المخالف و المؤالف: «إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله و لا بارك له في أمره. ألا و لا صلاة له، ألا و لا زكاة له، ألا و لا حج له، ألا و لا صوم له، ألا و لا برّ له حتى يتوب.» (2)

كذا في الوسائل و في الرسالة المفصلة للشهيد، و لكن متن الحديث في رسالته المختصرة هكذا: «فمن تركها في حياتي أو بعد موتي و له إمام عادل استخفافا.» (3) و لا يخفى أنّ المتبادر منه إمام الأصل لا مطلق إمام الجماعة، مضافا إلى أنّ الظاهر من الحديث كونه بصدد بيان وجوب السعي و الحضور كما مر في نظائره.

10- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة عن زرارة، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: الجمعة واجبة على من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله إنما يصلّي العصر في وقت الظهر


1- راجع سنن البيهقي 3- 171 و 172 و 183، كتاب الجمعة، و باب من تجب عليه الجمعة، و باب من لا تلزمه الجمعة، و سنن ابن ماجة 1- 343 و 357.
2- الوسائل 5- 7 (ط. أخرى 7- 302)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 28 عن رسالة الشهيد في صلاة الجمعة المطبوعة مع جملة من رسائله ص 61. و راجع سنن ابن ماجة 1- 343، و سنن البيهقي 3- 171، كتاب الجمعة. و فيهما: «و له إمام عادل أو جائر.» و الرواية ضعيفة عندهم أيضا.
3- راجع رسائل الشهيد ص 99.

ص: 27

في سائر الأيّام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله صلّى الله عليه و آله رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، و ذلك سنة إلى يوم القيامة.» و بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير مثله. (1)

و يستفاد من هذه الرواية إنّ إقامة الجمعة ليست بيد كل أحد، و كذلك جميع الروايات الدالة على وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بفرسخين و عدم وجوبه على من بعد بالأزيد كيف و لو لم تشترط بحضور السلطان العادل أو من نصبه و كان لكل أحد عقدها و إقامتها لم يتكلف الناس في تلك الأعصار طيّ الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، و أقل الواجب من الخطبة أيضا يسهل تعلمه لكل أحد، و حمل الروايات على الموارد التي لا يتيسر فيها اجتماع العدد المعتبر أو لا يوجد من يقدر على الإتيان بأقلّ ما يجب في الخطبة حمل للأخبار المستفيضة على الموارد النادرة جدا.

11- ما رواه الصدوق في المجالس عن الحسين بن إبراهيم بن تاتانة (2) عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «صلاة الجمعة فريضة، و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، و لا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّا منافق.» و رواه البرقي في المحاسن عن أبي محمد، عن حماد بن عيسى مثله. و رواه الصدوق أيضا في عقاب الأعمال عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز و فضيل، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام. (3)

.


1- الوسائل 5- 11 (ط. أخرى 7- 307)، الباب 4 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1
2- في تنقيح المقال 1- 315 أسقط كلمة الابن بين إبراهيم و تاتانة. و في ضبط تاتانة أقوال:
3- الوسائل 5- 8 (ط. أخرى 7- 298- 297)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديثان 8 و 12.

ص: 28

و لعل الجملة الأولى ناظرة إلى وجوب الإقامة و الثانية إلى وجوب الحضور، و لكن قوله: «مع الإمام» يدل على أنّ المتصدي لإقامتها هو الإمام، و الظاهر منه إمام الأصل لا إمام الجماعة و إلّا لكان ذكره لغوا، لاستفادته من لفظ الاجتماع، بداهة أنّ المتبادر منه هو الاجتماع للجماعة لا الاجتماع فقط و إن صلّوا منفردين، و ليس قوله: «صلاة الجمعة فريضة» بصدد بيان من يجب عليه عقدها، بل بصدد بيان أصل وجوبه إجمالا، فلا إطلاق له بالنسبة إلى شرطية الإمام أو من نصبه، كما لا إطلاق له بالنسبة إلى سائر الشروط المشكوكة. و لقائل أن يقول: إن ترتيب النفاق على ترك ثلاث جمع لا على ترك صرف الطبيعة يوهن الدلالة على الوجوب أيضا، فتأمّل.

12- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم، عن أبي بصير و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «من ترك الجمعة ثلاث جمع متوالية (بغير علة- عقاب الأعمال) طبع الله على قلبه.» و رواه الصدوق في عقاب الأعمال عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن النظر. و رواه البرقي أيضا في المحاسن عن أبيه، عن النضر. (1)

و الظاهر أنه أيضا بصدد بيان وجوب الحضور و السعي إلى الجمعة المنعقدة بشرائطها لا بيان وجوب الإقامة، إذ من البيّن أنّ سياقه يشبه سياق ذيل الحديث الحادي عشر.

13- ما رواه الشهيد في رسالته من قول النبي صلّى الله عليه و آله: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه.» و رواه أيضا بعبارة أخرى تقرب منه. و رواه المفيد أيضا في المقنعة كذلك. (2)

و الكلام فيه هو الكلام في سابقه.


1- المصدر السابق 5- 5 و 4 (ط. أخرى 7- 299 و 298) و الباب، الحديثان 15 و 11.
2- المصدر السابق 5- 6 (ط. أخرى 7- 302- 301) و الباب، الأحاديث 25 و 26 و 20.

ص: 29

14- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن وهب، عن جعفر عليه السلام أنّ عليا عليه السلام كان يقول: «لأن أدع شهود حضور (1) الأضحى عشر مرات أحبّ إليّ من أن أدع شهود حضور الجمعة مرّة واحدة من غير علّة.» (2)

و كونه في مقام بيان حكم الحضور لا العقد غير خفيّ.

15- ما رواه الشهيد في رسالته مرسلا عن النبي صلّى الله عليه و آله أنه قال: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين.» (3)

و الظاهر أنه أيضا لبيان حكم الحضور كما لا يخفى وجهه.

16- ما رواه الصدوق في المجالس عن الحسين بن إبراهيم بن تاتانة، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن عبد الله بن بكير، قال: قال الصادق عليه السلام: «ما من قدم سعت إلى الجمعة إلّا حرم الله جسدها على النار.» (4)

و لا يخفى عدم دلالة الحديث على الوجوب، مضافا إلى كونه في مقام الحثّ على السعي لا الإقامة.

17- ما رواه فيه بإسناده، قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فسألوه عن سبع خصال، فقال: «أمّا يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأوّلين و الآخرين، فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلّا خفّف الله عليه أهوال يوم القيامة ثم يؤمر به إلى الجنّة.» (5) و الكلام فيه كسابقه.


1- كذا في الوسائل في الموضعين.
2- الوسائل 5- 5 (ط. أخرى 7- 300)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 18.
3- المصدر السابق 5- 6 (ط. أخرى 7- 302) و الباب، الحديث 27.
4- المصدر السابق 5- 3 (ط. أخرى 7- 297) و الباب، الحديث 7.
5- المصدر السابق 5- 4 (ط. أخرى 7- 298) و الباب، الحديث 9.

ص: 30

18- ما رواه في ثواب الأعمال عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه و آله:

من أتى الجمعة إيمانا و احتسابا استأنف العمل.» (1)

و الكلام فيه كسابقه. و معنى الحديث أنّ الآتي بالجمعة يمحى عنه سيئاته و يكون كمن شرع في العمل في أوّل بلوغه.

19- ما رواه في الفقيه بإسناده عن حماد بن عمرو و أنس بن محمد، عن أبيه، جميعا عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبي صلّى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام. قال:

«ليس على النساء جمعة و لا جماعة (إلى أن قال:) و لا تسمع الخطبة.» (2)

20- ما رواه فيه أيضا. قال: و قال الصادق عليه السلام: «ليس على النساء أذان و لا إقامة، و لا جمعة و لا جماعة.» (3)

و دلالة الخبرين على الوجوب على فرض ثبوتها دلالة مفهومية، و كونهما بصدد بيان حكم الحضور لا الإقامة أوضح من أن يخفى.

هذه جملة الروايات من الطائفة الأولى. و قد عرفت أنّ بعضا منها لا تدلّ على الوجوب، و ما تدل عليه إنما سيقت لبيان وظيفة المسلمين بالنسبة إلى الجمعات التي فرض انعقادها بشرائطها و أنه يجب عليهم حضورها و السعي إليها إلّا على الطوائف التسع أو الخمس أو الأربع المستثناة، و ليست بصدد بيان وجوب إقامة الجمعة فضلا عمن تجب عليه الإقامة و ما يشترط في صحتها أو وجوبها. فلا تنافي هذه الأخبار كون الإمام أو نائبه شرطا في الصحة أو الوجوب إذا فرض استفادتها من أدلّة أخرى، كما لا تنافي اشتراطها بالجماعة و العدد الخاصّ و الخطبتين و أن لا يكون بينها و بين مثلها أقل من فرسخ. فتدبّر في المقام فإنه من مظانّ زلل الأقدام.


1- المصدر السابق 5- 4 (ط. أخرى 7- 298) و الباب، الحديث 10.
2- المصدر السابق 5- 3 (ط. أخرى 7- 296) و الباب، الحديث 4.
3- المصدر السابق 5- 3 (ط. أخرى 7- 297) و الباب، الحديث 5.

ص: 31

عناوين جهات البحث في المسألة

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ جهات البحث في المسألة كثيرة فلنشر إليها إجمالا:

الأولى: هل يكون وجوب الجمعة مشروطا بحضور الإمام أو من نصبه أو لا؟

الثانية: على فرض الاشتراط هل تحرم حال الغيبة، أو تكون الفقهاء مأذونين من قبله عليه السلام في إقامتها، أو يشتمل الإذن جميع المؤمنين فلكل أحد منهم عقدها و إقامتها؟ في المسألة وجوه ثلاثة و سيأتي تفصيلها. (1)

الثالثة: على فرض الاشتراط هل يجب على الإمام إقامتها مطلقا أو لا، بل يراعى في ذلك مصالح المسلمين؟

الرابعة: هل يجب عليه أن ينصب في كل بلد من يقيم الجمعة أو لا؟

الخامسة: هل يجب على المنصوب أن يقيمها مطلقا أو يجوز له أن يراعي المصالح؟

السادسة: على فرض وجوب النصب هل يجب نصب خصوص الحاكم لإقامتها أو يجوز نصب غيره؟

السابعة: إذا عيّن الإمام عليه السلام حاكما لبلد فهل يكفي جعل الحكومة له في جواز إقامة الجمعة أو وجوبها، أو هو منصب آخر يحتاج إلى جعل خاص؟

الثامنة: إذا ثبت إذن الإمام عليه السلام للفقهاء أو لجميع الناس في إقامتها فهل يجب على المأذونين إقامتها تعيينا أو لا بل الوجوب على القول به مخصوص بمن نصب؟


1- و هنا وجهان آخران:

ص: 32

التاسعة: هل يترتب على الجمعة المأذون فيها جميع أحكام الجمعة التي يقيمها الإمام أو من نصبه من وجوب حضورها و عدم جواز التخلف عنها إلّا للطوائف المستثناة و سائر الأحكام أو لا بل غاية الأمر صحتها إن وجد شرائطها من العدد و غيره؟

العاشرة: هل يجب على الإمام عليه السلام النصب للأزمنة المستقبلة كزمن الغيبة إذا علم تعذر النصب في تلك الأزمنة أو لا يجب؟

هذه جهات يمكن أن يبحث عنها في المسألة. و العمدة هي الجهتان الأوليان.

و الظاهر أنّ الأقوال في المسألة بحسبهما أربعة:

الأوّل: أن لا يكون الإمام أو من نصبه شرطا أصلا، فيجوز لكلّ واحد من المسلمين إقامتها بل تجب كفاية، و قد حدث و ظهر هذا القول في الإمامية من عهد الصفوية، و قوّاه الشهيد الثاني و الّف فيه رسالة مستقلة، و من هذا الزمان انفتح باب تأليف الرسالة في هذا الموضوع.

الثاني: الاشتراط و عدم الإذن، فتحرم في عصر الغيبة. و به قال ابن إدريس و سلّار و السيّد المرتضى في الميافارقيات، و لعله يظهر من المفيد أيضا كما سيأتي.

الثالث: الاشتراط و كون الفقهاء مأذونين من قبلهم عليهم السلام في إقامتها، و هو المستفاد من بعض عبائر الشيخ «قده».

الرابع: الاشتراط و كون جميع المؤمنين مأذونين في الإقامة، و هو الظاهر أيضا من بعض عباراته.

نقل كلمات الأصحاب

فلنذكر كلمات القوم في المسألة ثم لنشرع في الاستدلال:

1- قال الشيخ في الخلاف (المسألة 397): «من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من يأمره الإمام بذلك من قاضٍ أو أمير و نحو ذلك، و متى أقيمت بغير أمره لم تصح، و به

ص: 33

قال الأوزاعي و أبو حنيفة. و قال محمد: إن مرض الإمام أو سافر أو مات فقدّمت الرعية من يصلّي بهم الجمعة صحت لأنّه موضع ضرورة. و صلاة العيدين عندهم مثل صلاة الجمعة. و قال الشافعي: ليس من شرط الجمعة الإمام و لا أمر الإمام. و متى اجتمع جماعة من غير أمر الإمام فأقاموها بغير إذنه جاز. و به قال مالك و أحمد.

دليلنا: أنه لا خلاف أنها تنعقد بالإمام أو بأمره و ليس على انعقادها إذا لم يكن إمام و لا أمره دليل.

فإن قيل: أ ليس قد رويتم فيما مضى و في كتبكم: أنه يجوز لأهل القرايا و السواد و المؤمنين إذا اجتمع العدد الذي تنعقد بهم أن يصلّوا الجمعة؟

قلنا: ذلك مأذون فيه مرغب فيه فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلّي بهم. و أيضا عليه إجماع الفرقة، فإنّهم لا يختلفون أن من شرط الجمعة الإمام أو أمره.

و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا تجب على أقلّ منهم: الإمام و قاضيه و المدعي حقا و المدعى عليه و الشاهدان و الذي يضرب الحدود بين يدي الإمام.» و أيضا فإنّه إجماع، فإنّ من عهد النبي صلّى الله عليه و آله إلى وقتنا هذا ما أقام الجمعة إلّا الخلفاء و الأمراء و من ولي الصلاة، فعلم أن ذلك إجماع أهل الأعصار. و لو انعقدت بالرعية لصلّوها كذلك.» (1)

2- و قال في النهاية في باب صلاة الجمعة: «الاجتماع في صلاة الجمعة فريضة إذا حصلت شرائطه. و من شرائطه أن يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للصلاة بالناس.»

3- و فيه أيضا: «و لا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر عليهم فيصلّوا جمعة بخطبتين.» (2)


1- الخلاف 1- 626، كتاب الجمعة.
2- النهاية- 103 و 107، باب الجمعة و أحكامها.

ص: 34

4- و في باب الأمر بالمعروف منه: «و يجوز لفقهاء أهل الحق أن يجمعوا بالناس في الصلوات كلّها و صلاة الجمعة و العيدين و يخطبون الخطبتين و يصلّون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضررا، فإن خافوا في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرض لذلك على حال.» (1)

5- و في المبسوط: «فأمّا الشروط الراجعة إلى صحّة الانعقاد فأربعة: السلطان العادل أو من يأمره السلطان و العدد.» (2)

و مراده «قده» بالإجماع المذكور في الخلاف أوّلا هو إجماع الإمامية، و بالإجماع المذكور ثانيا إجماع جميع المسلمين. و يظهر منه عدم الاعتداد بخلاف الشافعي و مالك و أحمد، حيث يعلم بطلان مستندهم، فإنّهم استدلّوا لعدم الاشتراط بأنّ عليا عليه السلام أقامها حين ما حصر عثمان. و قد عرفت الجواب عنه على أصول الفريقين.

6- و في السرائر: «و الذي يقوى عندي صحّة ما ذهب إليه في مسائل خلافه و خلاف ما ذهب إليه في نهاية، للأدلّة الّتي ذكرها من إجماع أهل الأعصار. و أيضا فإنّ عندنا بلا خلاف بين أصحابنا أنّ من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة». (3)

7- و في باب الأمر بالمعروف من المقنعة: «و للفقهاء من شيعة آل محمد صلّى الله عليه و آله أن يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس و صلوات الأعياد و الاستسقاء و الخسوف و الكسوف إذا تمكنوا من ذلك و أمنوا فيه معرّة أهل الفساد». (4)

و لم يذكر «قده» الجمع مع كونه في مقام بيان ما يجوز للفقهاء. و إدخالها في الأعياد بعيد. فيستفاد منه عدم مشروعيتها مع عدم الإمام عليه السلام، كما أفتى به تلميذه


1- المصدر السابق- 302.
2- المبسوط 1- 143، كتاب صلاة الجمعة.
3- السرائر 1- 303، باب صلاة الجمعة و أحكامها.
4- المقنعة- 811.

ص: 35

سلّار و ابن إدريس. و ما توهمه صاحب الحدائق (1) من عدم كونه ممن يشترط في الجمع حضور الإمام أو من نصبه و أذن له، فاسد جدا، إذ لو كان مثله «قده» مخالفا في الفتوى لما عليه جميع أسلافه و معاصريه لصرح بذلك و أصرّ عليه، مع أنّه لم يشر بذلك فضلا عن التصريح. (2)


1- أقول: قال «قده» في باب عمل الجمعة من المقنعة (ص 163): «فرضها وفّقك الله الاجتماع على ما قدّمناه إلّا أنّه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات، يتقدم الجماعة و يخطبهم خطبتين (إلى أن قال:) و الشرائط التي تجب فيمن يجب معه الاجتماع أن يكون حرّا بالغا طاهرا في ولادته مجنّبا من الأمراض: الجذام و البرص خاصة في جلدته مسلما مؤمنا معتقدا للحق بأسره في ديانته مصلّيا للفرض في ساعته. فإذا كان كذلك و اجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع.»
2- أقول: قال «قده» في باب عمل الجمعة من المقنعة (ص 163): «فرضها وفّقك الله الاجتماع على ما قدّمناه إلّا أنّه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات، يتقدم الجماعة و يخطبهم خطبتين (إلى أن قال:) و الشرائط التي تجب فيمن يجب معه الاجتماع أن يكون حرّا بالغا طاهرا في ولادته مجنّبا من الأمراض: الجذام و البرص خاصة في جلدته مسلما مؤمنا معتقدا للحق بأسره في ديانته مصلّيا للفرض في ساعته. فإذا كان كذلك و اجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع.»

ص: 36

9- و قال سلار بن عبد العزيز- تلميذ المفيد- في المراسم: «صلاة الجمعة فرض مع حضور إمام الأصل أو من يقوم مقامه و اجتماع خمسة نفر فصاعدا الإمام أحدهم» 10- و قال في باب الأمر بالمعروف: «و لفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد و الاستسقاء، و أما الجمع فلا.» (1)

11- و في المختلف عن السيد المرتضى في الميافارقيات أنه قال: «صلاة الجمعة ركعتان من غير زيادة عليهما. و لا جمعة إلّا مع إمام عادل أو من نصبه الإمام العادل، فإذا عدم صلّيت الظهر أربع ركعات». (2)

البحث عن جهتين من الجهات في المسألة إذا عرفت ذلك فنقول: جهات البحث في المسألة و إن كانت كثيرة كما أشرنا إليها سابقا لكن المهم هو البحث عن جهتين:

الأولى: هل يشترط في الجمعة حضور السلطان العادل أو من نصبه أو أذن له، أو لا يشترط ذلك بل يجب إقامتها على جميع المسلمين بالوجوب العيني؟

الثانية: على فرض الاشتراط فهل تحرم في حال الغيبة أو يكون الفقهاء أو مطلق المؤمنين مأذونين من قبلهم عليهم السلام في إقامتها؟

الجهة الأولى: هل يشترط في الجمعة اشتراط الإمام أو من نصبه و ما تدلّ على الاشتراط

أمّا الجهة الأولى فالأقوى بل المقطوع به فيها هو الاشتراط، فيكون إقامتها من وظائف الإمام أو من نصبه أو من ثبت له الإذن فيها و لا يجب على كلّ مكلّف


1- المراسم- 72، ذكر صلاة الجمعة، و ص 261.
2- المختلف- 108 (ط. أخرى 2- 251)، الفصل الأوّل من الباب الثالث من أبواب الصلاة، المسألة 147، و رسائل الشريف المرتضى 1- 272.

ص: 37

إقامتها. و لنا على ذلك أمور:

الأوّل: أنّ مقتضى القول بعدم الاشتراط و وجوبها على كلّ أحد مطلقا هو وجوب تعلمها و تعلم خطبتها كفاية على جميع المسلمين في جميع الأعصار و وجوب إقامتها في جميع الأمكنة (من الأمصار و القرى و البوادي النائية المسكونة) في رأس كل فرسخين، فيكون وزانها وزان سائر الصلوات اليومية بحيث يجب على كل مسلم أن يهتم بتعلمها بمزاياها و يسعى في إقامتها بنحو يعاقب الجميع على تركها إذا فرض جهلهم بها.

و من الواضح عدم كونها كذلك و أنّ أصحاب النبي صلّى الله عليه و آله و أصحاب الأئمة عليهم السلام لم يكونوا بصدد تعلمها و لم يكونوا يقيمونها بأنفسهم في قبال النبي و الأئمة.

كيف؟ و لو كان الأمر كذلك لكان عقد الجمعة و إقامتها متداولا بين المسلمين في جميع الأمكنة و الأزمنة، و صار وجوبها كذلك من ضروريات الإسلام كسائر الفرائض و الصلوات اليومية، و اعتاد جميع المسلمين في جميع البلدان على أن يجتمعوا في كل جمعة لإقامتها سواء وجد فيهم من نصب من قبل الخليفة أم لم يوجد، بل لم يكن على هذا للنصب معنى و فائدة.

مع وضوح أنّ عادة المسلمين في أعصار النبي صلّى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام لم تكن كذلك، بل كان رسول الله صلّى الله عليه و آله هو بنفسه يعقد الجمعة و يقيمها و كذلك الخلفاء من بعده حتى أمير المؤمنين عليه السلام، و كان الخلفاء ينسبون في البلدان أشخاصا معينة لإقامتها، و لم يعهد في تلك الأعصار أن يتصدى غير المنصوبين لإقامتها و كان الناس يرون من وظائفهم في كل جمعة حضور الجمعات التي كان يقيمها الخلفاء و الأمراء و المنصوبون من قبلهم، فكان إذا أقبل يوم الجمعة حضرا الخليفة أو من نصبه لإقامتها و اجتمع الناس حوله.

فهذه كان سيرة الخلفاء حتى الأموية و العباسية المقلدة لرسوم الراشدين، و ذاك

ص: 38

كان دأب الناس و ديدنهم في جميع البلدان، و صار هذا الأمر مركوزا في أذهان جميع المسلمين حتى أصحاب الأئمة عليهم السلام، فكان جميع الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام ملقاة إلى الذين ارتكز في أذهانهم كون إقامة الجمعة من خصائص الخلفاء و الأمراء و لم يكن يخاطر ببالهم جواز إقامة سائر الناس لها. فلو كان حكم الله و رأي الأئمة عليهم السلام على خلاف ذلك لكان يجب عليهم بيان ذلك و تكراره و الإصرار عليه و إعلام أصحابهم بأنّه يجب على جميع المسلمين السعي في إقامتها و أنها لا تختص ببعض دون بعض، كما استقر على ذلك سيرتهم عليهم السلام في جميع المسائل التي خالف فيها أهل الخلاف لأهل الحق كمسألتي العول و التعصيب و نحوهما. (1)

و بالجملة لو لم يكن الإمام أو من نصبه شرطا في إقامة الجمعة و كانت إقامتها من وظائف جميع المسلمين لبيّنها النبي صلّى الله عليه و آله و أوصياؤه و صارت من الصدر الأوّل كسائر الفرائض اليومية من ضروريات الدين بحيث يعرفها جميع المسلمين حتى النساء و الصبيان، و كان سكّان كل مصرا و قرية أو بادية يقيمونها في بلدتهم و محلهم


1- لقائل أن يقول: إنّه إنما يجب على الأئمة عليهم السلام إعلام أصحابهم بما هو الحق و الإصرار عليه إذا كان ظهور الحق متوقفا على إعلامهم عليهم السلام، كما إذا اتفق إجماع فقهاء المخالفين و اتفاقهم على خلاف الحق، لا ما إذا لم يتفقوا بل أفتى بعضهم على وفق ما هو الحق. و في مسألتنا هذه و إن أفتى أبو حنيفة بالاشتراط و كون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة لكن جل فقهائهم كالشافعي و مالك و أحمد قد أفتوا بعدم الاشتراط، غاية الأمر أنّ الخلفاء و الأمراء قد ابتزوها و جعلوها من المناصب المختصة لأنفسهم و لم يتمكن غيرهم من إقامتها خوفا منهم، و لأجل ذلك لم يكونوا يقيمونها في بلادهم، و لم يكن من وظائف الأئمة عليهم السلام تعريض أنفسهم لمكافحة خلفاء الجور و أمرائهم مع كون الحق واضحا لأهله.

ص: 39

و لم يكونوا يتحملون مشقة السفر إلى الفرسخين مع القدرة على أقل الواجب، و قد عرفت أنّ السيرة المستمرة قد استقرت على تصدي الخلفاء و الأمراء لإقامتها و على سعي سائر الناس إلى ما انعقدت بتصديهم من دون أن يظهر من الأئمة عليهم السلام إنكار و ردع بالنسبة إلى ذلك.

فهذه السيرة المستمرة بالتفصيل الذي ذكرناه من أقوى الشواهد على كون إقامتها من مناصب الإمام عليه السلام أو من نصبه، و قد مرّ تقرير ذلك ببيان آخر في أوائل المسألة، فراجع.

الثاني من أدلّة الاشتراط: إجماع الإمامية بل المسلمين، كما ادعاهما الشيخ في الخلاف و قد اطلعت آنفا على ذلك و على جلّ أقوال القدماء من أصحابنا و قد أفتوا بالاشتراط في كثير من كتبهم المعدة لنقل أصول المسائل المتلقاة عنهم عليهم السلام، و عرفت أيضا أنّ خلاف الشافعي و مالك و أحمد لا يضرّ بالإجماع للعلم ببطلان مستندهم، فراجع. (1)

الثالث: أنّ وزان الجمعة عندنا وزان صلاة العيدين في الشرائط، و إقامة صلاة


1- و في المعتبر (ج 2 ص 279): «السلطان العادل أو من نصبه شرط وجوب الجمعة و هو قول علمائنا.»

ص: 40

العيدين و إمامتهما من المناصب المختصة بالأئمة عليهم السلام أو من نصب من قبلهم، و إنما تصداها خلفاء الجور و أمراؤهم بتبع غصب مقام الخلافة و الإمامة، فيظهر من ذلك أنّ إقامة الجمعة أيضا من المناصب.

و يشهد لكون إمامة العيدين من مناصبهم المختصة ما رواه الصدوق بإسناده عن حنان بن سدير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «يا عبد الله ما من عيد للمسلمين أضحى و لا فطر إلّا و هو يجدد لآل محمّد صلّى الله عليه و آله فيه حزن.» قال:

قلت: و لم؟ قال: «لأنّهم يرون حقّهم في يد غيرهم». و رواه الصدوق أيضا مرسلا، و رواه الشيخ و الكليني أيضا بإسنادهما عن عبد الله بن دينار، عن أبي جعفر عليه السلام. (1)

الرابع: قول السجاد عليه السلام في ضمن دعائه يوم الأضحى و الجمعة: «اللهم إنّ هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها و أنت المقدر لذلك، لا يغالب أمرك، و لا يتجاوز المحتوم من تدبيرك كيف شئت، و أنّى شئت، و لما أنت أعلم به غير متهم على خلقك و لا لإرادتك حتى عاد صفوتك و خلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلا و كتابك منبوذا و فرائضك محرّفة عن جهات أشراعك و سنن نبيّك متروكة. اللهم العن أعداءهم من الأوّلين و الآخرين و من رضي بفعالهم و أشياعهم و أتباعهم.» (2)

فدعاؤه عليه السلام بهذا الدعاء في يوم الجمعة من أدلّ الدلائل على أنّ إمامة الجمعة أيضا كانت من المناصب المغصوبة بتبع غصب أصل الخلافة.

و لا يخفى أنّ كون الصحيفة من الإمام عليه السلام من البديهيات، و هي زبور آل محمد صلّى الله عليه و آله يشهد بذلك أسلوبها و نظمها و مضامينها التي يلوح منها آثار الإعجاز، و لها أسناد ذكرها الشيخ و النجاشي، و لشارحها السيد عليخان «قده» أيضا سند عن


1- الوسائل 5- 136 (ط. أخرى 7- 475)، الباب 31 من أبواب صلاة العيد، الحديث 1.
2- الصحيفة السجادية، الدّعاء 48.

ص: 41

آبائه، و لنا أيضا سند آخر إليها.

الأخبار الدالّة على اشتراط الإمام أو من نصبه

اشارة

الخامس: طائفة من الروايات، و هي الطائفة الثانية من أخبار الباب كما أشرنا إليها سابقا:

1- ما رواه الصدوق في العيون و العلل عن الفضل بن شاذان: «فإن قال (أي القائل): فلم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين و إذا كانت بغير إمام ركعتين و ركعتين؟ قيل: لعلل شتّى؟ منها: أنّ الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد فأحبّ الله عزّ و جلّ أن يخفّف عنهم لموضع التعب الذي صاروا إليه. و منها: أنّ الإمام يحبسهم للخطبة و هم منتظرون للصلاة و من انتظر الصلاة فهو في الصلاة في حكم التمام. و منها: أنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل لعلمه و فقه و فضله و عدله.

و منها: أنّ الجمعة عيد و صلاة العيد ركعتان و لم تقصر لمكان الخطبتين.

فإن قال: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية و فعلهم و توقيفهم على ما أرادوا من مصلحة دينهم و دنياهم و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق (الآفات- العلل) من الأهوال (و من الأحوال- العلل) التي لهم فيها المضرّة و المنفعة و لا يكون الصابر (الصائر- العلل) في الصلاة منفصلا و ليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة.» (1)

و في العلل و العيون بعد نقل حديث العلل ما حاصله: «حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة


1- الوسائل 5- 15 (ط. أخرى 7- 312)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3، و 5- 39 (ط. أخرى 7- 344)، الباب 25 منها، الحديث 6، عن علل الشرائع- 264، و عيون أخبار الرضا 2- 111.

ص: 42

النيسابوري، قال: قلت للفضل بن شاذان لمّا سمعت منه هذه العلل: أخبرني عن هذه العلل التي ذكرتها من نتائج العقل أو هي مما سمعته و رويته؟ فقال: ما كنت أعلم مراد الله مما فرض، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام مرة بعد مرة و الشي ء بعد الشي ء فجمعتها. فقلت: فأحدثها عنك عن الرضا عليه السلام؟ فقال: نعم». (1)

و دلالة الحديث على كون إقامة الجمعة من مناصب الإمام عليه السلام و من هو سائس المسلمين و زعيمهم بل على كون ذلك أمرا مفروغا عنه مما لا تخفى على أحد.

و فضل بن شاذان النيشابوري من ثقات الطبقة السابعة، و كان في الكوفة يأخذ العلم و الحديث من صفوان و حماد بن عيسى و ابن أبي عمير، و كان عالما متكلما فقيها يناظر المخالفين، روى كتبه محمد بن إسماعيل النيشابوري، و يروي الكليني عنه بواسطة هذا الرجل، و الصدوق عنه بواسطتين.

إشارة إجمالية إلى طبقات رجال الأحاديث

و اعلم أنّ رجال الشيعة الإمامية بل المسلمين بحسب تلمذة بعضهم لبعض تنقسم إلى طبقات، و يراعى في ذلك الغلبة و الكثرة، و يبتدأ بصحابة النبي صلّى الله عليه و آله، فصحابته الآخذون منه كلّهم من الطبقة الأولى. و التابعون الذين أخذوا من الصحابة و تلمذوا لهم طبقة ثانية. و تابعوا التابعين طبقة ثالثة، و الغالب فيه أخذ الحديث من النبي صلّى الله عليه و آله بواسطتين. و تلامذة الطبقة الثالثة طبقة رابعة، و الأغلب في روايتهم عنه صلّى الله عليه و آله وجود ثلاث وسائط، و هو أصحاب الباقر عليه السلام، كزرارة و محمد بن مسلم و أمثالهما. و تلامذة هذه الطبقة طبقة خامسة، و هم أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام، و قد تكثروا من الرواية عن الطبقة الرابعة، منهم: علاء بن رزين، و حريز بن عبد الله، و عمر بن يزيد، و هشام بن سالم، و ربعي بن عبد الله، و عبد


1- العلل- 274، و العيون 2- 121.

ص: 43

الله بن بكير. و تلامذة هذه الطبقة طبقة سادسة، أصحاب الرضا عليه السلام، و منهم مؤلفو الجوامع الأوّلية كعلي بن الحكم، و ابن أبي عمير، و البزنطي، و الحسن بن علي بن فضّال، و الحسن بن محبوب و أمثالهم. و تلامذة هذه الطبقة طبقة سابعة، منهم:

فضل بن شاذان، و الحسين بن سعيد الأهوازي صاحب الكتب الثلاثين، و قد ألّفها بمشاركة أخيه الحسن، و شيوخهما متحدة إلّا في زرعة بن محمد الحضرمي، فإنّ الحسين يروي عنه بواسطة أخيه الحسن. و على هذا الحساب يكون الكليني و ابن أبي عقيل من الطبقة التاسعة، و الصدوق و ابن الجنيد من العاشرة، و المفيد من الحادية عشرة، و شيخنا أبو جعفر الطوسي من الثانية عشرة، و ابن إدريس و ابن حمزة من الخامسة عشرة، و الشهيد الثاني من الرابعة و العشرين، و نحن من السادسة و الثلاثين.

فمن صحابة النبي صلّى الله عليه و آله إلى الشيخ «قده» اثنتا عشرة طبقة، و من ابنه «قده» إلى الشهيد الثاني أيضا هكذا، و من تلامذة الشهيد أيضا إلينا كذلك. و ليعلم أنّ كلّ طبقة تنقسم إلى صغار و كبار، و أنه قد يكون رجل واحد لطول عمره مدركا لطبقتين كالحمادين، فإنّهما من الخامسة و قد أدركا السادسة أيضا. و عليك بالدقة في أسانيد الروايات المروية عن النبي صلّى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام حتى تطلع على طبقات الرواة و بذلك تقدر على تمييز الأسانيد المرسلة بحذف الوسائط، فتتبع. (1)

2- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا تجب على أقلّ منهم:

الإمام و قاضيه و المدعي حقا و المدعى عليه و الشاهدان و الذي يضرب الحدود بين يدي الإمام.» و رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم. (2)


1- و للاطلاع على تفصيل الطبقات راجع «الموسوعة الرجالية» لآية الله العظمى البروجردي «قده» ج 1 ص 111، المقدمة الثانية.
2- الوسائل 5- 9 (ط. أخرى 7- 305)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 9.

ص: 44

و دلالة الحديث على كون إقامة الجمعة من مناصب الإمام واضحة. كيف؟ و لو لم تكن من مناصبه لم يكن لذكر خصوص الإمام و ملازميه سبب. و محط نظره عليه السلام في هذا الحديث هو أنّه لا يشترط في وجوب إقامتها اجتماع جميع الناس أو أكثرهم بل يكفي في وجوبها اجتماع سبعة، و ذكر في مقام البيان أشخاصا لا يخلو منهم مجلس الإمام غالبا و إن لم يجتمع الناس حوله لكونه في سفر أو الجهات أخر. و بالجملة دلالة الحديث على المقصود مما لا تخفى على أحد و إن خفي على مثل صاحب الوسائل.

3- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان و أمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر.» يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة. و رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب. (1)

و لا يخفى أنّ الحديث من حيث السند موثق. و محمّد بن يحيى من الطبقة الثامنة، و قد تكثر الكليني من أخذ الحديث عنه. و محمد بن الحسين من الطبقة السابعة. و عثمان بن عيسى من الطبقة السادسة، نسب إليه الوقف، و روى النجاشي أنّه استبصر (2). و سماعة من الطبقة الخامسة.

و المستفاد من الحديث أنّ المراد بالإمام ليس مطلق إمام الجماعة بل هو إمام خاص يختص به إقامة الجمعة. فالمقصود منه الإمام الأصل أو من نصب من قبله لذلك. و احتمال حمله على كل من يقدر على الخطبة مردود بأنّ أقلّ الواجب من الخطبة إنما يقدر عليه كل من تصدى لإمامة الجماعة. مضافا إلى أنه لو كان إقامة الجمعة واجبة على الجميع و لم تكن من المناصب الخاصة لوجب على الناس تعلم الخطبة و إقامة الجمعة، فلم يكن وجه لتعليق وجوب الركعتين على وجود الإمام.


1- الوسائل 5- 13 (ط. أخرى 7- 310)، الباب 5 منها، الحديث 3، عن الكافي 3- 421.
2- راجع رجال النجاشي- 300، الرقم 817.

ص: 45

فالمراد بالإمام في الرواية هو الذي نصب من قبل زعيم المسلمين لقراءة الخطبة و إقامة الجمعة، و هو المتبادر إلى أذهانهم، حيث إنّ المتداول المعمول عندهم لم يكن إلّا تصدي المنصوبين لها.

و بالجملة المتبادر من لفظ إمام في الحديث هو إمام خاص، و هو الذي فهمه الراوي، حيث فسّره بالإمام الذي يخطب. و السّرّ في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من استقرار السيرة المستمرة على تصدي أشخاص خاصة لإقامتها و قلنا إنّ هذه السيرة بمنزلة القرينة المتصلة للأخبار الصادرة عن الأئمة عليهم السلام.

و يقرب من هذه الرواية المروية عن سماعة روايات أخر عنه:

منها: ما رواه الكليني بالإسناد السابق عن سماعة، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة يوم الجمعة. فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان و أمّا من صلى وحده فهي أربع ركعات و إن صلوا جماعة.» (1)

و منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «صلاة الجمعة مع الإمام ركعتان، فمن صلّى وحده فهي أربع ركعات.» (2)

و منها: ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن قنوت الجمعة. قال: «إنما صلاة الجمعة مع الإمام ركعتان، فمن صلّى مع غير إمام وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر.» (3)


1- الوسائل 5- 16 (ط. أخرى 7- 314)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 8، عن الكافي 3- 421.
2- الوسائل 5- 14 (ط. أخرى 7- 312) و الباب، الحديث 2.
3- المصدر السابق 5- 15 ط. أخرى 7- 313 و الباب، الحديث 6. أقول: الظاهر اتحاد الروايات الأربع المروية عن سماعة و إنّما اختلفت بسبب نقل الرواة عنه. ثم لا يخفى أنّ الموجود في الكافي المطبوع [على الحجر ج 1 من الفروع ص 117] رواية واحدة عن سماعة بالمتن الثاني، و إنما كتب زيادة المتن الأول على المتن الثاني أعني من قوله: بمنزلة الظهر إلى قوله ثانيا: فهي أربع ركعات في الحاشية بعنوان نسخة البدل، و لكن في الوسائل جعلهما روايتين كما ترى، و روى الشيخ أيضا في التهذيب 3- 19 المتن الأوّل بإسناده عن الكليني.

ص: 46

4- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، و محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، و محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عما فرض الله عزّ و جلّ من الصلاة. فقال خمس صلوات (إلى أن قال عليه السلام في قوله تعالى حٰافِظُوا عَلَى الصَّلَوٰاتِ وَ الصَّلٰاةِ الْوُسْطىٰ:) «و نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول الله صلّى الله عليه و آله في سفره فقنت فيها رسول الله و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين. و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلّى الله عليه و آله يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيّام.» و رواها الشيخ و الصدوق أيضا بإسنادهما. (1) و قد رواها الصدوق في باب فرض الصلاة و في باب صلاة الجمعة. و متن الحديث في الموضع الثاني هكذا: «فمن صلّى بقوم يوم الجمعة في غير جماعة.» فأضاف كلمة «بقوم» (2)، و عليه فليس المراد بالجماعة صلاة الجماعة، بل المراد بها جماعة الناس المجتمعة حول الإمام المبسوط اليد أو من نصبه، و يصير دلالة الحديث على كون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة أظهر، فتدبّر.

و ها هنا روايات أخرى متفرقة تدل أيضا على كون إقامة الجمعة من المناصب المختصة بالإمام عليه السلام أو من نصبه، و قد ذكرها في مصباح الفقيه فقال: «كالخبر المروي


1- الوسائل 5- 14 (ط. أخرى 7- 312)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
2- عندي من نسخ الفقيه: النسخة المطبوعة في الهند [و المطبوعة بقم بتصحيح الغفّاري] و نسخة خطية، و لا يوجد فيها كلمة «بقوم» في شي ء من الموضعين، فلعلها كانت موجودة في نسخة الأستاذ مد ظله العالي. ح ع- م.

ص: 47

عن دعائم الإسلام عن علي عليه السلام أنه قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا للإمام أو من يقيمه الإمام.» و المروي عن كتاب الأشعثيات مرسلا: «إنّ الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين.» (1) و عن رسالة الفاضل ابن عصفور مرسلا عنهم عليهم السلام:

«أنّ الجمعة لنا و الجماعة لشيعتنا.» و كذا روي عنهم عليهم السلام: «لنا الخمس و لنا الأنفال و لنا الجمعة و لنا صفو المال.» و النبوي: «أربع إلى الولاة: الفي ء و الحدود و الجمعة و الصدقات.» و نبوي آخر: أنّ الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين.» (2)

أقول: رمية «قده» كتاب الأشعثيات بالإرسال خطأ فإنّ أخبار الأشعثيات و يقال لها الجعفريات أيضا- مستندة يرويها أبو على محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، عن أبي الحسن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام- الساكن في مصر-، عن أبيه إسماعيل، عن آبائه عليهم السلام.

و أمّا كتاب دعائم الإسلام فأخباره مرسلة و مؤلفه أبو حنيفة نعمان بن محمّد المعروف بأبي حنيفة الشيعي. و كان معاصرا للخلفاء الفاطمية و ألف الكتاب لمعز الدين الفاطمي. (3) هذا.

و الأدلة السابقة تغنينا عن التمسك بهذه المراسيل، فعليك بالدقة في تلك الأدلّة.


1- في الأشعثيات المطبوعة (ص 42): «أخبرنا محمد: حدثني موسى: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه أنّ عليا عليه السلام قال:
2- مصباح الفقيه- 438، في الشرائط الأوّل من شروط وجوب الجمعة.
3- راجع «دراسات في المكاسب المحرمة» للمقرر- مدّ ظلّه العالي- ج 1 ص 135 و ما بعدها، و ص 585. فإنّ هناك بحثا مبسوطا حول سند كتاب الدعائم و مؤلّفه، و إشارة إجمالية إلى كتاب الجعفريات و مدى اعتباره.

ص: 48

و ربما يتمسك أيضا لكون إقامة الجمعة من المناصب و عدم كونها واجبة على الجميع بما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام، قال: «لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود.» (1)

و ما رواه أيضا بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، قال: «ليس على أهل القرى جمعة و لا خروج في العيدين.» (2)

و تقريب الاستدلال بهما أنّ الظاهر منهما أنّ الجمعة تختص بالأمصار و قد اتفق أصحابنا على أنّ عنوان المصر أو القرية لا دخالة له في الحكم، فلا محالة يجب أن ينزّل الخبران على الغالب من عدم وجود الإمام أو من نصبه إلّا في الأمصار.

و بالجملة يستفاد منهما أن إقامة الجمعة ليست بيد كل أحد بل هي مما يختص بها سكّان الأمصار، و حيث لا فرق بين المصر و القرية إلّا في أنه يوجد الحاكم في المصر غالبا دون القرية يستفاد منهما أن إقامة الجمعة من وظائف الحكام. هذا.

و لكن لا يخفى أنّ الظاهر حمل الخبرين على التقية، لموافقتهما للمذهب المشهور بين العامة المتداول بينهم عملا، و هو الذي أفتى به أبو حنيفة فخصّ الجمعات بالأمصار دون القرى، فراجع. (3)

و يدل على الاشتراط بالإمام أيضا عدة من أخبار الطائفة الثالثة، كما سيأتي نقلها و شرحها، فانتظر.

و كيف كان ففي ما ذكرناه من الأدلّة كفاية. و لو أغمض عنها فنقول: إنّ آية


1- الوسائل 5- 10 ب ط. أخرى 7- 307، الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 3. و المراد بأحمد بن محمد: أحمد بن محمد بن عيسى، و بمحمد بن يحيى: محمد بن يحيى الخزاز. و في الوسائل المطبوع [قديما]- ج 1، ص 451- أحمد بن محمد بن يحيى عن طلحة. و فيه سقط. ح ع- م.
2- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 4.
3- راجع الخلاف 1- 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.

ص: 49

الجمعة و الأخبار السابقة الدالة على وجوب الجماعة إنما دلّت على وجوب الحضور و السعي إلى الجمعة بعد ما انعقدت صحيحة، و ليست ناظرة إلى حكم إقامة الجمعة فضلا عن شرائطها كما عرفت، فليس لنا في باب إقامة الجمعة إطلاقات يتمسك بها لنفي شرطية إذن الإمام و جواز إقامتها لكل أحد. فمدعي جواز إقامتها بدون إذنه فضلا عن وجوبها يحتاج إلى دليل سوى الآية الشريفة و الأخبار السابقة، فافهم و اغتنم.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية: هل تحرم الجمعة في حال الغيبة؟

و أمّا الجهة الثانية، أعني ثبوت الإذن للفقهاء أو للجميع، أو عدم ثبوته فقد عرفت أنّ الأقوال بحسبها ثلاثة:

الأوّل: الحرمة و عدم ثبوت الإذن، و به قال سلار و ابن إدريس.

الثاني: ثبوت الإذن للفقهاء خاصة، كما يدل عليه كلام الشيخ في باب الأمر بالمعروف من النهاية.

الثالث: ثبوته لجميع المؤمنين، و يدل عليه كلامه في باب الجمعة منه، و قد مرّ جميع ذلك عند نقل الأقوال، فراجع.

و اعلم: أنّ في كلمات الشيخ «قده» في المسألة مناقصة من وجهين:

الأوّل: ما ذكرنا آنفا من القول بالإذن للفقهاء تارة و لجميع المؤمنين أخرى.

الثاني: أنّه ذكر في كتبه أنّ شروط الجمعة على ضربين: أحدهما يرجع إلى من وجب عليه حضورها كالمذكورة و الحرية و نحوهما. و ثانيهما يرجع إلى صحة انعقادها كالسلطان أو من نصبه و العدد و نحوهما. و هذا الكلام بظاهره ينافي الفتوى بالترخيص لأهل القرى في إقامتها كما أفتى به في كتبه الثلاثة: المبسوط و الخلاف و النهاية.

و قد أشار إلى المناقضة الثانية مع جوابها في كتاب الخلاف بقوله: فإن قيل: «أ ليس قد رويتم.» و قد تقدم عند نقل الأقول، فراجع.

ص: 50

و يمكن أيضا أن يجاب عنها بأن السلطان أو من نصبه شرط في صورة التمكن و بسط اليد لا مطلقا. و إلى هذا أشار أبو الصلاح في الكافي، حيث قال: «لا تنعقد الجمعة إلّا بإمام الملّة أو منصوب من قبله، أو بمن يتكامل فيه صفات إمام الجماعة عند تعذر الأمرين.» (1)

و أجاب عنها في جامع المقاصد بأن السلطان أو من نصبه شرط في الوجوب التعييني لا التخييري. (2)

و يرد عليه أنّ هذا مخالف لما ذكره الشيخ، فإنّه جعل السلطان شرطا للانعقاد لا للوجوب التعييني، و لذا ذكره في عداد العدد و الخطبتين.

و يمكن أن يجاب عن هذه المناقضة أيضا بأنّ اشتراط الانعقاد بالسلطان أو من نصبه إنّما هو في الجمعة التي يجب على المؤمنين أن يسعوا إليها، و ذلك لا ينافي جواز إقامتها بدون السلطان أو من نصبه و كونها كافية عن الظهر من دون أن يجب على الناس أن يسعوا إليها.

و يرد على هذا الجواب أيضا أنّه «قده» جعل السلطان شرطا للانعقاد و الصحة، و ظاهره الإطلاق.

هذا ما قيل في الجواب عن المناقضة الثانية.

و أما المناقضة الأولى فيمكن أن يجاب عنها بأنّ مأذونية الفقهاء من قبيل النصب و مأذونية غيرهم من باب الإذن المطلق، فتدبّر.

و بالجملة الشيخ «قده» و إن جعل السلطان أو من نصبه شرطا لكنه يقول بالرخصة في إقامتها حال الغيبة و نحوها.

ما استدلّ بها على الترخيص في إقامتها و الجواب عنها


1- الكافي لأبي الصلاح- 151، فصل في صلاة الجمعة.
2- راجع جامع المقاصد 2- 378، المطلب الأوّل من الفصل الأوّل من المقصد الثالث من كتاب الصلاة.

ص: 51

و يمكن أن يستدل لإثبات الترخيص منهم عليهم السلام بأخبار كثيرة، و هي الطائفة الثالثة من أخبار الباب. و قد تعرض ثلاثة منها لحكم إقامة الجمعة في القرايا، و هي التي أشار إليها الشيخ في عبارة الخلاف كما مرّ:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن السعيد، عن صفوان، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال: سألته عن أناس في قرية، هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال: «نعم، و يصلّون أربعا إذا لم يكن من يخطب.» (1)

2- ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «إذا كان قوم (القوم خ. ل) في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمّعوا إذا كانوا خمس نفر. و إنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين.» (2)

3- ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن صفوان، عن عبد الله بن بكير، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوم في قرية ليس لهم من يجمّع بهم، أ يصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: «نعم، إذا لم يخافوا.» (3)

و تقريب الاستدلال بالأخبار الثلاثة لثبوت الإذن: أنّ الظاهر منها أن الإمام عليه السلام أذن لأهل القرى أن يقيموا الجمعة بأنفسهم إذا كان فيهم من يقدر على الخطبة التي هي شرط في الجمعة، و بعد العلم بعدم دخالة خصوصية القرية في هذا الحكم نحكم بأنّ الملاك في المأذونية عدم التمكن من الإمام أو من نصبه و عدم وجودهما في البلد،


1- هكذا في الوسائل- 5- 10 ط. أخرى 7- 306، الحديث 1 من الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة- نقلا عن الشيخ. و في الاستبصار المصحح- 1- 419، الباب 253- حذف كلمة «نعم» و الواو بعدها. و في التهذيب المطبوع [قديما]- ص 189، باب العمل في ليلة الجمعة و يومها من أبواب الزيادات- ذكر كلمة «نعم» و جعل الواو نسخة. ح ع- م.
2- الوسائل 5- 8 (ط. أخرى 7- 304)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6، 5- 10 (ط. أخرى 7- 306)، الباب 3 منها، الحديث 2.
3- المصدر السابق 5- 26 (ط. أخرى 7- 327)، الباب 12 منها، الحديث 1.

ص: 52

و إنّما ذكر القرية من جهة أنّها مظنة عدم وجودهما غالبا. و رواية ابن بكير و إن كانت ظاهرة في بيان حكم الظهر لكن تحمل الظهر فيها أيضا على الجمعة بقرينة قوله: «إذا لم يخافوا»، فإن الخوف لا يتصور إلّا في إقامة الجمعة التي كان الخلفاء و الأمراء يتصدونها و يرونها من مناصبهم.

أقول: و في الاستدلال بالأخبار الثلاثة نظر، أمّا رواية ابن بكير فلعدم كونها بصدد بيان حكم الجمعة، بل المستفاد منها جواز الإتيان بالظهر جماعة، و لا دلالة لقوله: «لم يخافوا» على إرادة صلاة الجمعة، إذ الخوف يتصور أيضا في إتيان الظهر يوم الجمعة جماعة، حيث إن المسألة كانت مختلفا فيها بينهم: فقال الشافعي:

يجوز لمن فاتت الجمعة أن يأتي بالظهر جماعة، لما دلّ على استحباب الجماعة مطلقا و لأنّه صلّى ابن مسعود بعلقمة و الأسود لما فاتته الجمعة، و اختار أبو حنيفة و مالك كراهة الاجتماع فيها، و فصل أحمد بين المسجد الذي أقيم فيه الجمعة و غيره فكرها في ذلك المسجد. (1) و كان فتوى أبي حنيفة و مالك شائعة بينهم، فكان الإتيان بها جماعة مظنة للخوف.

و أمّا رواية محمّد بن مسلم فيمكن أن يقال: إنّ مفادها أيضا مفاد رواية ابن بكير، بأن يكون المراد بالجمعة فيها صلاة الظهر في يوم الجمعة، و يكون السؤال عن أهل القرية من جهة أنّهم لا يتمكنون غالبا من إقامة الجمعة لعدم وجود الإمام أو من نصب، و يكون قوله: «إذا لم يكن من يخطب» لتنقيح الموضوع لا للاحتراز. فحاصل السؤال أنّه هل يجوز الإتيان بالظهر جماعة في موضع لا يتمكن فيه من الجمعة؟

و حاصل الجواب: نعم، يجوز ذلك و يصلّيها أربعا حيث لم يوجد من يقيم الجمعة و يخطب لها كما هو المفروض في سؤالك.


1- راجع المغني لابن قدامة 2- 199، كتاب صلاة الجمعة، و التذكرة 1- 144 (ط. أخرى 4- 15)، المسألة 379، و المنتهى 1- 336.

ص: 53

فإن قلت: مقتضى مفهوم الشرط أنه يجوز لأهل القربى إقامة الجمعة إذا وجد فيهم من يقدر على الخطبة، و هو المطلوب.

قلت: مضافا إلى أنّ القيد الوارد مورد الغلبة لا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى وَ رَبٰائِبُكُمُ اللّٰاتِي فِي حُجُورِكُمْ (1): إنّه ليس المراد بقوله: «من يخطب» كلّ من يقدر على الخطبة، بل المراد به من كان من شأنه إقامة الجمعة و قراءة الخطبة كالإمام أو من نصبه، إذ الكلام قد ألقي إلى من غرس في ذهنه بحسب السيرة المستمرة التي هي كالقرينة المتصلة كون إقامة الجمعة و قراءة الخطبة من الوظائف لأشخاص معينة، فيتبادر إلى ذهنه من هذا الكلام أنّ أهل القرى يصلّون الظهر أربعا إذا لم يوجد فيهم شرط إقامة الجمعة أعني من يكون إقامة الجمعة و الخطبة من مناصبة و وظائفه. كيف؟

و لو كان المراد به كلّ من يقدر عليها لكان ذكره لغوا، إذ قلّما يفرض من لا يقدر على أقلّ الواجب من الخطبة و لا سيما فيمن يتكلّم بالعربية، و كيف لا يقدر على أقلّ الواجب منها من يؤمّ القوم في القرية و يقيم لهم الجماعة مع أنّ أقلّ الواجب منها لا يزيد على قراءة الصلاة مثلا و هي مما يعرفها و يقدر عليها كلّ مسلم؟

و بهذا البيان يظهر لك الجواب عن رواية البقباق أيضا، حيث علق فيها إقامة الجمعة على وجود من يخطب لهم، و قد عرفت أنّ المراد به من كان قراءة الخطبة من شئونه و مناصبه لا كلّ من يقدر عليها. و قوله: «صلّوا الجمعة أربع ركعات» من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من كون المراد بالجمعة في رواية محمد بن مسلم أيضا هو الظهر لا الجمعة المصطلحة.

فمحطّ النظر في الأخبار الثلاثة بيان حكم واحد، و هو أنّه يجوز الإتيان بصلاة الظهر في يوم الجمعة جماعة إذا لم يوجد شرط إقامة الجمعة و هو الإمام الذي يخطب، و إنّما ذكر عنوان القرية من جهة أنّ الغالب فيها عدم التمكن ممن يقيم


1- سورة النساء (4)، الآية 23.

ص: 54

الجمعة و يخطب لها أعني الإمام أو من نصبه.

و يمكن أن يقال: إنّ سوق رواية البقباق و محمد بن مسلم إنّما هو لبيان جواز إقامة الجمعة في القرية إذا فرض من باب الاتفاق وجود الإمام أو من نصبه فيها.

فالروايتان ناظرتان إلى ردّ أبي حنيفة، حيث اشترط في صحة الجمعة أن تنعقد في الأمصار و حكم ببطلانها في القرى و إن وجد فيها الإمام أو نائبه. (1)

و كيف كان فقوله في هاتين الروايتين: «من يخطب» و في رواية ابن بكير: «من يجمّع بهم» منصرفان بقرينة السيرة المغروسة إلى خصوص من كان من شأنه إقامة الجمعة و قراءة الخطبة لا كلّ من يقدر عليهما، فتدبّر.

و لا يخفى أنّه بالدقة في الروايات الثلاث و لا سيما رواية ابن بكير يعلم أنّ إقامة الجمعة ليست بيد كلّ أحد، و إنّما هي من المناصب التي يختص بها بعض دون بعض، فهي أيضا من الأدلة المتقنة للمسألة السابقة.

و بالجملة قد ظهر لك مما بيناه أنّ دلالة أخبار القرايا على ثبوت الإذن لمن لم يتمكن من الإمام أو من نصبه ممنوعة و إن تمسك بها الشيخ «قده».

4- ما رواه الكشي في رجاله عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن غير واحد من أصحابنا، عن محمّد بن حكيم و غيره، عن محمد بن مسلم، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، عن النبي صلّى الله عليه و آله في الجمعة، قال: «إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمّعوا.» (2)

و الجواب عنه مضافا إلى ضعفه: أنّ كلمة الإمام فيه منصرفة إلى الإمام الأصل.

على أنّ الرواية في مقام بيان العدد المعتبر في الجمعة، و أنّ أقلّه بضميمة الإمام خمسة، و ليست بصدد بيان أنّ كلّ خمسة كيف ما كانت يجوز لها إقامة الجمعة.

5- رواية منصور بن حازم، و هي الثالثة من الطائفة الأولى، و قد مرّت.


1- راجع الخلاف 1- 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.
2- الوسائل 5- 9 (ط. أخرى 7- 306)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 11.

ص: 55

و الجواب عنها أيضا أنّها بصدد بيان أقلّ العدد المعتبر.

6- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن حماد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن عمر بن يزيد (1)، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة، و ليلبس البرد و العمامة، و يتوكأ على قوس أو عصا، و ليقعد قعدة بين الخطبتين، و يجهر بالقراءة، و يقنت في الركعة الأولى منهما قبل الركوع».

و سند الحديث لا بأس به. و محمد بن علي بن محبوب أشعري قمي ثقة، من رجال الطبقة الثامنة. و المراد بالعباس عباس بن معروف القمي الثقة من السابعة، لا عباس بن عامر الذي هو من السادسة. و باقي رجال السند أيضا ثقات، كما لا يخفى على أهل الفنّ.

و لا يخفى أنّ مرجع الضمير في قوله: «كانوا» و في قوله: «و ليلبس» غير مذكور، فلعلّ الأول يرجع إلى قوم خاص وجد لهم شرائط الجمعة، و الثاني إلى من كان من شأنه إقامتها، أعني الإمام أو من نصبه.

هذا مضافا إلى أنّ الحديث ليس في مقام بيان وجوب الجمعة على الجميع أو كون الجميع مأذونين في إقامتها، بل الصدر منه في مقام بيان العدد المعتبر و الذليل في مقام بيان الكيفية التي ينبغي للإمام أن يراعيها، فالاستدلال به للمقام في غير محلّه.

7- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن إسماعيل الجعفي، عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: القنوت يوم


1- هكذا سند الحديث في الاستبصار المصحح- ج 1 ص 418، الباب 252- و في التهذيب [المطبوع على الحجر]- ج 1 ص 191- و في البابين 2 و 24 من أبواب صلاة الجمعة من الوسائل- ج 5 ص 9 و 38 (ط. أخرى 7- 305 و 341)، الحديثان 10 و 2-، و لكن في الباب 6 منه- ج 5 ص 15 (ط. أخرى 7- 313)، الحديث 5- ذكر الحسين بن سعيد بدل محمد بن علي بن محبوب، فراجع. ح ع- م.

ص: 56

الجمعة؟ فقال: «أنت رسولي إليهم في هذا، إذا صلّيتهم في جماعة ففي الركعة الأولى، و إذا صلّيتم وحدانا ففي الركعة الثانية.» و رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبان. (1)

8- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في خطبة يوم الجمعة: الخطبة الأولى: الحمد لله نحمده و نستعينه (إلى أن قال بعد خطبة طويلة:) «ثم اقرأ سورة من القرآن و ادع ربّك و صل على النبي صلّى الله عليه و آله و ادع للمؤمنين و المؤمنات ثم تجلس قدر ما تمكن هنيئة ثم تقوم فتقول: «الحمد لله نحمده و نستعينه» (إلى أن قال بعد خطبة طويلة:) «ثم تقول: اللهم صلّ على أمير المؤمنين و وصيّ رسول ربّ العالمين، ثم تسمي الأئمة حتى تنتهي إلى صاحبك، ثم تقول: «اللهم افتح له فتحا يسيرا و انصره نصرا عزيزا» (إلى أن قال:) «و يكون آخر كلامه أن يقول: إنّ الله يأمر بالعدل و الإحسان. الآية». (2)

و لا يخفى أنّ الضمائر في الحديث بعضها بنحو الخطاب و بعضها بنحو الغيبة، و الخطاب فيها أكثر، و لا محالة يكون المخاطب بها محمد بن مسلم.

و تقريب الاستدلال بالخبرين هو أنّ المستفاد منهما كون إقامة الجمعة متداولة بين أصحاب الأئمة عليهم السلام مع كون الخلافة الظاهرية بأيدي خلفاء الجور، فيستفاد من ذلك عدم الاحتياج إلى الإذن، أو كون الشيعة مأذونين من قبلهم عليهم السلام في إقامتها.

أقول: نعم، يستفاد منهما بل من خلال بعض الأخبار الأخر أيضا: أنّه كان في عصر الأئمة عليهم السلام و زمن كون الخلافة الظاهرية بأيدي خلفاء الجور تنعقد جمعة ما بين الشيعة الإمامية غير جمع المخالفين، و لكنها هل كانت من جهة نصبهم بالخصوص أو الإذن العامّ


1- الوسائل 4- 903 (ط. أخرى 6- 271)، الباب 5 من أبواب القنوت، الحديث 5.
2- المصدر السابق 5- 38 (ط. أخرى 7- 342)، الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1، عن الكافي 3- 422.

ص: 57

لجميع الشيعة أو عدم اشتراطها بإذن الإمام أصلا؟ فيه وجوه و الأخبار ساكتة عن بيان ذلك، فيحتمل عدم الاشتراط، و يحتمل كون أشخاص معينة منصوبين من قبلهم عليهم السلام لإقامتها، و يحتمل ثبوت الإذن لهم بما هم فقهاء و يترتب عليه عموم الإذن لجميع فقهاء الشيعة، و يحتمل ثبوت الإذن لهم بما أنّهم مؤمنون فيعم جميع المؤمنين.

و بالجملة رواية ابن مسلم و نظائرها مجملة، و الاحتمالات المتصورة فيها أربعة، فلا تدلّ على ثبوت الإذن العامّ لجميع فقهاء الشيعة- كما أفتى به الشيخ في بعض عباراته- أو لجميع المؤمنين- كما أفتى به أيضا في بعض العبائر- و الظاهر أنّه «قده» متفرد بهذين الفتويين بين القدماء من أصحابنا لما عرفت من اختيار السيد المرتضى و سلار و ابن إدريس و المفيد (على احتمال) حرمة الإقامة إذا لم يوجد الإمام أو من نصبه.

فهذه ثمانية أخبار لا دلالة لواحد منها على ثبوت الإذن العامّ.

9- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن زرارة، قال: حثّنا أبو عبد الله عليه السلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: «لا، إنّما عنيت عندكم.» (1)

و الرواية صحيحة من حيث السند: فالحسين بن سعيد الأهوازي ثقة من الطبقة السابعة، و ابن أبي عمير ثقة من الطبقة السادسة، و هشام بن سالم ثقة من الطبقة الخامسة، و زرارة فقيه ثقة من الطبقة الرابعة. و قد مرّ منا إشارة إجمالية إلى طبقات رجال الشيعة، فراجع.

و تقريب الاستدلال بها أنّ الظاهر منها أنّه عليه السلام أذن لشيعته في إقامة الجمعة عندهم، و لم يعيّن لإمامتها بعضا منهم بالخصوص حتى تختص به و يتعين على الباقين الحضور و المأمومية، كما هو المتعين عليهم إذا أقامها الإمام أو من نصبه، فيدل الحديث على كونهم مأذونين في إقامتها و أنّ لكلّ منهم إقامتها، فهو إذن عمومي لهم بما إنّهم فقهاء أو بما أنّهم مؤمنون، و هو المطلوب.


1- المصدر السابق 5- 12 (ط. أخرى 7- 309)، الباب 5 منها، الحديث 1.

ص: 58

أقول: و في استدلال بها للترخيص العمومي نظر، لكونها مجملة، حيث يتطرق إليها بالنظر البدوي احتمالات كثيرة:

الأول: أن يكون مقصوده عليه السلام الترغيب في حضور جمعات المخالفين لئلا يظهر مخالفة الأئمة عليهم السلام و شيعتهم لخلفاء الوقت و عمّالهم، و قد صدر عنهم عليهم السلام الحثّ و التحريص على حضور جماعاتهم أيضا لذلك، كما لا يخفى على من تتبع روايات باب الجماعة. (1)

الثاني: أن يكون المقصود ترغيبهم في حضور الجمعات التي كان يقيمها المنصوبون من قبل الأئمة عليهم السلام، إذ من المحتمل كون أشخاص معيّنة منصوبين من قبلهم لإقامتها في بعض الأمكنة.

الثالث: أن يكون المقصود حثّهم على حضور بعض جمعات المخالفين الواجدة للشرائط المعتبرة عندنا.

قال المفيد و الشيخ و القاضي ما حاصله: «أنّ الجائر إذا نصب أحدا من الشيعة لأمر مثل القضاء و نحوها من المشاغل السياسية و كان يمكنه العمل بما يقتضيه المذهب وجب له القبول و العمل بمقتضى المذهب الحق، و يقصد فيما يأتي به النيابة عن الإمام عليه السلام.» (2)

و على هذا فلو كان في المنصوبين من قبل الخلفاء مثل هذا الشخص أمكن القول بصحة جمعته و أنّه يجب على الشيعة حضورها. فلعلّ المقصود في الحديث حثّ الشيعة على حضور الجمعة التي يقيمها مثل هذا الشخص.

فإن قلت: يبعّد الاحتمالين الأخيرين ترك مثل زرارة للحضور، إذ مثله لا يترك حضور الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط المعتبرة عند الشيعة.

قلت: لعلّ الحثّ بملاحظة تساهل بعضهم في الحضور أو بسبب اعتقادهم عدم


1- راجع المصدر السابق 5- 381 (ط. أخرى 8- 299)، الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة.
2- راجع المقنعة- 812، و النهاية- 301، و المهذّب 1- 342 (في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر).

ص: 59

وجوب الحضور إذا لم يكن الإمام عليه السلام مبسوط اليد و إن انعقدت جمعة صحيحة.

الرابع: أن يكون الإمام عليه السلام بصدد بيان عدم اشتراط الإمام أو من نصبه في إقامتها و عدم كونها من المناصب، فيكون هذا الحثّ منه عليه السلام لردع زرارة و أمثاله عما توهموه- بسبب السيرة المستمرة- من كون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة.

الخامس: أن يكون نفس هذا الكلام منه عليه السلام نصبا أو إذنا لهم: إمّا بأن يكون نصبا لأشخاص معيّنة خاطبهم بكلامه، أو بأن يكون إذنا لهم بما أنّهم فقهاء فيعم جميع فقهاء الشيعة، أو بأن يكون إذنا لهم بما أنهم مؤمنون فيعم جميع المؤمنين.

فهذه خمسة احتمالات في الرواية، و بحسب شقوق الخامس منها تصير المحتملات سبعة و إن بعد بعضها. فالرواية مجملة، حيث إنّها رواية في واقعة شخصية، و لا نعلم خصوصيات الوقت و الحضّار، و من المحتمل جدا تمكنهم من الجمعات التي كان يقيمها المنصوبون من قبلهم عليهم السلام أو من بحكمهم. فالاستدلال بها الثبوت الترخيص و الإذن لجميع الفقهاء أو المؤمنين في غير محله. و بالجملة ما يفيد لعصر الغيبة هو الاحتمال الرابع و السادس و السابع، و إثباتها من بين المحتملات السبعة مشكل، فتدبّر. (1)


1- لقائل أن يقول: إن الاحتمال الخامس بشقوقه ضعيف، إذ الظاهر من لفظ الحثّ وقوعه بالنسبة إلى أمر متروك مع تمكن التارك من فعله و كونه حسنا منه مع قطع النظر عن هذا الحث، فلا يمكن أن يقال: إن نفس هذا الكلام منه عليه السلام نصب أو إذن في الإقامة بعد فرض الاشتراط، إذ مقتضى ذلك حصول التمكن منها بنفس هذا الكلام و هو خلاف ظاهر الحث كما عرفت.

ص: 60

و ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: لا يخفى أنّ الاحتمال الرابع إنّما يتطرق إلى الرواية بالنظر البدوي، و أمّا بعد الدقة في سياقها و مفادها فيظهر بطلانه، بل الرواية من أدلّ الدلائل على أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه كان أمرا واضحا مفروغا عنه بين أصحاب الأئمة عليهم السلام مركوزا في أذهانهم بنحو لا يشوبه ريب و لا شك، فإنّ الظاهر من الحديث أنّ مثل زرارة لم يكن يواظب على فعل الجمعة بل كان يتركها مع كونه قادرا على إقامتها مع نفر يسير من أصحابه على وجه يأمن الضرر، فيظهر من ذلك أنّ الجمعة لم تكن مثل الصلوات اليومية من الواجبات العينية التعيينية بالنسبة إلى جميع المسلمين و إلّا لم يختف على أمثال زرارة. و كيف يمكن أن يقال إنّ صلاة الجمعة كانت من الواجبات العينية التعيينية و لو مع عدم كون الإمام مبسوط اليد و كان مثل زرارة تاركها لها إلى عصر الصادق عليه السلام لاختفائه عليه؟ مع أنّه كان قبل ذلك من أصحاب أبي جعفر الباقر عليه السلام و من خواصه و ملازميه و كان يعدّ من فقهاء الشيعة.

و بالجملة الحديث من أقوى الشواهد على ما ذكرناه سابقا من أنّ اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه كان أمرا مركوزا في أذهان المسلمين من جهة أنّهم كانوا يرون من عهد الصغر إلى الكبر أنّ الخلفاء و الأمراء هم الذين يتصدون لإقامتها دون غيرهم من آحاد المسلمين من غير فرق بين الخلفاء الراشدين و غيرهم، و قد ارتكز هذا الأمر في ذهن زرارة أيضا و لذلك تراه بعد ما حثّهم الإمام عليه السلام على الجمعة و كان من معتقداته أيضا عدم لياقة الجائرين لمقام الخلافة انسبق إلى ذهنه من حثّ الإمام عليه السلام أنّه يريد الخروج على الخلفاء و القيام بوظائف الإمامة التي منها إقامة الجمعة و أنه

ص: 61

يحثّهم على أن يأتوه و يتجمعوا حوله فقال مستعجبا: «نغذو عليك؟» فإن قلت: إن كان إقامة الجمعة من المناصب المختصة و كان إقامتها من قبل الشيعة إعلانا للمخالفة مع خلفاء الجور و مساوقا للخروج عليهم فلم حثّ الإمام عليه السلام مثل زرارة على إقامتها؟

قلت: لعلّ مراده عليه السلام حثّهم على إقامتها خفاء أو في بعض القرى القريبة ليدركوا فضل الجمعة و يحرزوا ثوابها، لا إقامتها علنا و جهارا. هذا مضافا إلى أنّه لا دليل على أنّ الحثّ منه عليه السلام وقع بلحاظ إقامة الجمعة، بل لعلّه حثّهم على حضور الجمعات التي كان يقيمها المخالفون أو بعض المنصوبين من قبل الأئمة كما مرّ بيانه.

فإن قلت: لو كان المنصوب من قبل الإمام عليه السلام موجودا لم ينسبق إلى ذهن زرارة أنّه عليه السلام يريد الخروج بنفسه.

قلت: لعلّ زرارة كان يظنّ أنّ الجمعة التي يقيمها المنصوبون لا تكون بمثابة من الأهمية بحيث يصدر بالنسبة إليها هذه الترغيبات و التحريصات، و لا سيما مع عدم كون الإمام مبسوط اليد، فظنّ أنّ هذه التحريصات لحضور جمعة أهمّ من تلك الجمع، و حيث كان معتقدا لبطلان جمع المخالفين أيضا انسبق إلى ذهنه أنّه عليه السلام يريد بنفسه الخروج و التصدي لإقامتها.

و الحاصل: أنّه بالدقّة في الحديث يستفاد منه أنّ زرارة أيضا لم يفهم من حثّ الإمام عليه السلام على الجمعة عدم اشتراطها بالإمام أو كونه عليه السلام بصدد الإذن في إقامتها، بل لمّا كان في ارتكازه كون إقامتها من المناصب المختصة بإمام المسلمين و عمّا له و أنّ سائر المسلمين وظيفتهم الحضور و المأمومية فقط، و كان في اعتقاده أيضا أنّ الإمامة حق لأبي عبد الله عليه السلام، ظنّ أنّه عليه السلام يريد الخروج و أنّه يحثّهم على الحضور و التجمع حوله، فقال: «نغدو عليك؟» و لا نسلّم أنّ قول الإمام في جوابه: «أنّما عنيت عندكم» ردع له عن هذا الارتكاز، إذ الاحتمالات المتطرقة إليه كثيرة كما عرفت، و من

ص: 62

المحتمل أنه عليه السلام أقرّهم على هذا الارتكاز و أن وظيفتهم الحضور و المأمومية فقط، و لكنه نفى بكلامه هذا إرادة الخروج على الخلفاء و إقامة الجمعة بنفسه، و يكون قوله:

«عندكم» إشارة إلى الجمعات التي كان يقيمها المخالفون أو المنصوبون من قبل الأئمة عليهم السلام بمرآهم.

و كيف كان فالاستدلال بالحديث الشريف لعدم اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه، أو ثبوت الترخيص من الإمام عليه السلام بالنسبة إلى فقهاء الشيعة أو جميع المؤمنين في غير محله بعد ما يتطرق إليه احتمالات كثيرة، فافهم و اغتنم.

ثم لا يخفى أنّ الاحتمال الرابع في الحديث يرد عليه مضافا إلى ما عرفت: أنّه مخالف للإجماع على اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه كما عرفت ادعاءه من الشيخ و غيره. (1)

الأمر الثاني أنّه لو فرض دلالة الحديث على جواز عقد الجمعة في عصر الغيبة كما هو مقتضى الاحتمال الرابع و السادس و السابع من المحتملات السبعة فغاية ما يدلّ عليه هو الصحّة و الجواز، و أمّا وجوب إقامتها أو وجوب السعي إليها على فرض انعقادها فلا يدلّ الحديث عليهما، إذ غاية ما يستفاد من الحثّ مطلق الرجحان دون خصوص الوجوب لو لم نقل بظهور الحثّ في خصوص الندب. و من المحتمل كون وجوب الإقامة و وجوب السعي إلى الجمعة مشروطين بوجود الإمام أو من نصبه لذلك بالخصوص.

10- من الأخبار التي استدلّ بها على الترخيص ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن بكير، عن عمّه زرارة بن أعين، عن أخيه عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال: «مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها الله.» قال: قلت:


1- اللهم إلّا أن يقال إنّ القدر المتيقن من الإجماع على الاشتراط هو صورة كون الإمام مبسوط اليد. ح ع- م.

ص: 63

كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة.» يعني صلاة الجمعة. (1)

و محمد بن علي بن محبوب من كبار الطبقة الثامنة ثقة جليل، و العباس ثقة من السابعة، و ابن المغيرة ثقة من السادسة، و ابن بكير فطحي ثقة من الخامسة، و زرارة فقيه ثقة من الرابعة؟ و أمّا أخوه عبد الملك ففي وثاقته بل في تشيعه خلاف، فراجع. (2)

و قوله: «يعني صلاة الجمعة» ليس من كلام الإمام عليه السلام، بل هو من كلام عبد الملك أو أحد الرواة الأخر. فليست الرواية صريحة بل و لا ظاهرة فيما نحن بصدده. و لو سلّم فنقول: إنّ الظاهر عدم كون كلام الإمام عليه السلام في الرواية كلاما ابتدائيا، بل الظاهر من السياق أنّه كان بينه عليه السلام و بين عبد الملك مكالمات من قبل، و لعلّه كان بين تلك المكالمات قرينة استفاد منها عبد الملك كون المراد بالجماعة:

الجمعة، و بعد ما لم يجعل كلام الإمام عليه السلام في الرواية ابتدائيا انهدم أركان الاستدلال بها للترخيص العمومي، إذ من المحتمل كون المكالمات القبلية راجعة إلى ترك حضور الجمعة مع وجود المنصوب أو المأذون له من قبل الإمام عليه السلام، و ليس في الحديث اسم من إقامة عبد الملك إيّاها، فلا تدل الرواية على عدم اشتراط الجمعة بالإمام و لا على كون جميع الفقهاء أو جميع المؤمنين مأذونين في إقامتها. هذا مضافا إلى أنّه حيث لم يعلم تشيع عبد الملك فمن المحتمل أنّه كان تاركا لحضور جمعات المخالفين، مع صحتها بمذهبه، فوبّخه الإمام عليه السلام على توانيه و تساهله في أداء الفرائض الدينية. و من المحتمل أيضا صدور هذا الكلام من الإمام عليه السلام تقية، بأن كان في محضره عدّة من المخالفين فاقتضى وضع المجلس صدور هذا التوبيخ


1- الوسائل 5- 12 (ط. أخرى 7- 310)، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.
2- راجع تنقيح المقال 2- 228.

ص: 64

منه عليه السلام بالنسبة إلى عبد الملك.

و الحاصل: أنّه بعد ما أثبتناه بالأدلة السابقة اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه لا يمكن استفادة الإذن العمومي في إقامتها بالكلام الواقع بين الإمام عليه السلام و بين عبد الملك مع عدم الإحاطة بأحوال عبد الملك و الخصوصيات المحفوفة بالكلام و تطرق احتمالات كثيرة إليه، فتدبّر.

ثمّ إنّه هل يكون المراد بقوله: «و لم يصلّ فريضة» تركه للجمعة دائما و عدم إتيانه بها و لو دفعة واحدة مدة عمره، أو تركه لها و لو كان الترك في جمعة واحدة مدة عمره؟ فيه وجهان، و لعلّ المراد هو الأوّل، فيكون اللوم على ترك هذه الفريضة مدة عمره لا على ترك كلّ جمعة.

11- ما رواه في الفقيه بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال «قده»- بعد ما روى حديثا عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام-: «و قال زرارة: قلت له:

على من تجب الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين. و لا جمعة لأقلّ من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم.» (1) (2)

و قد تفرد الصدوق «قده» بنقل الرواية. و هذه الرواية من أقوى الأدلّة التي يمكن


1- قال في آخر الفقيه- 4- 425-: «و ما كان فيه عن زرارة بن أعين فقد رويته عن أبي- رضي الله عنه-، عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عيسى بن عبيد و الحسن بن ظريف و علي بن إسماعيل بن عيسى، كلّهم عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين. و كذلك ما كان فيه عن حريز بن عبد الله فقد رويته بهذا الإسناد. و كذلك ما كان فيه عن حماد بن عيسى.» و على هذا فالرواية صحيحة كما لا يخفى على أهله. ح ع- م.
2- الوسائل 5- 8 ط. أخرى 7- 304، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4، و 5- 13 ط. أخرى 7- 310، الباب 5، الحديث 4، عن الفقيه 1- 411- 409، الحديثان 1220- 1219، باب وجوب الجمعة.

ص: 65

أن يستدلّ بها القائل بكون إقامة الجمعة واجبة علينا في عصر الغيبة، إمّا بأن لا تشترط بالإمام فتكون من الواجبات العينية التعيينية بالنسبة إلى جميع المسلمين، أو بأن يثبت بها الترخيص و الإذن العامّ و يجب معه إقامتها.

و تقريب الاستدلال بها أنّ السؤال فيها أولا إنّما هو عمن تجب عليه الجمعة لا عن مطلق من تصح عنه و إن لم تجب عليه، و ظاهر الجواب فيها أنّ اجتماع السبعة شرط للوجوب و اجتماع الخمسة شرط للصحة و الجواز. و على هذا فقوله: «أمّهم بعضهم» يجب أن يحمل على الوجوب لا على مطلق الرخصة و الجواز، لكونه معلقا على اجتماع السبعة و قد جعل اجتماع السبعة في صدر الحديث شرطا للوجوب لا للصحة، فالمستفاد من ذيل الحديث أنّه كلّما اجتمع سبعة من المسلمين وجب عليهم أن يقيموا الجمعة بأن يؤمّهم بعضهم و يقتدي به الباقون. و لو سلّم عدم دلالته على الوجوب فلا أقلّ من دلالته على ثبوت الإذن لعموم الشيعة في إقامتها.

فإن قلت: الاستدلال به متوقف على أن يكون المراد بالبعض الذي يؤمّهم أيّ بعض كان، و لا نسلم ذلك، فلعلّ المراد في ذيل الحديث أنّه إذا اجتمع سبعة فوجد شرط الجمعة من حيث العدد أمّهم البعض الخاصّ الذي وظيفته إقامة الجمعة و قراءة الخطبة أعني الإمام أو من نصبه. و يؤيد ذلك قوله قبل ذلك: «أحدهم الإمام.» بداهة انصرافه إلى الإمام الأصل لا مطلق إمام الجماعة. هذا مضافا إلى أنّه لمّا ارتكز في أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام بحسب السيرة المستمرة كون إقامة الجمعة و قراءة خطبتها من الوظائف و المناصب لأشخاص معينة، فلا محالة كان المنسبق إلى أذهانهم من قوله عليه السلام: «أمّهم بعضهم» البعض الخاصّ الذي عيّن لإقامة الجمعة لا أيّ بعض كان.

قلت: الظاهر من قوله: «أمّهم بعضهم» مطلق البعض، لا البعض الخاص المنصوب لإقامة الجمعة. و يدلّ على ذلك قوله: «لم يخافوا.» إذ الخوف لا يتصور

ص: 66

لسلطان المسلمين و من نصب من قبله. فيكون المراد الإذن العمومي للشيعة في إقامة الجمعة بأنفسهم إذا لم يخافوا و أمنوا ضرر المتصدين لإقامتها من قبل خلفاء الجور.

و لفظ الإمام و إن سلم كونه في سائر الموارد منصرفا إلى الإمام الأصل إلّا أنّ المتبادر منه في هذه الرواية بقرينة الذيل مطلق إمام الجماعة التي هي شرط في انعقاد الجمعة، و إنّما ذكر لدفع توهّم أن يكون المراد بالسبعة المعتبرة غير الإمام حتى يصير العدد معه ثمانية.

هذه غاية ما يمكن أن يذكر في تقريب الاستدلال بالرواية لوجوب إقامة الجمعة أو جوازها في عصر الغيبة.

أقول: يرد عليه أوّلا ما أشير إليه آنفا من أنّ السيرة المستمرة على كون إقامة الجمعة من وظائف أشخاص معينة بمنزلة القرينة المتصلة للحديث، فينصرف البعض فيه إلى بعض الخاص الذي يكون إقامة الجمعة و قراءة الخطبة من وظائفه و مناصبه، و لا أقلّ من الاحتمال، فيبطل معه الاستدلال. و لا دلالة لقوله: «لم يخافوا» على إرادة مطلق البعض، إذ لعل المراد بالبعض الإمام بالحق أو من نصبه، و أئمة الحق و شيعتهم كانوا في خوف و تقية من أيدي خلفاء الجور و عمّالهم. (1)

و ثانيا أنّه من المظنون جدا أن يكون من قوله: فإذا اجتمع سبعة، إلى آخره من كلام الصدوق و فتاويه، و قد استفاده و استنتجه من مجموع روايات الباب و ذكره في


1- أقول: و مما يشهد لعدم دلالة هذه الرواية و لا رواية عبد الملك السابقة على وجوب إقامة الجمعة على الجميع أنّ راوي هذه الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام هو زرارة، كما أنّ زرارة أيضا هو الذي روى الرواية السابقة عن أخيه عبد الملك عن أبي جعفر عليه السلام، و مع ذلك لم يفهم هو مع كونه فقيها- من هاتين الروايتين وجوب الجمعة، و كان تاركا لها إلى عصر الصادق عليه السلام، كما يدلّ عليه قوله في الحديث التاسع: حثنا أبو عبد الله عليه السلام على صلاة الجمعة- إلخ- فتدبّر. ح ع- م.

ص: 67

ذيل رواية زرارة، كما هو دأبه كثيرا في كتابه هذا، حيث جرت عادته في هذا الكتاب على ذكر فتاويه عقيب الروايات من غير أن يذكر ما يدلّ على انتهاء الرواية، كما لا يخفى على من راجع الفقيه. و قد سبقنا إلى هذا الاحتمال بعض آخر، منهم بحر العلوم «قده» (1)، بل في حواشي الفقيه المطبوع بهند أنّ من قوله: و لا جمعة لأقلّ، إلى آخره «لعلّه من كلام المؤلف». (2)

و مما يؤيد هذا الاحتمال أيضا أنّ المحقّق و العلّامة و الشهيد لم يذكروا هذه الرواية- مع قوة دلالتها- في عداد ما استدلّوا بها على وجوب الجمعة في عصر الغيبة تخييرا أو تعيينا. و لعلّه ذكر لهم شيوخهم أنّ الذيل ليس من تتمة الرواية.

و من أقوى الشواهد على كون الذيل من فتاوى الصدوق «قده» أنه ذكر هذه العبارة بعينها في كتاب هدايته بنحو الفتوى:

قال في الهداية ما هذا لفظه: «باب فضل الجماعة. فرض الله عزّ و جلّ من الجمعة إلى الجمعة خمس و ثلاثون صلاة، فيها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة، و هي الجمعة. (إلى أن قال:) و من صلّاها وحده فليصلّها أربعا كصلاة الظهر في سائر الأيّام. فإذا اجتمع يوم الجمعة سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم. فالخطبة بعد الصلاة، لأنّ الخطبتين مكان الركعتين الأخريين، فأوّل من خطب قبل الصلاة عثمان. (إلى أن قال:) و السبعة الذين ذكرناهم هم الإمام و المؤذّن و القاضي و المدعي حقا و المدعى عليه و الشاهدان.» (3)

و لا يخفى أنّ تفسيره «قده» للسبعة يدلّ على كونه ناظرا إلى رواية محمد بن


1- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 3- 76، في الشرط الثاني من شرائط وجوب الجمعة.
2- هذا الكلام من الفاضل التفرشي، المولى مراد بن عليخان «قده» في حاشيته على الفقيه، كما في هامش الفقيه المطبوع بقم ج 1 ص 412.
3- الجوامع الفقهية- 52.

ص: 68

مسلم السابقة (الثانية من الطائفة الثانية) التي كانت ظاهرة في كون إقامة الجمعة من وظائف الإمام أو من نصبه. فمراده «قده» بالإمام في كلامه: الإمام الأصل، لا مطلق إمام الجماعة. و بذلك يظهر أنّه «قده» أراد بالبعض في قوله: «أمّهم بعضهم» أيضا البعض الخاصّ، لا أيّ بعض كان. و ذكره للمؤذّن بدل من يضرب الحدود لعلّه وقع منه اشتباها. كما أنّ القول بكون الخطبتين في الجمعة بعد الصلاة أيضا من متفرداته و اشتباهاته، كما لا يخفى.

و بالجملة احتمال كون ذيل الحديث من فتاوى الصدوق مما يقرب جدا بعد ما ذكرناه من المؤيدات و الشواهد، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

هذه أحد عشر حديثا ربّما يستدلّ بها على ثبوت الترخيص من الأئمة عليهم السلام في إقامة الجمعة في هذه الأعصار. و قد عرفت عدم تمامية الاستدلال بها، فتدبّر جيدا.

ص: 69

فذلكة

قد ذكرنا أنّ الأخبار التي يستدلّ بها على وجوب الجمعة ثلاث طوائف:

فالطائفة الأولى منها تدلّ على وجوب الجمعة ثلاث طوائف:

فالطائفة الأولى منها تدلّ على وجوب الحضور و السعي إلى الجمعة بعد ما أقيمت و انعقدت بشرائطها. و لا دلالة لواحدة منها على وجوب الإقامة فضلا عن شرائطها و تعيين من يتصداها. و غاية دلالة آية الجمعة أيضا ليست أزيد من ذلك.

فالاستدلال بها على عدم اشتراط الجمعة بالإمام مثل الاستدلال بها على عدم اشتراطها بالجماعة أو العدد أو نحوهما استدلال بما لا دلالة فيه.

الطائفة الثانية ما تدل على اشتراط الجمعة بإمام المسلمين أو من نصبه و أنّ إقامتها من وظائفه و مناصبه و ليست بيد كلّ أحد. و قد أفتى بذلك أيضا القدماء من أصحابنا في كثير من كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المأثورة و المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام، و استفيض منهم أيضا حكاية الإجماع على ذلك. فهذا المعنى من واضحات فقه الإمامية لمن تتبع كلمات القدماء من الأصحاب. و مقتضى ذلك أنّ جواز إقامة الشيعة لصلاة الجمعة في هذه الأعصار مما يحتاج إلى دليل متقن يستفاد منه ترخيص الأئمة عليهم السلام و إذنهم للفقهاء أو لجميع الشيعة في إقامتها، و إلّا فالأصل عدم المشروعية بعد ما أثبتنا كونها من المناصب الخاصة.

ص: 70

الطائفة الثالثة ما يستدل بها على ترخيص الأئمة عليهم السلام لشيعتهم في إقامتهما، و هي أحد عشر حديثا ذكرناها و شرحنا مفادها، و العمدة منها هي الثلاثة الأخيرة، و قد بيّنا عدم تمامية الاستدلال بهذه الروايات لإثبات الترخيص. فلا بدّ لمن يدّعي مشروعيتها في هذه الأعصار من التماس دليل آخر، و مقتضى ما ذكرناه إلى الآن أنّه لو فرض إقامتها في هذه الأعصار احتياطا أو رجاء للمطلوبية فالاكتفاء بها عن صلاة الظهر مشكل، فتدبّر.

ص: 71

تذنيبان

الأوّل: في بيان وجه الإفتاء بكون الفقهاء مأذونين في إقامة الجمعة

اشارة

قد عرفت أنّ الشيخ «قده» أفتى في بعض كتبه يكون الفقهاء في عصر الغيبة مأذونين في إقامة الجمعة. و ربّما أفتى أيضا بأنّه يجوز للمؤمنين أن يجتمعوا فيصلّوا جمعة بخطبتين.

و الظاهر أنّه المتفرد بالفتويين من بين القدماء من أصحابنا. و تبين لك بما ذكرناه أنّ الأخبار التي يستدلّ بها على الترخيص، في دلالتها عليه إشكال. و قد أشار «قده» في الخلاف إلى أنّ فتواه بكون المؤمنين مأذونين مستند إلى أخبار القرايا. و مرّ منا الإشكال في دلالتها.

فيبقى حينئذ وجه الإفتاء بكون الفقهاء مأذونين. و لعلّه «قده» استفاد ذلك من أدلّة ولاية الفقيه و حكومته. بتقريب أنّ جعل الحكومة له إذن له في أن يتصدى جميع وظائف الحكّام و منها إقامة الجمعة، فإنّها كما عرفت كانت في عهد النبي صلّى الله عليه و آله و الخلفاء الراشدين و غيرهم من الوظائف و المناصب لزعماء المسلمين و حكّامهم، و كان هذا المعنى مركوزا في أذهان جميع المسلمين حتى أصحاب الأئمة عليهم السلام،

ص: 72

كما مرّ تفصيله. و على هذا يكون جعل الحكومة لشخص ملازما عرفا لكونه مأذونا في إقامة الجمعة.

إشارة إجمالية إلى ولاية الفقيه و حدودها:

أقول: للبحث عن ولاية الفقيه و حدودها محل آخر. و عمدة ما يستدل بها لولاية مقبولة عمر بن حنظلة، و رواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، فنحن نذكرهما تيمنا ثم نشير إلى القدر المتيقن من ولاية الفقيه و حكومته، أعني ما يساعده الأدلّة، و نحيل التفصيل فيها إلى مظانّ البحث عنها. (1)

فنقول: روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال:

سألت أبا عبد الله عليهم السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ فقال: «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّه ثابتا، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت و قد أمر الله عزّ و جلّ أن يكفر به.» قلت: كيف يصنعان؟ قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فارضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على الله و هو على حدّ الشرك بالله.»

و عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبي خديجة، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل


1- للمقرّر- مدّ ظلّه العالي- تحقيقات مستوفاة في هذا الشأن قد طبعت في 4 مجلدات باسم «دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدّولة الإسلامية»، فليراجع.

ص: 73

الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» (1)

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ إثبات ولاية الفقيه و بيان الضابطة الكلية لما يكون من شئون الفقيه و من حدود ولايته يتوقف على تقديم أمور:

الأوّل: إنّ في الاجتماع أمورا لا تكون من وظائف الأفراد و لا ترتبط بهم، بل تكون من الأمور العامّة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الاجتماع، مثل القضاء و ولاية الغيّب و القصّر و بيان مصرف اللقطة و المجهول المالك و حفظ


1- الوسائل 18- 4 (ط. أخرى 27- 13)، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديثان 4 و 5، و الكافي 7- 412. و رواهما الشيخ أيضا في التهذيب- ج 6 ص 219- 218- مثله سندا و متنا إلّا أنه ذكر في الخبر الأوّل بدل محمد بن الحسين محمد بن الحسن بن شمون، و في الثاني بدل قضائنا قضايانا. و للخبر الأوّل ذيل مفصل يرتبط بباب تعارض الخبرين و علاجه، ذكره مع ذيله في التهذيب 6- 301، و أصول الكافي المطبوع جديدا ج 1 ص 67، و الذيل فقط في الفقيه ج 3 ص 9، فراجع. ثم لا يخفى أنّ رواية أبي خديجة بصدد بيان شرائط القاضي لا الحاكم بمعنى السائس و الزعيم. و لعلّ الظاهر من رواية عمر بن حنظلة أيضا ذلك و لا سيما بقرينة الصدر، اللهم إلّا أن يقال باستفادة الحكومة المطلقة من لفظة «على»، إذ لا استعلاء للقاضي على المترافعين، فكأنه قال: فارضوا بقضائه، لأنّي جعلته حاكما عليكم و من شئون الحكومة القضاء، فتأمّل. ثم إنّه يستفاد من الروايتين أنه يعتبر في القاضي أمران: الأوّل: أن يكون إماميا مرضيا. و يدلّ على ذلك سياق الكلام و قوله: «منكم». الثاني: أن يكون مجتهدا. و يدل عليه مواضع من كلامه عليه السلام. منها: قوله: «نظر.» و منها: قوله: «عرف أحكامنا». حيث إنّ الظاهر منه اعتبار كونه عارفا بمذاق الأئمة عليهم السلام في المسائل الشرعية، بحيث يميز (من بين الأخبار المتشتتة المتعارضة) ما صدرت لبيان حكم الله مما أعطيت من جراب النورة، و هذا المعنى يستدعي الممارسة في أخبارهم و الإحاطة على رجالها و على آراء المخالفين و الظروف التي صدر فيها الأخبار عنهم عليهم السلام، كما لا يخفى وجهه. و منها: قوله في ذيل رواية ابن حنظلة في علاج التعارض: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما.» إذ يستفاد من ذلك اعتبار أصل الفقاهة. ح ع- م.

ص: 74

الانتظامات الداخلية و سدّ الثغور و الأمر بالجهاد و الدفاع عند هجوم الأعداء و نحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن. فليست هذه الأمور مما يتصادها كلّ أحد، بل تكون من وظائف قيم الاجتماع و من بيده أزمة الأمور الاجتماعية و عليه أعباء الرئاسة و الخلافة.

الثاني: لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام و ضوابطه في أنّه دين سياسي اجتماعي، و ليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشروعة لتكميل الأفراد و تأمين سعادة الآخرة، بل يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن و تنظيم الاجتماع و تأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنيين و مرتبطة بالنشأتين، و ذلك كأحكام المعاملات و السياسات من الحدود و القصاص و الديات و الأحكام القضائية المشروعة لفصل الخصومات و الأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس و الزكوات و نحوهما (1). و لأجل ذلك اتفق الخاصة و العامّة على أنّه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس و زعيم يدبّر أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام و إن اختلفوا في شرائطه و خصوصياته و أن تعيينه من قبل رسول الله صلّى الله عليه و آله أو بالانتخاب العمومي.

الثالث: لا يخفى أنّ سياسة المدن و تأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية و الشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام و إرشاد المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأوّل مختلطة بالديانة و من شئونها،


1- كيف! و دين الإسلام خاتم الأديان و قد شرع فيه الأحكام الجميع الأمصار في جميع الأعصار إلى يوم القيامة، و جميع ما يحتاج إليه البشر من أوّل انعقاد نطفته إلى حين الوفاة، بل و بعدها، و جميع حركاته و سكناته مما جعل مطرحا لنظر شارع الإسلام و شرع له حكما من الأحكام. فهل الشارع الذي تصدى لبيان آداب الأكل و الشرب بخصوصياتهما و آداب الجماع و التخلي و أمثالهما أهمل الأمور المهمة التي يتوقف عليها انتظام أمر المعاش و المعاد و يختلّ بدونها النظام؟ ح ع- م.

ص: 75

فكان رسول الله صلّى الله عليه و آله بنفسه يدبّر أمور المسلمين و يسوسهم و يرجع إليه فصل الخصومات و ينصب الحكّام للولايات و يطلب منهم الأخماس و الزكوات و نحوهما من الماليات، و هكذا كان سيرة الخلفاء بعده من الراشدين و غيرهم، حتى أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه بعد ما تصدى للخلافة الظاهرية كان يقوم بأمور المسلمين و ينصب الحكّام و القضاء للولايات. و كانوا في بادئ الأمر يعملون بوظائف السياسة في مراكز الإرشاد و الهداية كالمساجد، فكان إمام المسجد بنفسه أميرا لهم، و بعد ذلك أيضا كانوا يبنون المسجد الجامع قرب دار الإمارة، و كان الخلفاء و الأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات و الأعياد بل و يدبّرون أمر الحج أيضا، حيث إنّ العبادات الثلاث مع كونها عبادات قد احتوت على فوائد سياسية لا يوجد نظيرها في غيرها، كما لا يخفى على من تدبّر. و هذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية و الفوائد السياسية من خصائص دين الإسلام و امتيازاته.

الرابع: قد تلخّص مما ذكرناه:

1- أنّ لنا حوائج اجتماعية تكون من وظائف سائس الاجتماع و قائده.

2- و أنّ الديانة المقدسة الإسلامية أيضا لم يهمل هذه الأمور بل اهتم بها أشدّ الاهتمام و شرّعت بلحاظها أحكامها كثيرة و فوّضت إجراءها إلى سائس المسلمين.

3- و أنّ سائس المسلمين في الصدر الأوّل لم يكن إلّا نفس النبي صلّى الله عليه و آله ثم الخلفاء بعده.

و حينئذ فنقول: إنّه لمّا كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإمامية أن خلافة رسول الله صلّى الله عليه و آله و زعامة المسلمين من حقوق الأئمة الاثني عشر عليهم صلوات الله و أن رسول الله صلّى الله عليه و آله لم يهمل أمر الخلافة بل عيّن لها من بعده عليّا عليه السلام ثم انتقلت منه إلى أولاده، عترة رسول الله صلّى الله عليه و آله، و كان تقمّص الباقين و تصديهم لها غصبا

ص: 76

لحقوقهم، (1) فلا محالة كان المرجع الحق لتلك الأمور الاجتماعية التي يبتلى بها


1- لا يخفى أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم الحكومة و الولاية بأنحائها لأحد على أحد، إذ بحسب التكوين و الخلقة كلّ فرد منحاز عن غيره و مستقل بذاته، فبأيّ ملاك يتسلط أحد الفردين على الآخر و ينفذ حكمه في حقه مع وجود العزلة التكوينية بينهما؟ فجميع الناس بحسب الأصل الأوّلي- إذ لوحظ بعضهم بالنسبة إلى بعض آخر- أحرار مستقلون، و إذا حكم بعضهم على بعض و تسلط عليه يراه الوجدان تعديا و ظلما.

ص: 77

جميع المسلمين هو الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام و كانت من وظائفهم الخاصّة مع القدرة عليها.

فهذا أمر يعتقده جميع الشيعة الإمامية، و لا محالة كان مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام أيضا. فكان أمثال زرارة و محمّد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة و ملازميهم لا يرون المرجع لهذه الأمور و المتصدي لها عن حق إلّا الأئمة أو من نصبوهم لها، و لذلك كانوا يراجعون إليهم فيما يتفق لهم مهما أمكن كما يعلم ذلك بمراجعة أحوالهم.

ص: 78

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: إنّه لمّا كان هذه الأمور و الحوائج الاجتماعية مما يبتلى بها الجميع مدّة عمرهم غالبا و لم يكن الشيعة في عصر الأئمة متمكنين من الرجوع إليهم عليهم السلام في جميع الحالات- كما يشهد بذلك مضافا إلى تفرقهم في البلدان عدم كون الأئمة مبسوطي اليد بحيث يرجع إليهم في كلّ وقت لأيّ حاجة اتفقت- فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة و محمد بن مسلم و غيرهما من خواصّ الأئمة سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور إذا لم يتمكنوا منهم عليهم السلام، و نقطع أيضا بأنّ الأئمة عليهم السلام لم يهملوا هذه الأمور العامّة البلوى التي لا يرضى الشارع بإهمالها، بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم عليهم السلام، و لا سيما مع علمهم عليهم السلام بعدم تمكن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم بل عدم تمكّن الجميع في عصر غيبتهم التي كانوا يخبرون عنها غالبا و يهيئون شيعتهم لها. و هل لأحد أن يحتمل أنّهم عليهم السلام نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت و قضاة الجور و مع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور و لم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات و التصرف في أموال الغيب و القصّر و الدفاع عن حوزة الإسلام و نحو ذلك من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها؟

و كيف كان فنحن نقطع بأنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام سألوهم عمّن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكّن منهم عليهم السلام و أنّ الأئمة عليهم السلام أيضا أجابوهم بذلك و نصبوا للشيعة مع عدم التمكن منهم عليهم السلام أشخاصا يتمكنون منهم إذا احتاجوا، غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة و الأجوبة من الجوامع التي بأيدينا و لم يصل إلينا إلّا ما رواه عمر بن حنظلة و أبو خديجة.

و إذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم عليهم السلام و أنهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها- و لا سيّما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة- فلا محالة يتعين الفقيه لذلك، إذ لم يقل أحد بنصب غيره. فالأمر يدور بين

ص: 79

عدم النصب و بين نصب الفقيه العادل، و إذا ثبت بطلان الأوّل بما ذكرناه صار نصب الفقيه مقطوعا به، و يصير مقبولة ابن حنظلة أيضا من شواهد ذلك.

و إن شئت ترتيب ذلك على النظم القياسي فصورته هكذا: إمّا أنه لم ينصب الأئمة عليهم السلام أحدا لهذه الأمور العامّة البلوى و إمّا أن نصبوا الفقيه لها، لكن الأوّل باطل فثبت الثاني. فهذا قياس استثنائي مؤلّف من قضية منفصلة حقيقة و حملية دلّت على رفع المقدم، فينتج وضع التالي، و هو المطلوب.

و بما ذكرناه يظهر أن مراده عليه السلام بقوله في المقبولة: «حاكما» هو الذي يرجع إليه في جميع الأمور العامّة الاجتماعية التي لا تكون من وظائف الأفراد و لا يرضى الشارع أيضا بإهمالها- و لو في عصر الغيبة و عدم التمكن من الأئمة عليهم السلام- و منها القضاء و فصل الخصومات. و لم يرد به خصوص القاضي، و لو سلّم فنقول: إن المترائى من بعض الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدي سائر الأمور العامّة البلوى كما في خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا عليه السلام: «و عن الرجل يموت بغير وصية و له ورثة صغار و كبار، أ يحلّ شراء خدمه و متاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟» (1) و بالجملة كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمة عليهم السلام لمثل تلك الأمور العامّة المهمة التي يبتلى بها العامّة مما لا إشكال فيه إجمالا بعد ما بيناه، و لا نحتاج في إثباته إلى مقبولة ابن حنظلة، غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد، فتدبّر.

بقي الإشكال في أنّه هل يكون إقامة الجمعة أيضا من قبيل هذه الأمور المفوّضة إلى الفقيه قطعا أو لا؟

يمكن أن يقال: إن الأمور التي ترتبط بالإمام و تعدّ من وظائفه على صنفين:

صنف منها من وظائف الإمام إذا كان مبسوط اليد كحفظ الانتظامات الداخلية


1- راجع التهذيب 9- 239، كتاب الوصايا، باب الزيادات، الحديث 20.

ص: 80

و سدّ ثغور المملكة و الأمر بالجهاد و الدفاع و نحو ذلك، و صنف منها من وظائفه و لو لم يكن مبسوط اليد إذا أمكنه القيام به و لو بالتوكيل و الإرجاع إلى غيره، و ذلك كالأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، كالتصرف في أموال اليتامى و المجانين و الغيّب، و كالقضاء بين الناس و نحو ذلك.

و الظاهر أنّ إقامة الجمعة من الصنف الأوّل، كما يستفاد من التعليل الوارد لها في رواية فضل بن شاذان السابقة، حيث قال: «فإن قال: فلم جعلت الخطبة؟ قيل:

لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم (إلى أن قال:) و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق».

و إذا ثبت كون إقامة الجمعة من وظائف الإمام عليه السلام إذا كان مبسوط اليد فقط أو شكّ في كونها من هذا القبيل أو من قبيل القسم الثاني لم يثبت للفقيه رخصة في إقامتها، إذ القدر المتيقن من أدلّة، ولايته من قبل الإمام عليه السلام في خصوص الصنف الثاني من وظائف الإمام أعني الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، فاستفادة الترخيص في إقامتها من أدلّة ولاية الفقيه مشكل.

هذا مضافا إلى أن إرجاع إقامة الجمعة إلى الفقيه بنحو الإطلاق مظنة وقوع التنازع و الفساد كما لا يخفى بخلاف النصب الخاص. نعم الظاهر أنّ ما أفتى به الشيخ و تبعه في الدروس من كون الفقهاء مأذونين في إقامتها لا مدرك له سوى توهم كونه مشمولا لأدلّة ولاية الفقيه.

إن قلت: شمول أدلة ولاية الفقيه لما نحن فيه يقتضي وجوب إقامتها تعيينا إذ التمكن من المنصوب مثل التمكن من الإمام عليه السلام، فلم حكموا بالوجوب التخييري؟

قلت: لعلّه من جهة أنّ عدم وجوبها تعيينا في زمان الغيبة كان مفروغا عنه عندهم، إذ لو كانت واجبة بالوجوب التعييني لعلمه الفقهاء من أصحاب الأئمة عليهم السلام و وصل منهم إلينا يدا بيد مع شدة الابتلاء بها كسائر المسائل المتلقاة من الأئمة عليهم السلام

ص: 81

الواصلة إلينا بنقل السلف، بداهة أنّ سلسلة فقه الإمامية لم تنقطع و لم تحصل بين أرباب الحديث و الفقه من أصحاب الأئمة عليهم السلام و تابعيهم و بين أعصارنا فترة قط، بل كان في كلّ عصر يلقي الأساتذة و المشايخ إلى تلامذتهم جميع ما تلقوه من أسلافهم، بل لو كان وجوب إقامة الجمعة من الواجبات التعيينية حتى في هذه الأعصار لصار من الضروريات مثل وجوب غيرها من الصلوات اليومية و لم يحتج إلى البحث و الاستدلال، فافهم و تأمل.

الثاني: في بيان قسمي شروط صلاة الجمعة

اشارة

شروط الجمعة على قسمين: قسم منها يرجع إلى من وجب عليه حضورها، فمن فقدها لم يجب عليه الحضور و السعي إلى الجمعة و إن انعقدت بشرائطها، و قسم منها يرجع إلى صحة انعقادها، فإن فقدت لم تنعقد.

أما ما يعتبر في وجوب الحضور فهو أن يكون الإنسان بالغا عاقلا مذكّرا حرّا خاليا عن السفر و المرض و العمى و الشيخوخة، و أن لا يكون بينه و بين الجمعة المنعقدة أزيد من فرسخين.

و يدلّ على اعتبارها عدّة من أخبار الطائفة الأولى، فراجع و أمّا ما يعتبر في صحة انعقادها فأربعة:

1- السلطان العادل أو من نصبه.

2- الجماعة بعدد خاصّ.

3- الخطبتان.

4- أن يكون بينها و بين مثلها فرسخ فما زاد.

و قد عرفت ما يدلّ على اعتبار الأوّل. و أمّا الجماعة فاعتبارها إجمالا في صحّة الجمعة مما لا خلاف فيه، و يدلّ عليه روايات كثيرة.

ص: 82

العدد المعتبر في الجمعة

نعم وقع الاختلاف في العدد الذي تنعقد به:

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 359): «تنعقد الجمعة بخمسة نفر جوازا و بسبعة تجب عليهم. و قال الشافعي: لا تنعقد بأقلّ من أربعين من أهل الجمعة، و به قال عبيد اللّٰه بن عبد اللّٰه بن عتبة بن مسعود و عمر بن عبد العزيز من التابعين، و في الفقهاء أحمد و إسحاق. و قال ربيعة: تنعقد باثني عشر نفسا و لا تنعقد بأقلّ منهم و قال الثوري و أبو حنيفة و محمد: تنعقد بأربعة: إمام و ثلاثة معه، و لا تنعقد بأقل منهم. و قال الليث بن سعد و أبو يوسف: تنعقد بثلاثة ثالثهم الإمام، و لا تنعقد بأقلّ منهم لأنّه أقلّ الجمع. و قال الحسن بن صالح بن حي: تنعقد باثنين، و به قال الساجي. و لم يقدّر مالك في هذا شيئا.

دليلنا إجماع الفرقة، و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر.» (1)

و أمّا أصحابنا الإمامية فلم يقل أحد منهم بانعقادها بأقلّ من خمسة، و إنّما اختلفوا في أنّ أقلّ العدد هو الخمسة أو السبعة، و المشهور كفاية الخمسة، و اختار بعضهم اعتبار السبعة، و فصل الشيخ «قده» بين شرط الصحة و الانعقاد و بين شرط الوجوب، فاكتفى بالخمسة في صحّتها و انعقادها، و جعل السبعة شرطا للوجوب.

و وافقه بعض المتأخرين، (2) و يساعده روايات المسألة بعد الجمع العرفي، و لكن يخالفه المشهور.

و كيف كان فالمتّبع هو الأخبار، فلنذكرها:

1- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن


1- الخلاف 1- 598، كتاب الجمعة.
2- راجع مفتاح الكرامة 3- 101، كتاب الصلاة، المقصد الثالث، المطلب الأوّل من الفصل الأوّل.

ص: 83

أذينة، عن زرارة، قال: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: «لا تكون الخطبة و الجمعة و صلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهط: الإمام و أربعة.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن علي بن إبراهيم. (1)

و لا يخفى أنّ الرواية تدلّ على المشهور من كون الخمسة شرطا للصحة و الوجوب معا، إذ ظاهرها عدم وجوبها على أقلّ من خمسة و وجوبها على الخمسة، كما لا يخفى وجهه.

2- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: «إذا كان القوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمّعوا إذا كانوا خمس نفر. و إنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين.» (2)

و هي أيضا تدلّ على قول المشهور، لظهور قوله: «جمّعوا» في الوجوب.

3- ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «يجمّع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبة على كلّ أحد.» الحديث. (3)

و هي أيضا تدلّ على قول المشهور، لظهور قوله: «يجمّع» و لدلالة الذيل.

4- ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «لا تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة» (4)


1- الوسائل 5- 7 (ط. أخرى 7- 303)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.
2- المصدر السابق 5- 8 (ط. أخرى 7- 304) و الباب، الحديث 6.
3- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 7، و 5- 5 (ط. أخرى 7- 300)، الباب 1 منها، الحديث 16.
4- المصدر السابق 5- 9 (ط. أخرى 7- 305)، الباب 2 منها، الحديث 8.

ص: 84

5- ما رواه الصدوق في الخصال عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن البزنطي، عن عاصم بن عبد الحميد الحنّاط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«لا تكون جماعة بأقلّ من خمسة.» (1)

و ذكر الحديث في هذا الباب من جهة حمل الجماعة فيه على الجمعة بقرينة الخمسة.

و لا دلالة للخبرين على بطلان قول الشيخ كما لا يخفى، نعم يستفاد منهما كفاية الخمسة، فيبطل قول من اعتبر السبعة في الصحّة و الوجوب معا.

6- ما رواه الكشي بسنده عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله أنه قال: «إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمّعوا.» (2)

هذه ستة أخبار ذكر فيها الخمسة فقط: ثلاثة منها تدلّ على قول المشهور من كفاية الخمسة في الصحة و الوجوب معا، و هي الأوّل و الثاني و الثالث، و الأخير يساعد قول الشيخ. و الرابع و الخامس لا يدلّان على قول المشهور و لا على قوله و لا ينافرانهما أيضا. و جميعها تدلّ على بطلان قول من اعتبر السبعة في الصحة و الوجوب معا.

7- ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن عبد اللّٰه بن عامر، عن علي بن مهزيار، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك (أبي العباس البقباق)، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «أدنى ما يجزي في الجمعة سبعة أو خمسة أدناه.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن علي بن مهزيار. (3)

و لا يخفى أنّ الحسين بن محمد ثقة من صغار الطبقة الثامنة، و مع ذلك يروي


1- المصدر السابق 5- 8 (ط. أخرى 7- 304) و الباب، الحديث 5.
2- المصدر السابق 5- 9 (ط. أخرى 7- 306) و الباب، الحديث 1. و قد مرّ في الطائفة الثالثة (رقم 4).
3- المصدر السابق 5- 7 (ط. أخرى 7- 303) و الباب، الحديث 1.

ص: 85

عنه الصفّار الذي هو من كبار هذه الطبقة، إذ له طرق يتفرد بنقله. و عبد اللّٰه بن عامر عمّ له ثقة من السابعة. و ابن مهزيار أيضا ثقة من السابعة. و فضالة أيضا ثقة من السادسة.

و الترديد في الحديث من الراوي ظاهرا، فهو مجمل من هذه الجهة. و لو قيل بكونه من الإمام عليه السلام فسر الحديث بكون الخمسة شرطا للصحة و الوجوب التخييري، و السبعة للوجوب التعييني، كما أفتى به الشيخ. و يمكن أن يقال: إنّه لمّا كان هذا الخبر و الخبر الثاني كلاهما لفضل بن عبد الملك، و المذكور في الخبر الثاني هو الخمسة، صار هذا قرينة على كون كلام الإمام عليه السلام في هذا الخبر أيضا هو الخمسة، و الترديد نشأ من الراوي.

8- ما رواه الصدوق بإسناده عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال في صلاة العيدين: «إذا كان القوم خمسة أو سبعة فإنّهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم الجمعة.» (1) و لعلّ المشهور حملوا الترديد فيه على كونه من الراوي و أنّ كلام الإمام عليه السلام هو الخمسة بقرينة الأخبار السابقة.

و حمله الشيخ على كون الخمسة شرطا للصحّة و السبعة شرطا للوجوب.

و يرد عليه إنّ قوله: «يجمعون» جملة خبرية في موضع الإنشاء، و ظاهرها الوجوب. هذا مضافا إلى أنّه تال واحد لمقدّم مردّد، و لا يمكن أن يراد به الجواز بحسب أحد شقّي المقدم و الوجوب بحسب الشقّ الآخر.

فإن قلت: يراد به الجواز بالمعنى الأعم، فيناسب كليهما.

قلت: الاستعمال في الجامع لا يفيد من يقول بقول الشيخ، إذ هو يقول: إن ترديد الإمام ناظر إلى كون الخمسة شرطا للصحة و السبعة شرطا للوجوب، و مقتضاه


1- المصدر السابق 5- 8 (ط. أخرى 7- 303) و الباب، الحديث 3.

ص: 86

أن يراد بقوله: «يجمّعون» تارة الجواز و أخرى الوجوب، فتدبّر.

9- ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: على من تجب الجمعة؟ قال: «تجب على سبعة نفر من المسلمين، و لا جمعة لأقلّ من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم.»

(1) و هذه الرواية من أقوى الأدلّة على تفصيل الشيخ «قده» لو ثبت كون قوله:

«و لا جمعة لأقلّ.» من كلام الإمام عليه السلام. و لكنك عرفت أنّ احتمال كونه من كلام الصدوق احتمال قريب، فيبطل الاستدلال به، فراجع ما بيناه في شرح الخبر و تدبّر. 10- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، و لا تجب على أقلّ منهم:

الإمام و قاضيه و المدعي حقا و المدعي عليه و الشاهدان و الذي يضرب الحدود بين يدي الإمام.» (2)

11- ما رواه أيضا بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن حماد بن عيسى، عن ربعي، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة.» الحديث. (3)

و هذان الخبران ينافيان قول المشهور دون قول الشيخ. هذا.

و لكن ما اختاره الشيخ من التفكيك بين شرط الصحة و الوجوب كأنه مخالف لما تسالم عليه الأصحاب بل المسلمون، إذ الظاهر منهم اعتبار عدد ما في صحة الجمعة و انعقادها، غاية الأمر أنّهم اختلفوا في كميّة، فقال بعض العامّة بالأربعين،


1- المصدر السابق 5- 8 (ط. أخرى 7- 304) و الباب، الحديث 4. و قد مرّ في الطائفة الثالثة (رقم 11).
2- المصدر السابق 5- 9 (ط. أخرى 7- 305) و الباب، الحديث 9.
3- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 10.

ص: 87

و بعضهم بالأربعة، و بعضهم بالثلاثة، إلى غير ذلك مما مرّ، و ذهب أصحابنا إلى قولين:

فاختار المشهور الخمسة، و ذهب بعضهم إلى اعتبار السبعة، و كيف كان فجميعهم ذكروا العدد الخاصّ في عداد شرائط الصحة، و أمّا الوجوب فهو عندهم متفرع على وجود شرائط الصحة مضافا إلى الشرائط العامة للتكليف، و لا يوجد بين العامة و الخاصة ما سوى الشيخ «قده» من يفكك بين شرط الصحة و شرط الوجوب بحسب العدد، فكان القول بالتفكيك إحداثا لقول جديد. و يردّه- مضافا إلى كونه خلاف ما تسالموا عليه- الأخبار الثلاثة الأول كما عرفت. و قد عرفت أيضا أنّ الخبر الأوّل و الثاني و الثالث تساعد المشهور، و لا ينافيه الخامس و السادس بل الرابع أيضا، و السابع و الثامن مجملان لوجود الترديد فيهما مع ظهور كونه من الراوي فلا ينافيان أيضا قول المشهور، و ذيل التاسع مشكوك في كونه من كلام الإمام عليه السلام أو من كلام الصدوق كما عرفت، فيبقى مفهوم صدره و مفهوم الحادي عشر و منطوق العاشر منافية لما عليه المشهور، فيقع التعارض بينها و بين الستّة الأول، فترجّح الأخبار الأول بموافقتها للمشهور، حيث إنّ الشهرة الفتوائية أحد المرجّحات المنصوصة، فتدبّر.

فرع في حكم ما إذا انعقدت الجمعة ثمّ انفضّ العدد

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 360): «إذا انعقدت الجمعة بالعدد المراعى في ذلك و كبّر الإمام تكبيرة الإحرام ثم انفضّوا، لا نصّ لأصحابنا فيه. و الذي يقتضيه مذهبهم أنّه لا تبطل الجمعة، سواء انفضّ بعضهم أو جميعهم حتى لا يبقى إلّا الإمام، و أنّه يتمّ الجمعة ركعتين. و للشافعي خمسة أقوال (إلى أن قال:) دليلنا: إجماع الفرقة إلخ» (1).


1- الخلاف 1- 600، كتاب صلاة الجمعة. و في هامشه: يخلو بعض النسخ من الإجماع المذكور. و في حاشية الخلاف المطبوع قديما ص 90: «ليس في نسختين نقل الإجماع».

ص: 88

أقول: الظاهر عدم وجود الإجماع في المسألة كما يدلّ عليه صدر كلام الشيخ أيضا. فاللازم هو المشي على طبق ما يقتضيه القواعد.

كما أنّ الظاهر أنّ نظر الشيخ في قوله: «و الذي يقتضيه مذهبهم» ليس إلى أدلّة حرمة إبطال العمل، بل إلى ظاهر قوله عليه السلام في خبر منصور مثلا: «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة.» بتقريب أنّ المستفاد منه أنّ الشرط في الصحة هو اجتماع الخمسة مطلقا، لا اجتماع خمسة عليم بقاؤهم إلى آخر الصلاة لعدم دلالة الرواية و أمثالها على هذا القيد. فاجتماع الخمسة شرط ابتداء لا استدامة، فافهم و تأمّل.

و الحمد للّٰه ربّ العالمين و صلّى اللّٰه على سيدنا محمد و آله الطاهرين، و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

و قد وقع الفراغ من تحرير ما أفاده الأستاذ (مدّ ظلّه العالي على رءوسنا) في باب صلاة الجمعة في 9 من ذي القعدة سنة 1367 ه. ق. و أنا العبد المفتقر إلى رحمة الله و فضله: حسين علي المنتظري النجف آباديّ.

ربّ اغفر و ارحم و تجاوز عما تعلم إنك أنت الأعزّ الأكرم.

ص: 89

ص: 90

ص: 91

الفصل الثاني في صلاة المسافر

اشارة

صلاة المسافر اتفق الفقهاء (1) من العامة و الخاصة على ثبوت القصر إجمالا في السفر بنفسه، و ذلك بترك الركعتين الأخيرتين من الرباعيات، من غير فرق بين سفر الأمن و الخوف، نعم حكي عن عبد اللّٰه بن عباس أنه قال: في سفر الأمن يقصّر إلى ركعتين و في سفر الخوف يقصّر إلى ركعة، (2) و لكنه شاذّ لا يعبأ به.

اختلاف العامّة في كون القصر عزيمة

و بالجملة أصل القصر في السفر مجمع عليه، و لكن وقع الاختلاف في كونه عزيمة أو رخصة، فاتفق أصحابنا الإمامية على كونه عزيمة، و أكثر المخالفين على كونه رخصة. (3)


1- نعم حكي عن عائشة القول بأنّ القصر لا يجوز إلّا للخائف، أخذ بظاهر الآية الآتية، و لأنّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إنّما قصّر لأنّه كان خائفا. ح ع- م. (راجع بداية المجتهد 1- 142، الفصل الأوّل من الباب الرابع من الجملة الثانية من كتاب الصلاة.)
2- راجع المغني لابن قدامة 2- 100، باب صلاة المسافر.
3- أقوالهم في الصلاة أربعة: 1- تعين القصر، و به قال أبو حنيفة و أصحابه و الكوفيون. 2-

ص: 92

تفسير آية القصر

قال اللّٰه تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكٰافِرِينَ كٰانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (1) و في قراءة أبيّ حذف قوله إِنْ خِفْتُمْ، فيكون التقدير مخافة أو كراهة أن يفتنكم. و لفظ الفتنة يستعمل في القتل و في إيصال المكروه و في الإضلال.

و ربما يستشكل في دلالة الآية على المطلوب بوجهين:

الأول أنّ مفادها ثبوت القصر في السفر المجتمع مع الخوف لا مطلق السفر.

و ربما يجاب عن ذلك بمنع المفهوم، فتأمّل.

الثاني أنّ المستفاد منها كون القصر رخصة لا عزيمة.

أقول: لا يخفي أنّ زرارة و محمد بن مسلم أيضا اعترضا بذلك على الإمام عليه السلام، فأجابهما بالنقض بآية السعي:

فقد روى الصدوق في الفقيه عن زرارة و محمد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي و كم هي؟ فقال: «إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر.» قالا: قلنا: إنما قال اللّٰه عزّ و جلّ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ، و لم يقل: «افعلوا» فكيف أوجب ذلك كما أوجب


1- سورة النساء (4)، الآية 101.

ص: 93

التمام في الحضر، فقال: عليه السلام: «أ و ليس قد قال اللّٰه عزّ و جلّ في الصفا و المروة فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ اللّٰه عز و جلّ ذكره في كتابه و صنعه نبيه صلّى اللّٰه عليه و آله، و كذلك التقصير في السفر شي ء صنعه النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و ذكر اللّٰه في كتابه (إلى أن قال:) و قد سافر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذي خشب، و هي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان:

أربعة و عشرون ميلا، فقصر و أفطر فصارت سنة، و قد سمّى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله قوما صاموا حين أفطر: العصاة.» قال: «فهم العصاة إلى يوم القيامة، و إنّا لنعرف أبناءهم و أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا.» (1)

و لا يخفى أنّ قولهما: «و لم يقل: افعلوا» دليل على أنّ الأمر في ارتكازهما للوجوب.

و الظاهر أنّ الإمام عليه السلام لم يرد إثبات وجوب القصر و السعي بنفس الآيتين، و إنّما أراد نفي منافاتهما للوجوب و بيان دلالتهما على أصل التشريع و الجواز بالمعنى الأعمّ الشامل للوجوب و غيره، و الوجوب يستفاد من عمل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و مداومته و من أقوالهم المأثورة عنهم عليهم السلام (2)


1- الوسائل 5- 538 (ط. أخرى 8- 517)، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2، عن الفقيه 1- 434. و الآية الثانية من سورة البقرة (2)، رقمها 158.
2- أقول: الظاهر أن سوق الآيتين الشريفتين لدفع توهم الحظر و رفع الاستبعاد لا لتشريع حكم القصر و السعي، و إنّما ثبت حكم القصر بعمل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و حكم السعي بالسيرة المستمرة بين الأعراب و إمضاء الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله لها. بيان ذلك: أنّ الأصل في الصلاة و المعهود منها بين المسلمين كان هو التمام، فكان حكم القصر موردا لتوهم الحظر و الاستبعاد، فنزلت الآية لدفع ذلك ببيان ما يقتضي التخفيف و السعة من الخوف و الضرب في الأرض الملازم للمشقة غالبا. و السعي بين الصفا و المروة كان معمولا متداولا بين من يحج البيت من أهل الجاهلية، و كان عليهما صنمان من أصنامهم يقال: لهما إساف و نائلة، فتوهم بعض المسلمين أنّ السعي بينهما لم يكن مما شرعه اللّٰه، و ليس للموضعين حرمة عنده تعالى، و إنّما ابتداعه المشركون لتكريم الصنمين، فنزلت آية السعي لرفع هذا التوهم ح ع- م.

ص: 94

الشروط المعتبرة في القصر

اشارة

ثمّ إنّه يعتبر في جواز القصر أمور:

الأوّل: المسافة

اشارة

اتفق المسلمون سوى أهل الظاهر على اعتبارها في وجوب القصر أو جوازه، و اكتفى داود و غيره من الظاهريين بصدق مفهوم السفر و مسماه. (1)

الأقوال في تحديد المسافة المعتبرة

و قد وقع الاختلاف في مقدار المسافة المعتبرة، فقال: أبو حنيفة و أصحابه: إنّ أقلّ ما تقصّر فيه الصلاة ثلاث مراحل، كلّ مرحلة ثمانية فراسخ. و ذهب مالك و الشافعي و أحمد و جماعة كثيرة إلى أنّها تقصّر في مرحلتين أربعة برد (2) و أمّا أصحابنا الإمامية فقد اتفقوا على وجوب القصر فيما إذا كانت المسافة الواقعة بين المبدأ و المقصد بريدين: ثمانية فراسخ. فليس فيهم من يعتبر أزيد من ذلك.

و إنما الإشكال فيما إذا كانت المسافة أربعة فراسخ فما فوقها إلى الثمانية، و قد اختلف أقوالهم في هذه المسألة، و مجموعها ثمانية:

الأوّل: تعيّن القصر مطلقا. سواء رجع من يومه أو بعده أم لم يرجع أصلا


1- راجع الخلاف 1- 568، كتاب صلاة المسافر، المسألة 320، و التذكرة 1- 188 (ط. أخرى 4- 369)، المسألة 617.
2- و قال الأوزاعي: مسيرة يوم تام. قال: «و عامة العلماء قائلون به». و هو الموافق لمذهبنا و إحدى الروايتين عن ابن عباس. ح ع- م. راجع بداية المجتهد 1- 144، الفصل الأوّل من الباب الرابع من الجملة الثانية من كتاب الصلاة، و المنتهي 1- 389، البحث الأوّل من المقصد السادس من كتاب الصلاة، و مفتاح الكرامة 3- 501.

ص: 95

فيكون نفس الأربعة تمام الموضوع لتعين القصر. نسب هذا القول إلى الكليني، حيث اقتصر في الكافي على نقل أخبار الأربعة و لم يذكر أخبار الثمانية. و نسبه في الحدائق أيضا إلى بعض المتأخرين. (1)

الثاني: تعيّن الإتمام مطلقا. لم نجد من صرّح به، و لكنه قد يلوح من الحلبي في الكافي و ابن زهرة في الغنية، و نسبه في الماحوزية إلى الأكثر. (2)

الثالث: التخيير بين القصر و الإتمام مطلقا. و هو خيرة المدارك و المنتقى. و في الروض أنه أوجه. و نسب أيضا إلى الكليني، (3) و الشيخ في التهذيب، لكنّ الموجود في التهذيب قوله بتعيّن القصر لمن أراد الرجوع ليومه و التخيير لغيره. (4)


1- راجع الحدائق 11- 316، المقصد الرابع (من كتاب الصلاة) في صلاة المسافر، و الكافي 3- 432، و مفتاح الكرامة 3- 502.
2- راجع الكافي للحلبي- 116، باب تفصيل أحكام الصلاة الخمس، و الجوامع الفقهية- 495 (ط. أخرى- 557)، فصل أقسام الصلاة من «الغنية»، و مفتاح الكرامة 3- 504.
3- راجع المدارك 4- 437، في الشرط الأوّل من شروط القصر، و المنتقى 2- 173، باب الصلاة في السفر، و روض الجنان- 384، المقصد الرابع من النظر الثالث من كتاب الصلاة، و مفتاح الكرامة 3- 503.
4- أقول: في التهذيب- 3- 208- 207، أبواب الزيادات، باب الصلاة في السفر- بعد ما ذكر خبر سماعة و الكاهلي من أخبار الثمانية، و خبر زرارة و أبي أيّوب من أخبار الأربعة قال: «فلا تنافي بين هذين الخبرين و بين الخبرين الأوّلين، لأنّ الوجه فيهما أن المسافر إذا أراد الرجوع من يومه فقد وجب عليه التقصير في أربعة فراسخ، يدلّ على ذلك ما رواه سعد فذكر خبر معاوية بن وهب من أخبار التلفيق ثم قال: على أنّ الذي نقوله في ذلك إنّه يجب القصر إذا كان مقدار السفر ثمانية فراسخ. و إذا كان أربعة فراسخ كان بالخيار في ذلك إن شاء أتمّ و إن شاء قصّر. و الذي يدلّ على جواز التقصير في أربعة فراسخ ما رواه أحمد بن محمد.» ثم ذكر نبذا من أخبار الأربعة و منها أخبار عرفات. و ذكر نحو ذلك في الاستبصار- ج 1 ص 224- 223- أيضا، فراجع. و ظاهر كلامه «قده» أنّ الجمع الأوّل منه تبرّعي، و أنّ الثاني هو فتواه، فيكون التخيير ثابتا عنده مطلقا، رجع من يومه أم لا. ح ع- م.

ص: 96

الرابع: تعيّن القصر لمن أراد الرجوع قبل العشرة و تعيّن الإتمام لغيره. و لم يقل به أحد من القدماء سوى الحسن بن أبي عقيل العماني. فقد حكى عنه في المختلف أنه قال: «كلّ سفر كان مبلغه بريدان، و هو ثمانية فراسخ، أو بريد ذاهبا و جائيا، و هو أربعة فراسخ، في يوم واحد أو ما دون عشرة أيام فعلى من سافره عند آل الرسول عليهم السلام إذا خلّف حيطان مصره أو قريته وراء ظهره و غاب عنه منها صوت الأذان أن يصلّي صلاة السفر ركعتين.» (1)

و مقتضى قوله كون السفر التلفيقي كالامتدادي، فكما لا يعتبر فيه طيّ الثمانية في يوم واحد فكذلك التلفيقي.

الخامس: تعيّن القصر لمن أراد الرجوع مطلقا، سواء كان من يومه أو بعده، و تخيّر غيره بين القصر و الإتمام. و لم نجد به قائلًا.

السادس: تعيّن القصر لمن أراد الرجوع من يومه و تخيّر غيره. و هو المشهور بين القدماء من أصحابنا. (2)

السابع: تعيّن القصر لمن أراد الرجوع من يومه و تعيّن الإتمام لغيره. اختاره السيد المرتضى و ابن إدريس و المحقق و أكثر المتأخرين. (3)

الثامن: الحكم بالتخيير لمن أراد الرجوع من يومه و تعيّن الإتمام لغيره.

هذه جملة الأقوال المحكية في المسألة و إن لم نجد لبعضها قائلًا.

و كيف كان فالقائل بكون نفس الأربعة مطلقا موضوعا للقصر تعيينا أو تخييرا


1- المختلف 1- 162 (ط. أخرى 2- 526)، الفصل السادس من الباب الرابع من كتاب الصلاة، المسألة 390.
2- راجع مفتاح الكرامة 3- 503، المطلب الثاني من الفصل الخامس من المقصد الرابع من كتاب الصلاة.
3- راجع رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم و العمل) 3- 47، و السرائر 1- 329، باب صلاة المسافر، و المعتبر 2- 468، 467، في صلاة المسافر، و مفتاح الكرامة 3- 503.

ص: 97

قليل في أصحابنا، بل المشهور بينهم كونها مسافة بضمّ الرجوع حتى تحصل ثمانية فراسخ، و يعبرون عنها بالمسافة التلفيقية. ثم إنّ المشهور بين هذا المشهور تحقق التلفيق بشرط أن يكون الرجوع من يومه، و به أفتى جلّ القدماء من أصحابنا. نعم مقتضى ما حكى عن ابن أبي عقيل أنّه قال بالتلفيق إذا كان الرجوع قبل العشرة، و لكنه شاذّ لم يعبأ به أصحابنا.

طوائف أخبار المسألة
اشارة

فلنذكر أخبار المسألة حتى يتضح الحق، و هي خمس طوائف:

أخبار الثمانية

الطائفة الأولى: ما تدل على أنّ المسافة الموجبة للقصر بريدان، أو مسيرة يوم، أو بياض يوم، أو ثمانية فراسخ، أو أربع و عشرون ميلا على اختلاف التعبيرات و إن كان مآل الكل واحدا. و ظاهرها كونها بصدد بيان المسافة الواقعة بين المبدأ و المقصد، و بعبارة أخرى مقدار بعد المسافر عن مبدأ سيرة، و هي أخبار:

1- ما رواه الصدوق عن زرارة و محمّد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي و كم هي؟ فقال: «إنّ اللّٰه عز و جلّ يقول وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ (إلى أن قال:) «و قد سافر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذي خشب، و هي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان: أربعة و عشرون ميلا، فقصّر و أفطر فصارت سنة.» الحديث. (1)

و قد ذكرناه في أوّل المسألة أيضا.


1- الوسائل 5- 491 (ط. أخرى 8- 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4، و 5- 538 (ط. أخرى 8- 517)، الباب 22 منها، الحديث 2.

ص: 98

«و ذي خشب» بضمتين: واد على مسيرة ليلة من المدينة.

و لا يخفى أنّ الكلام و النزاع بين المسلمين في الصدر الأوّل كان في مقدار المسافة الامتدادية، أعني الواقعة بين مبدأ السفر و المقصد، و لم يكن بينهم اسم من التلفيق، فكان أبو حنيفة يعتبر في البعد الواقع بين المبدأ و المقصد أن يكون بمقدار ثلاث مراحل، و الشافعي بمقدار مرحلتين. فمحطّ النظر في الخبر و أمثاله أيضا بيان مقدار البعد في قبالهم. فالخبر و أمثاله ظاهرة في الامتدادية، و يستفاد منها عدم ثبوت القصر إذا كان المسافة الواقعة بين المبدأ و المقصد أقلّ من ثمانية، اللهم إلّا أن يقال:

إنّ الرواية ليست في مقام بيان أدنى المسافة و أنّ أقلّها ثمانية، بل هي بصدد بيان سفر خارجي صدر عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذي خشب فقصّر فيه، لردّ أبي حنيفة و أمثاله القائلين بالمرحلتين و المراحل. فمراده عليه السلام بيان أنّ الأقلّ من المراحل أيضا يوجب القصر متمسكا بعمل النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، حيث سافر إلى ذي خشب فقصّر و أفطر مع عدم كونه بمقدار المراحل. و بالجملة الحديث بصدد ردّ اعتبار الزائد على الثمانية، لا بصدد بيان أقلّ المسافة، فافهم.

2- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: في كم يقصّر الرجل؟ فقال:

«في بياض يوم أو بريدين. خرج رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذي خشب فقصّر.» فقلت:

فكم ذي خشب؟ فقال: «بريدان.» (1)

3- ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال:

سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، و هي ثمانية فراسخ.

و من سافر فقصّر الصلاة أفطر، إلّا أن يكون رجلا مشيّعا، أو يخرج إلى صيد أو إلى


1- المصدر السابق 5- 492 (ط. أخرى 8- 454)، الباب 1 منها، الحديثان 11 و 12، عن التهذيب 4- 222.

ص: 99

قرية له فيكون مسيرة يوم لا يبيت إلى أهله لا يقصر و لا يفطر.» (1). 4- ما رواه أيضا بإسناده عن الحسن بن علي بن فضّال (2)، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال في التقصير: «حده أربعة و عشرون ميلا.» (3)

5- ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن عبد اللّٰه بن يحيى الكاهلي، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول في التقصير في الصلاة فقال: «بريد في بريد: أربعة و عشرون ميلا.» ثم قال: إنّ أبي كان يقول: «إنّ التقصير لم يوضع على البلغة السفواء أو الدابة الناجية (4)، و إنّما وضع على سير القطار.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن الكاهلي. (5)

6- ما رواه بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن التقصير. قال:

فقال: «في بريدين أو بياض يوم.» (6)

7- ما رواه بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال، عن محمد و أحمد ابني


1- هكذا في التهذيب المطبوع [قديما] ج 1 ص 283 ط. أخرى 4- 222. و في ج 1 ص 181 ط. أخرى 3- 207: محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد، عن الحسين، عن الحسن، و ذكر نحوه إلّا أنّه قال: «يكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصّر و لا يفطر.» و كذلك في الاستبصار ج 1 ص 222 و كذلك عنه في الوسائل 5- 510 ط. أخرى 8- 477، الّا أنه قال: «مشيّعا لسلطان جائر»، فراجع. ح ع- م.
2- هكذا في «التهذيب». و في «الاستبصار»: علي بن الحسن بن فضّال.
3- الوسائل 5- 493 (ط. أخرى 8- 454)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 14، عن التهذيب 4- 221، و الاستبصار 1- 223.
4- سفا الدابّة يسفوا سفوّا كعلوا: أسرعت في مشيها. و مثله نجا ينجو نجاء.
5- الوسائل 5- 491 (ط. أخرى 8- 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
6- المصدر السابق 5- 492 (ط. أخرى 8- 453) و الباب، الحديث 7.

ص: 100

الحسن أخويه، عن أبيهما، عن عبد اللّٰه بن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في الرجل يخرج من منزله يريد منزلا له آخر أو ضيعة له أخرى؟ قال:

«إن كان بينه و بين منزله أو ضيعته التي يؤمّ بريدان قصّر، و إن كان دون ذلك أتمّ.» (1)

8- ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن محمد بن عبد اللّٰه و هارون بن مسلم جميعا، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال:

سألته عن التقصير في الصلاة، فقلت له: إنّ لي ضيعة قريبة من الكوفة، و هي بمنزلة القادسية من الكوفة، فربّما عرضت لي الحاجة [حاجة- خ] أنتفع بها أو يضرّني القعود عنها في رمضان، فأكره الخروج إليها، لأني لا أدري أصوم أو أفطر. فقال لي:

«فاخرج و أتمّ الصلاة و صم، فإني قد رأيت القادسية.» فقلت له: كم أدنى ما يقصّر فيه الصلاة؟ قال: «جرت السنة ببياض يوم.» فقلت له: إنّ بياض يوم يختلف، فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم، و يسير الآخر أربعة فراسخ و خمسة فراسخ في يوم. قال: فقال: «إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيت سير هذه الأميال [الأثقال- الوسائل] بين مكة و المدينة، ثم أومأ بيده: «أربعة و عشرين ميلا تكون ثمانية فراسخ.» (2)

و لعل إيماءه عليه السلام كان تقية من جهة حضور أحد المخالفين.

9- ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان في العلل الّتي سمعها من الرضا عليه السلام: «و إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك و لا أكثر، لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة و القوافل و الأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم.

و لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة. و ذلك لأنّ كلّ يوم يكون


1- المصدر السابق 5- 521 (ط. أخرى 8- 492)، الباب 14 منها، الحديث 3.
2- المصدر السابق 5- 493 (ط. أخرى 8- 455)، الباب 1 منها، الحديث 15، و 5- 521 (ط. أخرى 8- 492)، الباب 14، الحديث 4.

ص: 101

بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره، إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما.» (1)

و مراده عليه السلام: أنّ ما يوجب الترخيص في القصر، أعني المشقة الزائدة الحاصلة بالسفر، إنّما تتحقق في حال السير فقط. فكلّ يوم يتحقق فيه بالسير مشقة زائدة على حال الحضر، و هي التي توجب القصر، و هذه المشقة ترتفع في الليل بالاستراحة، و تتجدد في اليوم الثاني بالسير و هكذا. فإذا لم يكف المشقة الحاصلة في يوم لإيجاب القصر لم يكف المشقة الحاصلة بعد هذا اليوم أيضا.

و بعبارة أخرى: الناس في الحضر أيضا يتحملون المشاق لتأمين المعاش، غاية الأمر أنّ السفر يزيد المشقة، فثبت القصر لتلك المشقة الزائدة، و مشقة كلّ يوم ترتفع بالاستراحة في الليل، فلو لم يكن هذا المقدار من المشقة موجبا للقصر لما وجب في مسيرة ألف سنة أيضا لحصول الفترة بين المشقات بالاستراحة في الليل.

10- ما رواه أيضا في العيون، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون: «و التقصير في ثمانية فراسخ و ما زاد، و إذا قصرت أفطرت.» (2)

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على كون المسافة الموجبة للقصر ثمانية فراسخ. و إن أبيت عن دلالة بعضها على تحديد المسافة من جانب القلّة بنحو ينافيها أخبار الأربعة فلا ريب في أنّ أكثرها ظاهرة في أنّ أقلّ ما يوجب القصر هو الثمانية، بل بعضها صريحة في ذلك، بحيث ينفي الأقلّ، كخبر فضل بن شاذان السابق. و قد عرفت أنّ المتبادر من الجميع هو الثمانية الامتدادية التي يبعد المسافر بسبب طيّها عن مبدأ سيره.


1- المصدر السابق 5- 490 (ط. أخرى 8- 451)، الباب 1 منها، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 492 (ط. أخرى 8- 453) و الباب، الحديث 6.

ص: 102

أخبار الأربعة

الطائفة الثانية: ما تدلّ على أنّ المسافة الموجبة للقصر أربعة فراسخ، أو بريد، أو اثنا عشر ميلا على اختلاف التعبيرات فيها، من غير ذكر لدخالة الرجوع في ذلك.

فالمستفاد منها كون نفس الأربعة تمام الموضوع لثبوت القصر. و الظاهر منها أيضا كونها بصدد بيان مقدار الامتداد و البعد الواقع بين المبدأ و المقصد. و هي أيضا أخبار كثيرة:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «التقصير في بريد، و البريد أربعة فراسخ» و رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير مثله. (1)

2- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن معاوية بن حكيم، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي الجارود، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: في كم التقصير؟ فقال: «في بريد.» (2)

3- ما رواه أيضا عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن حماد بن عثمان، عن محمد بن النعمان، عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال:

سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن التقصير. فقال: «في أربعة فراسخ.» (3)

و إسماعيل بن الفضل من بني نوفل بن عبد المطلب، و كثر فيهم العلماء و المحدّثون، و أكثرهم من سكّان البصرة.

4- ما رواه عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حماد، عن زيد الشحام، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: «يقصّر الرجل في مسيرة اثني عشر ميلا.» (4)


1- المصدر السابق 5- 494 و 497 (ط. أخرى 8- 456 و 459)، الباب 2، الحديثان 1 و 10.
2- المصدر السابق 5- 495 (ط. أخرى 8- 458) و الباب، الحديث 6.
3- المصدر السابق 5- 495 (ط. أخرى 8- 457) و الباب، الحديث 5.
4- المصدر السابق 5- 494 (ط. أخرى 8- 456) و الباب، الحديث 3

ص: 103

5- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أدنى ما يقصّر فيه؟ قال: «بريد.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الكليني و عن علي بن إبراهيم. (1)

6- ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد اللّٰه بن بكير، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن القادسية أخرج إليها أتمّ أم أقصّر؟

قال: «و كم هي؟» قلت: هي التي رأيت. قال: «قصّر». (2)

و القادسية موضع بينه و بين الكوفة خمسة فراسخ. فالرواية أيضا من أخبار الباب، إذ كلّ ما هو دون الثمانية حكمه حكم الأربعة بلا خلاف.

7- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى، عن عمران بن محمد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك، إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلا: خمسة فراسخ، فربّما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيّام أو خمسة أيّام أو سبعة أيّام، فأتمّ الصلاة أم أقصّر؟ فقال: «قصّر في الطريق و أتم في الضيعة.» (3)

8- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى الخزاز، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «بينا نحن جلوس، و أبي عند وال لبني أمية على المدينة، إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قبيل، فسألهم عن التقصير، فقال قائل منهم: في ثلاث، و قال قائل منهم: يوما و ليلة. و قال قائل منهم: روحة، فسألني. فقلت له: إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: في كم ذاك؟ فقال: في بريد. فقال: و أي شي ء البريد؟ قال: ما بين ظلّ عير إلى في ء وعير. ثمّ عبرنا زمانا ثم رأى بنو أمية يعملون أعلاما على الطريق و أنّهم ذكروا ما تكلّم به أبو جعفر عليه السلام، فذرعوا ما بين ظلّ


1- المصدر السابق 5- 497 (ط. أخرى 8- 460) و الباب، الحديث 11.
2- المصدر السابق 5- 496 (ط. أخرى 8- 458) و الباب، الحديث 7.
3- المصدر السابق 5- 523 (ط. أخرى 8- 496)، الباب 14 منها، الحديث 14.

ص: 104

عير إلى في ء و عير، ثمّ جزّؤه على اثني عشر ميلا، فكانت ثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع كلّ ميل، فوضعوا الأعلام، فلمّا ظهر بنو هاشم غيروا أمر بني أمية غيره، لأن الحديث هاشمي، فوضعوا إلى جنب كلّ علم علما.» (1)

و محمد بن يحيى العطار من الطبقة الثامنة من شيوخ الكليني. و الخزاز من الطبقة السادسة.

9- ما رواه الصدوق. قال: و قال الصادق عليه السلام: «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله لمّا نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلّى اللّٰه عليه و آله: في كم ذلك؟ فقال: في بريد. فقال: و كم البريد؟ قال: ما بين ظلّ عير إلى في ء وعير، فذرعته بنو أمية ثمّ جزّؤه على اثني عشر ميلا، فكان كلّ ميل ألفا و خمسمائة ذراع، و هو أربعة فراسخ.» (2)

وعير كطير و وعير كزبير جبلان بالمدينة. و إنما عبّر في عير بالظلّ و في وعير بالفي ء إذ الأوّل واقع في جهة المشرق و الثاني في جهة المغرب فالاعتبار في عير بظلّه الموجود في طرف الصبح، و في وعير بظلّه الحادث بعد الظهر المتوجه إلى عير. و الفي ء هو الظلّ الحادث، من فاء: إذا رجع. (3)

10- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سئل عن حدّ الأميال التي يجب فيها التقصير. فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «إن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله جعل حدّ الأميال من ظلّ عير إلى ظلّ وعير. و هما جبلان بالمدينة، فإذا طلعت الشمس وقع ظلّ عير إلى ظلّ


1- المصدر السابق 5- 497 (ط. أخرى 8- 460)، الباب 2 منها، الحديث 13.
2- المصدر السابق 5- 498 (ط. أخرى 8- 461) و الباب، الحديث 16.
3- في رسالة بحر العلوم: «و المراد بما بين الظلّين: ما بين الجبلين. و إنّما عبر بالظلّ للتنبيه على أنّ الحد هو ما بين الطرفين الداخلين الذين هما مبدأ الظلّ فهو تأكيد لمقتضى البينة الظاهرة في ذلك. و أمّا منتهى الظلّ فهو غير منضبط بل غير متناه في بعض الأوقات.» راجع مفتاح الكرامة 3- 507، فإنّه أورد الرسالة فيه.

ص: 105

وعير. و هو الميل الذي وضع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله عليه التقصير.» (1)

هذه هي الأخبار الدالّة على أنّ المسافة الموجبة للقصر أربعة فراسخ. و قد عرفت أنّ الظاهر منها أيضا كونها بصدد بيان مقدار الامتداد و البعد الواقع بين المبدأ و المقصد. و يظهر منها أيضا كونها بصدد بيان مقدار الامتداد و البعد الواقع بين المبدأ و المقصد. و يظهر منها أنّ الأربعة تمام الموضوع للقصر من دون دخالة للرجوع في ذلك. فلو لم يكن لنا أخبار أخر تفسرها لكان التعارض بين الطائفة الأولى و هذه الطائفة بينا، و لكن الطائفة الثالثة بمنزلة المفسر لهذه الطائفة، و بملاحظتها يرتقع التعارض بينهما كما سيظهر.

أخبار التلفيق

الطائفة الثالثة: ما تدل على أنّ الأربعة مسافة بشرط أن يتعقبها الرجوع حتى يصير الملفّق منهما ثمانية. و هي أيضا أخبار كثيرة:

1- ما رواه الصدوق عن جميل بن دراج، عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن التقصير. فقال: «بريد ذاهب و بريد جائي.»

قال: «و كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا أتى ذبابا قصّر، و ذباب على بريد، و إنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ.» (2)

2- ما رواه في العيون و العلل بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام، قال: «إنما وجبت الجمعة على من يكون على رأس فرسخين لا أكثر من ذلك، لأنّ ما تقصّر فيه الصلاة بريدان ذاهبا و بريد ذاهبا و بريد جائيا. و البريد أربعة فراسخ.

فوجبت الجمعة على من هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، و ذلك لأنّه يجي ء فرسخين و يرجع فرسخين، و ذلك أربعة فراسخ، و هو نصف طريق المسافر.» (3)


1- الوسائل 5- 497 (ط. أخرى 8- 460)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
2- المصدر السابق 5- 498 (ط. أخرى 8- 461) و الباب، الحديثان 14 و 15، عن الفقيه 1- 449.
3- المصدر السابق 5- 498 (ط. أخرى 8- 462) و الباب، الحديث 18.

ص: 106

3- ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن معاوية بن وهب، قال:

قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أدنى ما يقصّر فيه المسافر الصلاة؟ قال: «بريد ذاهبا و بريد جائيا.» (1)

4- ما رواه أيضا بإسناده عن الصفّار، عن محمد بن عيسى، عن سليمان بن حفص المروزي، قال: قال الفقيه عليه السلام: «التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا و جائيا. و البريد ستة أميال، و هو فرسخان. فالتقصير في أربعة فراسخ. فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلا، و ذلك أربعة فراسخ، ثم بلغ فرسخين و نيّته الرجوع، أو فرسخين آخرين قصّر. و إن رجع عما نوى عند ما بلغ فرسخين و أراد المقام فعليه التمام. و إن كان قصّر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة.» (2)

و الفراسخ و الأميال فيه محمولة على الخراسانية، بقرينة كون الراوي خراسانيا، و الفرسخ الخراساني ضعف الفرسخ العرفي.

و سليمان من الطبقة السادسة. و المراد بالفقيه هنا هو الرضا عليه السلام، و إن كان ربما يحتمل أيضا كون سليمان من الطبقة السابعة و كون المراد بالفقيه أبا الحسن الثالث عليه السلام.

5- ما رواه أيضا عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن رجل، عن صفوان، قال: سألت الرضا عليه السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان و هي أربعة فراسخ من بغداد، أ يفطر إذا أراد الرجوع و يقصّر؟ فقال: «لا يقصّر و لا يفطر، لأنه خرج من منزله و ليس يريد السفر ثمانية فراسخ، إنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه. و لو أنّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا و جائيا لكان عليه أن ينوي من


1- المصدر السابق 5- 494 (ط. أخرى 8- 456) و الباب، الحديث 2.
2- المصدر السابق 5- 495 (ط. أخرى 8- 457) و الباب، الحديث 4

ص: 107

الليل سفرا و الإفطار. فإن هو أصبح و لم ينو السفر فبدا له من بعد أن أصبح في السفر قصّر و لم يفطر يومه ذلك.» (1)

6- ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد بن أسلم الجبلي، عن صباح الحذاء، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوم خرجوا في سفر، فلمّا انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة، فلمّا صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو على أربعة فراسخ تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم و هم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أيّاما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: «إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم، أقاموا أو انصرفوا. و إن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة، أقاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصّروا.»

و روى الصدوق في العلل عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن علي بن الحسين السعدآبادى، عن أحمد بن أبي عبد اللّٰه البرقي، عن محمد بن علي الكوفي، عن محمد بن أسلم الجبلي نحوه، و زاد: ثم قال: «و هل تدري كيف صار هكذا؟» قلت: لا أدري. قال: «لأنّ التقصير في بريدين، و لا يكون التقصير في أقلّ من ذلك. فلمّا كانوا قد ساروا بريدا و أرادوا أن ينصرفوا كانوا قد ساروا سفر التقصير.

فإن كانوا ساروا أقلّ من ذلك لم يكن لهم إلّا إتمام الصلاة.» قلت: أ ليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: «بلى إنّما قصّروا في ذلك الموضع لأنّهم لم يشكّوا في مسيرهم و أنّ السير يجدّ بهم، فلمّا جاءت


1- المصدر السابق 5- 503 (ط. أخرى 8- 468)، الباب 4 منها، الحديث 1، و 5- 496 (ط. أخرى 8- 458)، الباب 2، الحديث 8.

ص: 108

العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا.» (1)

7- ما رواه في تحف العقول عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون، قال:

«و التقصير في أربعة فراسخ بريد ذاهبا و بريد جائيا اثنا عشر ميلا و إذا قصّرت أفطرت.» (2)

و مؤلف الكتاب مجهول و إن نسب إلى الحسن بن علي بن شعبة. (3)

8- ما رواه القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام عن الباقر عليه السلام، قال:

«يقصّر الصلاة في بريدين ذاهبا و راجعا.» قال القاضي: يعني إذا كان خارجا إلى سفر مسيرة بريد و هو يريد الرجوع قصّر، و إن كان يريد الإقامة لم يقصّر حتى تكون المسافة بريدين. (4)

فهذه ثلاث طوائف من أخبار الباب (5).


1- المصدر السابق 5- 501 (ط. أخرى 8- 466)، الباب 3 منها، الحديثان 10 و 11، عن الكافي 3- 433، و العلل- 367، باب نوادر علل الصلاة.
2- المصدر السابق 5- 498 (ط. أخرى 8- 462)، الباب 2 منها، الحديث 19.
3- راجع ما حرّره المقرّر- دام ظلّه العالي- حول الكتاب و مؤلّفه في المجلد الأوّل من كتابه القيّم: «دراسات في المكاسب المحرّمة» ص 88.
4- دعائم الإسلام 1- 196- ذكر صلاة المسافر.
5- و أمّا التحديد بثلاثة برد كما في صحيحة البزنطي، أو مسيرة يومين كما في رواية أبي بصير التهذيب 3- 209، أو مسيرة يوم و ليلة كما في رواية زكريا بن آدم الفقيه 1- 450، فمأوّل، أو محمول على التقية، لإجماع الفرقة المحقة على عدم اعتبار الأزيد من ثمانية. و أمّا ما في رواية أبي سعيد الخدري من أن النبي صلّى الله عليه و آله كان إذا سافر فرسخا قصّر الصلاة، و ما رواه عمرو بن سعيد، قال كتب إليه جعفر بن أحمد يسأله عن السفر و في كم التقصير؟ فكتب بخطه- و أنا أعرفه-: «قد كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا سافرا و خرج في سفر قصّر في فرسخ.» ثم أعاد عليه من قابل المسألة إليه، فكتب إليه: «في عشرة أيّام» فقد حملهما الشيخ في التهذيب 4- 224 على أنّ قاصد المسافة يجوز له أن يقصّر إذا سار مقدار فرسخ و نحوه، إذ ليس الاعتبار بما يسير الإنسان، بل الاعتبار بالمسافة يجوز له أن يقصر إذ سار مقدار فرسخ و نحوه، إذ ليس الاعتبار بما يسير الإنسان، بل الاعتبار بالمسافة المقصودة و إن لم يسرها دفعة واحدة. ح ع- م.

ص: 109

الجمع بين الطوائف الثلاث

و قد عرفت أنّ مفاد الطائفة الأولى كون أدنى المسافة ثمانية فراسخ، و مفاد الطائفة الثانية كون أدناها أربعة، و مفاد الطائفة الثالثة أنّ الأربعة توجب القصر إذا تعقّبها الرجوع لا مطلقا.

و لو لا هذه الطائفة كان التعارض بين الأوليين مستقرا، و لكن الطائفة الثالثة بمنزلة المفسر لهما، إذ بملاحظتها يظهر أنّ المراد بالثمانية في الطائفة الأولى أعمّ من الامتدادية و التلفيقية أو أنّ التلفيقية أيضا بحكم الامتدادية، و أنّ المراد بالأربعة في الطائفة الثانية ليس مطلق الأربعة، بل الأربعة التي يتعقبها الرجوع حتى يحصل بضمّه إلى الذهاب ثمانية فراسخ، و إنّما ذكر الأربعة لبيان أقلّ البعد و الامتداد المعتبر بين المبدأ و المقصد لا لبيان كفايتها بنفسها في إيجاب القصر و إن لم يتعقبها الرجوع.

و هذا جمع عرفي يرتفع به التهافت بين الطائفتين.

و ربّما يجمع بينهما أيضا بأن الثمانية علة لوجوب القصر تعيينا، و الأربعة علة لثبوته تخييرا بينه و بين الإتمام.

و يرد عليه مضافا إلى أنّه لا شاهد له، أنّه مخالف لظاهر أخبار الأربعة، لظهورها في كون الأربعة علة لوجوب القصر لا لجوازه.

و كيف كان فمقتضى الجمع العرفي بين الطوائف الثلاث بعد ملاحظة الجميع هو الالتزام بكون المسافة الموجبة للقصر عبارة عن الثمانية، سواء كانت امتدادية أم حصلت بالتلفيق من دون أن يكون بينهما فرق في إيجاب القصر. (1)

فهذا إجمالا مما لا إشكال فيه، و لكن المهم هو البحث في مقامين:


1- لا يخفى عدم تأتي هذا الجمع في رواية عمران بن محمد (الرواية السابعة من الطائفة الثانية.) و ربما توجه بعدم كون الضيعة وطنا له، فيكون وظيفته القصر مطلقا، و إنّما أمر بالإتمام في الضيعة تقية. ح ع- م.

ص: 110

البحث في مقامين
اشارة

الأول: هل يعتبر في المسافة التلفيقية عدم كون الذهاب أقلّ من أربعة أو لا؟

و على فرض الاعتبار فهل يعتبر ذلك في الإياب أيضا أو لا؟ مثلا لو كان لبلد طريقان أحدهما خمسة و الآخر ثلاثة فذهب من أحدهما و رجع من الآخر فهل يثبت القصر مطلقا، أو لا يثبت مطلقا، أو يعتبر في ثبوته كون الذهاب من أبعد الطريقين؟

و لو تردد في فرسخين أربع مرّات بالذهاب و الإياب حتى حصل الثمانية فهل يكفي ذلك في ثبوت القصر أو لا يكفي؟

الثاني: هل يشترط في التلفيقية أن يتحقق الذهاب و الإياب في يوم واحد أو لا؟

و بعبارة أخرى: هل يشترط فيها كون الرجوع ليومه أو لا؟

اعتبار عدم كون الذهاب أقلّ من أربعة

أمّا المقام الأوّل فالحق فيه هو الاعتبار في جانب الذهاب دون الإياب، فيعتبر في الذهاب عدم كونه أقلّ من أربعة. و السرّ في ذلك أنّ أخبار الثمانية كانت ظاهرة في بيان المسافة الامتدادية الحاصلة بين المبدأ و المقصد و أن أقلّها ثمانية، و أخبار الأربعة كانت ظاهرة في أنّ أقلها أربعة فتعارضتا جدّا، و قد رفعنا اليد عن ظاهر كلّ منهما بسبب أخبار التلفيق. و الواجب في رفع اليد عن ظهورهما هو الاقتصار على قدر ما يقتضيه الطائفة الثالثة، إذ لا يجوز رفع اليد عن الظهورات إلّا بقدر المزاحمات.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ أخبار الثمانية كانت ظاهرة في أمرين: أحدهما أن السير الذي يتحقق به السفر الموجب للقصر يجب أن يكون بمقدار ثمانية فراسخ.

و ثانيهما أنّه لا بد أن يكون ذلك على نحو الامتداد بحيث يحصل به البعد عن مبدأ السير. و بعبارة أخرى: يجب أن يكون البعد عن المبدأ أيضا بمقدار الثمانية.

ص: 111

و أخبار الأربعة أيضا كانت ظاهرة في أمرين: الأول: اعتبار كون السير بمقدار الأربعة.

الثاني: اعتبار كون البعد و الامتداد أيضا بمقدار الأربعة.

فلكلّ من الطائفتين ظهوران، و أخبار التلفيق إنّما تزاحم أخبار الثمانية بالنسبة إلى ظهورها الثاني لا الأوّل، إذ هي أيضا تدلّ على اعتبار كون مقدار السير ثمانية.

و تزاحم أخبار الأربعة بالنسبة إلى ظهورها الأوّل لا الثاني. فظهور أخبار الأربعة في اعتبار كون البعد و الامتداد الواقع بين المبدأ و المقصد أربعة فراسخ مما لا يزاحمه شي ء بل يؤكده أخبار التلفيق أيضا، فيجب الأخذ به.

و بعبارة أخرى: بعد تحكيم أخبار التلفيق على الطائفتين يلزم بالنسبة إلى أخبار الثمانية رفع اليد عن ظهورها في الامتداد و أمّا ظهورها في اعتبار كون السير بمقدار الثمانية فمحفوظ بل يؤكده أخبار التلفيق، و بالنسبة إلى أخبار الأربعة رفع اليد عن ظهورها في كون سير الأربعة تمام الموضوع للقصر، و أمّا ظهورها في اعتبار كون الامتداد بين المبدأ و المقصد بمقدار الأربعة فلا يزاحمه أخبار التلفيق بل تؤكده، إذ يستفاد من كلتيهما أن أقلّ الامتداد و المسافة المعتبرة بين المبدأ و المقصد هو الأربعة.

و بعبارة ثالثة: أخبار التلفيق شاهدة على أن أخبار الأربعة أعني الطائفة الثانية لم تكن بصدد بيان مقدار السير المعتبر بل كانت بصدد بيان أدنى البعد و الامتداد المعتبر بين المبدأ و المقصد، و لو لم تحمل على ذلك أيضا لزم طرحها رأسا، فتدبّر.

فإن قلت: فليعتبر ذلك في الرجوع أيضا، فإن أخبار التلفيق تدلّ على اعتبار كون كلّ من الذهاب و الإياب بمقدار الأربعة. و بعبارة أخرى: امّا أن يلقى خصوصية الأربعة في كليهما و يقال: إن المقصود حصول الثمانية بأيّ نحو اتفقت، غاية الأمر كون الفرد الغالب من التلفيق هو صورة كون كلّ من الذهاب و الإياب أربعة فلذا خصّصت بالذكر، و إمّا أن يقال باعتبار خصوصية الأربعة في كليهما، فما وجه الفرق بينهما؟

ص: 112

قلت: وجه الفرق إلقاء العرف لخصوصية الأربعة في طرف الإياب دون الذهاب. و السرّ في ذلك ما أشرنا إليه آنفا من أنّه بعد ما عملنا بمقتضى أخبار التلفيق و حكمنا باعتبار كون السير بمقدار الثمانية قطعا، كما هو المستفاد من أخبار الثمانية أيضا، لم يبق لأخبار الطائفة الثانية أعني الأربعة محمل صحيح إلّا أن يقال بأنّها وردت لبيان أدنى البعد و الامتداد المعتبر بين المبدأ و المقصد، و قد دلّت على أن الأربعة أدناه، فيجب الأخذ بمقتضاها، و ما هو الملاك عرفا لاعتبار البعد هو الذهاب دون الإياب، فإن كان الذهاب بمقدار الأربعة صدق عرفا أن المسافة بريد و إن كان الإياب أقلّ منه، و لا عكس، إذ لو كان الذهاب أقلّ من أربعة لم يصدق عرفا أنّه سافر بريدا.

و أمّا ذكر البريد في طرف الإياب فإنّما هو من جهة أنَّه الفرد الغالب للإياب إذا كان الذهاب بريدا، إذ الغالب وحدة الطريق أو تقارب الطريقين بحسب المقدار، و لا يرى العرف لخصوصية دخلا في الحكم.

و لنوضح ذلك بذكر مثال، و هو أنّه إذا ذهب ستة فراسخ و رجع ستة فالفروض المتصورة أربعة:

1- أن يقال: إنّ موجب القصر في المثال هو ستة الذهاب و اثنان من الإياب.

2- أن يقال: إنّ المسافة الموجبة للقصر بالنسبة إلى هذا الشخص هي المجموع من ستة الذهاب و ستة الإياب.

3- أن يقال: إنّ المسافة بالنسبة إليه ستة الذهاب مع الأربعة من الإياب.

4- أن يقال: إنّ المسافة بالنسبة إليه أربعة من الذهاب و أربعة من الإياب.

و الثلاثة الأخيرة كلّها باطلة، فتعيّن الأوّل. و مقتضاه عدم اعتبار كون الإياب أربعة. و وجه بطلان الفروض الثلاثة أنّ مقتضى الأوّلين منها كون المسافة الموجبة للقصر أزيد من ثمانية، و هو باطل بضرورة من مذهبنا. و مقتضى الأخير كون الأربعة بشرط لا موجبة للقصر بحيث يكون الزائد عليها كالحجر المنضم إلى الإنسان، مع

ص: 113

بداهة أنّ الأربعة أقلّ المسافة المعتبرة. و بعبارة أخرى: المستفاد من أخبار الأربعة بضميمة أخبار التلفيق هو أنّ الأربعة أدنى البعد المعتبر في المسافة التلفيقية لا أنّ الزائد عليها غير مؤثر في القصر و يكون كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

و قد تخلص مما ذكرناه أنّ المستفاد من أخبار الطائفة الثانية هو أنّ الأربعة أدنى البعد و الامتداد المعتبر في ثبوت القصر، و لا تزاحمها في ذلك أخبار التلفيق، فيجب الأخذ به. و أمّا ذكر الأربعة في طرف الإياب فمن جهة أنّها الفرد الغالب لما إذا تحقق أدنى البعد المعتبر. فتدبّر في أخبار الطائفة الثانية و الثالثة حتى يتضح لك صحة ما ذكرناه. و مما له ظهور تامّ في كون الأربعة هي أدنى البعد المعتبر خبر فضل بن شاذان (الثاني من الطائفة الثالثة)، فراجع.

هل المعتبر في الملفّقة الرجوع ليومه؟

المقام الثاني: قد عرفت أنّ أخبار الثمانية و الأربعة و إن تعارضتا لكن أخبار التلفيق رافعة لتعارضهما، فيكون المستفاد من الجميع أن المسافة التي توجب القصر أعم من الثمانية الممتدة و الثمانية الملفقة.

و حينئذ فنقول: إنّه لا إشكال في أن الثمانية الامتدادية لا يشترط فيها طيّها في يوم واحد، بل توجب القصر و إن تحقق طيّها في أيّام عديدة ما لم يخرج عن صدق اسم السفر. و أخبارها أعني الطائفة الأولى و إن لم تكن صريحة في عدم الاشتراط بل غاية ما فيها هو الإطلاق لكن المسألة إجماعية.

و أمّا التلفيقية فهل يشترط فيها تحققها في يوم واحد، بأن يكون الرجوع ليومه، أو لا يشترط فيها ذلك؟

في المسألة قولان: فالمشهور بين أصحابنا اعتبار كون الرجوع ليومه، فإن لم يرجع ليومه حكم بعضهم بالتخيير و الباقون بتعيّن الإتمام.

ص: 114

و خالف المشهور في ذلك الحسن بن أبي عقيل العماني فقال: إنّ حكم التلفيقية حكم الثمانية الامتدادية، فلا يشترط طيّها في يوم واحد. و قد مرّت عبارته المحكية عنه في المختلف.

و يمكن أن يستدلّ له بوجهين:

الأول: أنّ المستفاد من أخبار التلفيق هو أنّ الأربعة إنّما توجب القصر من جهة أنّه يحصل بانضمام الرجوع إليها مصداق لأخبار الثمانية. و بعبارة أخرى: بعد تحكيم أخبار التلفيق على أخبار الثمانية يظهر أنّ المراد بالثمانية فيها مطلق الثمانية، سواء كانت امتدادية أو تلفيقية، و حيث لا يشترط في الامتدادية وقوع السير في يوم واحد فكذلك في التلفيقية، إذ غاية ما يستفاد منه عدم الاشتراط في الامتدادية إنما هو إطلاق أخبار الثمانية، و الفرض أنّها تعمّ التلفيقية أيضا بعد ما حكّمنا عليها أخبار التلفيق. فانظر إلى قوله عليه السلام- في رواية زرارة (الأولى من الطائفة الثالثة):

«و كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا أتى ذبابا قصّر. و ذباب على بريد. و إنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين: ثمانية فراسخ»- كيف يستفاد منه أنّ موجب القصر أمر واحد و هو الثمانية سواء كانت امتدادية أو تلفيقية.

لا يقال: إنّ من جملة أخبار التلفيق رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:

قال: سألته عن التقصير. قال: «في بريد» قال: قلت: بريد؟ قال: «إنّه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه.» و هي تدلّ على اعتبار الرجوع لليوم ليتحقق شاغلية السفر ليومه.

لأنّا نقول: لا نسلّم دلالة الرواية على الشاغلية الفعلية، بل الظاهر كونها ناظرة إلى ما في بعض أخبار الثمانية من أنّ إيجابها للقصر مستند إلى كونها مسيرة يوم، و هي مما توجب مشقة مقتضية للترخيص. فمفاد الحديث هو أنّ البريد بعد ضمّ الرجوع إليه يصير بمقدار مسيرة اليوم التي هي الملاك لثبوت القصر، و حيث لا يعتبر في الامتدادية

ص: 115

وقوع السير في يوم واحد بل يعتبر فيها كونها بمقدار مسيرة اليوم فكذلك في التلفيقية.

و إن شئت قلت: إنّ المشقة الحاصلة بمسيرة اليوم هي أدنى ما يقتضي الترخيص، و لا ينافي ذلك طيّ مقدار الثمانية في أزيد من يوم، إذ المشقة تصير حينئذ أزيد، من جهة أنّ سفره هذا شغل أيّاما.

و يمكن الخدشة في هذا الوجه بأنّ ما ذكرت من كون المراد بالثمانية في أخبارها مطلق الثمانية أعمّ من الامتدادية و التلفيقية ممنوع، و لا نسلّم اقتضاء أخبار التلفيق لذلك، إذ غاية ما تدلّ عليه هو أن الثمانية الملفقة أيضا توجب القصر مثل الممتدة لا أنّهما فردان لموضوع واحد.

بيان ذلك أنه يحتمل في أخبار التلفيق وجهان:

الأول: أن تكون شارحة و مفسرة لأخبار الثمانية حقيقة، بحيث توجب رفع اليد عن ظهورها في الامتداد، فيكون المراد بالثمانية فيها بعد ضمّ أخبار التلفيق مطلق الثمانية، سواء كانت امتدادية أم تلفيقية. و مقتضى ذلك أن يكون موجب القصر أمرا واحدا.

الثاني: أن يكون ظهور أخبار الثمانية في الامتداد محفوظا و يكون أخبار التلفيق بصدد بيان أنّ الثمانية الملفقة أيضا محكومة بحكم الامتدادية في إيجاب القصر و إن لم يعمّها أخبار الثمانية، فيكون للقصر موجبان: أحدهما: الثمانية الامتدادية و قد تكفّل لبيانها أخبار الطائفة الأولى. و ثانيهما: الثمانية الملفقة و يدلّ عليها أخبار التلفيق، و بين الموجبين عموم من وجه، لتحقق الأوّل فقط فيمن ذهب بريدين و لم يرجع، و الثاني فقط فيمن ذهب بريدا و رجع، و تحققهما فيمن ذهب بريدين و رجع.

إذا عرفت هذا فنقول: إن ثبت صحة الوجه الأوّل و أن موجب القصر أمر واحد كان الالتزام باشتراط أحد الفردين بشرط دون الآخر مشكلا جدّا، و لكن لنا أن نمنع ذلك و ندّعي أنّ أخبار التلفيق إنّما تدلّ على أنّ للقصر موجبا آخر وراء الثمانية

ص: 116

الامتدادية من دون أن نتصرف في ظهور أخبار الثمانية في الامتداد. و حينئذ فلا يبعد أن يشترط الملفقة بوقوعها في يوم واحد دون الممتدة. هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ مضامين أخبار التلفيق مختلفة، فيستفاد من بعضها عدم كونها بصدد بيان موضوع جديد للقصر بل تكون شارحة لأخبار الثمانية و تبيّن أن المراد بالثمانية فيها من أوّل الأمر هو الأعم، و ذلك كخبر زرارة الحاكي لسفر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذباب و رواية إسحاق بن عمّار الواردة في قوم تخلف عنهم رجل. نعم، لا يستفاد هذا المعنى من جميع روايات التلفيق، فراجع. (1)


1- في رسالة بحر العلوم في هذا المقام ما ملخصه: إمّا لأنّ الثمانية الملفّقة داخلة في مطلق الثمانية التي جعلت حد التقصير، كما هو الظاهر من صحيحة زرارة و مرسلة صفوان و رواية إسحاق بن عمّار، أو لأنّها في حكمها في إيجاب القصر و إن لم تكن داخلة فيها، و هذا هو المتجه. و يدلّ عليه أنه لو أريد بالثمانية ما يشمل الملفّقة فإمّا أن يراد ما يعم جميع أقسام التلفيق و هو باطل، أو خصوص التلفيق من بريدي الذهاب و الرجوع دون غيره من الصور، و هو تكلف شديد، فإنّ إطلاق الثمانية على الأعمّ من الذهابية و خصوص هذا القسم من الملفقة في غاية البعد من إطلاق اللفظ. فالوجه حملها على الذهابية كما هو الظاهر و إن وجب القصر في الملفقة أيضا، لما يدلّ على مساواتها لها في الحكم، و يشهد له أيضا ظاهر قول الرضا عليه السلام في حسنة الفضل: «لأنّ ما يقصر فيه الصلاة بريدان ذاهبا أو بريد ذاهبا و بريد جائيا»، و قول الفقيه العسكري عليه السلام في حسنة المروزي: «التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا و بريد جائيا». انتهى. (راجع مفتاح الكرامة 3- 512).

ص: 117

الأخبار المستفاد منها عدم اعتبار الرجوع ليومه
اشارة

الوجه الثاني: أخبار مستفيضة يستفاد منها عدم اعتبار الرجوع لليوم، و هي الطائفة الرابعة من الطوائف الخمس التي أشرنا إليها في صدر المسألة:

1- رواية إسحاق بن عمّار السابقة (السادسة من الطائفة الثالثة). و هي صريحة في عدم اعتبار كون الرجوع ليومه، حيث قال: «فأقاموا على ذلك أيّاما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون». هذا (1) و لكنّ الرواية ضعيفة، إذ في طريقها البرقي، و هو يروي عن الضعفاء. و محمد بن أسلم و صبّاح الحذّاء غير موثقين كما لا يخفى. (2) و ليس لنا غير هذه الرواية، رواية تدلّ بالصراحة على اعتبار الرجوع و عدم اعتبار كونه ليومه في ثبوت القصر تعيينا.

2- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «إنّ أهل مكة إذا خرجوا حجّاجا قصّروا، و إذا زاروا و رجعوا إلى منازلهم أتموا.» (3)

و لا يخفى أنّ عبيد اللّٰه بن علي الحلبي من ثقات رجال الشيعة، له كتاب حاو لدورة الفقه، ألفه قبل موطّإ مالك في حياة الصادق عليه السلام و عرضه عليه،


1- لأحد أن يمنع صراحة الرواية في ذلك، إذ موردها ما إذا كان المقصود أوّلا هو السفر الامتدادي، غاية الأمر ظهور البداء في الأثناء لتخلف رجل منهم، فيمكن كونه مخالفا في الحكم لما إذا كان المقصود من أوّل الأمر هو السفر التلفيقي. و لذلك ترى الشيخ «قده» في النهاية ص 124- مع أنّه حكم أوّلا فيما إذا كانت المسافة أربعة و لم يرد الرجوع ليومه بالخيار- قال أخيرا: «فإذا خرج قوم إلى السفر و ساروا أربعة فراسخ و قصّروا من الصلاة ثم أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر فعليهم التقصير إلى أن يتيسر لهم العزم على المقام إلخ»، فراجع. ح ع- م.
2- راجع تنقيح المقال 2- 80 (من أبواب الميم)، و 2- 95 (من أبواب الصاد) و تدبّر.
3- الوسائل 5- 500 (ط. أخرى 8- 465)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.

ص: 118

فاستحسنه و قال: «ليس لهؤلاء مثله» (1) 3- ما رواه أيضا بالإسناد عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «إنّ أهل مكة إذا زاروا البيت و دخلوا منازلهم أتموا، و إذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا.» (2)

4- ما رواه الشيخ بإسناده عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «أهل مكة إذا زاروا البيت و دخلوا منازلهم ثم رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، و إن لم يدخلوا منازلهم قصّروا.» (3)

5- ما رواه الصدوق بإسناده عن معاوية بن عمّار أنه قال لأبي عبد اللّٰه: إن أهل مكة يتمّون الصلاة بعرفات. فقال: «ويلهم!- أو ويحهم!- و أيّ سفر أشدّ منه؟

لا تتمّ.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى و حماد بن عيسى، عن معاوية بن عمار، إلّا أنّه قال: «لا تتمّوا» و رواه أيضا بسندين آخرين. و رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه و عن محمد بن إسماعيل:

عن الفضل بن شاذان، عن صفوان. (4)

و الويل كلمة العذاب، و الويح كلمة ترحم.

و معاوية بن عمار من ثقات أصحاب الصادق عليه السلام، له كتابان: كتاب في الحج، و كتاب في الطلاق. و لذا كثر رواياته في البابين، و أبوه عمّار الدهني من بني الدهن و من أكابر محدّثي العامّة. (5)

6- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن علي بن


1- راجع تنقيح المقال 2- 240.
2- الوسائل 5- 500 (ط. أخرى 8- 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 7.
3- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 4.
4- المصدر السابق 5- 499 (ط. أخرى 8- 463) و الباب، الحديثان 1 و 2.
5- راجع ميزان الاعتدال 3- 170 (الرقم 6005).

ص: 119

فضّال، عن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: في كم أقصّر الصلاة؟

فقال: «في بريد. ألا ترى أنّ أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير.» (1)

7- ما رواه عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن معاوية بن حكيم، عن سليمان بن محمد، عن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: في كم التقصير؟

فقال: في بريد. ويحهم! كأنهم لم يحجّوا مع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقصّروا.» (2)

8- ما رواه المفيد في المقنعة، قال: قال عليه السلام: «ويل لهؤلاء القوم الذين يتمون الصلاة بعرفات. أما يخافون اللّٰه؟» فقيل له فهو سفر؟ فقال: «و أيّ سفر أشدّ منه؟» (3) 9- ما رواه الشيخ بإسناده عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: من قدم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصلاة و هو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير. فإذا زار البيت أتمّ الصلاة و عليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر.» (4)

فهذه ثمان روايات غير رواية إسحاق بن عمار السابقة ربّما يستدل بها على قول ابن أبي عقيل. و لا يخفى أنّها و إن تكثرت لكن يمكن أن يقال: إنّ مرسلة المفيد ليست رواية على حدة، بل هي مأخوذة من المسانيد المذكورة. و الأربعة المنتهية إلى معاوية بن عمار أيضا يقرب في الذهن كونها رواية واحدة، و إنّما اختلفت في مقام النقل باختلاف الرواية عنه. و أمّا رواية إسحاق بن عمار فربما ينسبق إلى الذهن أيضا كونها إحدى روايات معاوية لتشابه المضمون، و إنّما نسبت إلى إسحاق اشتباها لتشابه أبويهما اسما. فيرجع الروايات الثمانية إلى ثلاث روايات: رواية للحلبي، و رواية لمعاوية بن عمار، و رواية لزرارة. لا يقال: صرف الاحتمال لا يترتب عليه أثر.


1- الوسائل 5- 500 (ط. أخرى 8- 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 5.
2- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 6.
3- المصدر السابق 5- 502 (ط. أخرى 8- 467) و الباب، الحديث 12.
4- المصدر السابق 5- 499 (ط. أخرى 8- 464) و الباب، الحديث 3.

ص: 120

فإنّه يقال: عمدة الدليل لحجية الخبر و الاعتماد عليه هو بناء العقلاء، و إذا تمشي احتمال عقلائي معتنى به عندهم صار مانعا عن الاعتماد و العمل. و كيف كان فالمتيقّن في المقام ثلاث روايات.

و تقريب الاستدلال بها أنّ الغالب و المندوب إليه شرعا هو خروج الحجّاج إلى عرفات في يوم التروية، و عودهم إلى مكة في يوم العيد أو في غده، فيقرب سفرهم إليها من يومين أو أزيد. و لو فرض خروجهم إليها في صباح عرفة و رجوعهم إلى مكة في ضحى العيد لكان مدة السفر أيضا أزيد من يوم و إن فسر بمجموع النهار و الليلة فيثبت بذلك عدم اعتبار وقوع الذهاب و الإياب في يوم واحد.

لا يقال: لعل المضرّ هو البقاء ليلا في المقصد لا في أثناء الرجوع، و المسافر إلى عرفات لا يبقى بها ليلا.

فإنّه يقال: إنّ نظر من يشترط الرجوع ليومه إلى وقوع مجموع الثمانية في يوم واحد حتى يشغل السفر يومه، فلا فرق عنده في عدم تحتم القصر بين من يبقى ليلا في المقصد أو في أثناء الرجوع.

المناقشة في الاستدلال بأخبار عرفات

و يمكن أن يناقش في الاستدلال بأخبار عرفات بأن المستفاد منها تحتم القصر على من خرج إلى عرفات حاجا، و أمّا اعتبار الرجوع و دخالته في ذلك فضلا عن اعتبار كونه ليومه فلا يستفاد منها، و بعبارة أخرى: مفاد أخبار عرفات مفاد الطائفة الثانية، أعني ما دلّت على كون الأربعة بنفسها محققة للسفر الموجب للقصر، و ليس فيها اسم من دخالة الرجوع في إيجابه.

و لو تفصيت عن ذلك بأن الاستدلال بها إنّما هو بعد ضمّ أخبار التلفيق إليها و تحكيمها عليها، فلنا أيضا أن نناقش في بعضها فنقول: أما رواية الحلبي و الأوليان من روايات معاوية فيحتمل أن يكون المراد بأهل مكة فيها أهل بواديها، بحيث يكون

ص: 121

من مقرّهم إلى عرفات ثمانية فراسخ، فلا يكون سفرهم تلفيقيا. و هذا الاحتمال و إن كان مخالفا لظاهر الروايات لكن يقربها كون الإتمام فيها معلقا على دخول المنازل، إذ لو كان المراد سكّان نفس البلد لم يصح تعليق الإتمام على زيارة البيت و دخول المنازل، بل وجب الإتمام بمحض الوصول إلى حدّ ترخص البلد. اللّهم إلّا أن يقال بعدم اعتبار حدّ الترخّص، و بقاء القصر إلى أن يصل المسافر إلى منزله كما اختاره ابن بابويه، أو يقال بأن المراد بدخولهم في منازلهم وصولهم إلى مكة، فيكون قوله:

«دخلوا منازلهم» مساوقا لقوله: «زاروا البيت»، و يكون أحدهما تأكيدا للآخر.

و بالجملة المحتملات في الروايات ثلاثة، و على الأوّل لا يثبت كون السفر تلفيقيا.

هذا، و لكن الإنصاف بعد هذا الاحتمال، فتدبّر. (1)

و أمّا الرواية الثالثة لمعاوية (الخامسة مما ذكر)، و كذا مرسلة المفيد المشتملتان على قوله: «و أيّ سفر أشدّ منه» فيمكن أن يقال: إنّه لا يصح أن يحمل أهل مكة أو القوم فيهما على جماعة المخالفين، إذ المشهور بينهم عدم تحتم القصر و جواز الإتمام في جميع الأسفار، كما عرفت، و لا يفرقون في ذلك بين السفر الشديد و غيره. فلو كان المراد بأهل مكة أو القوم هؤلاء لم يكن معنى لقوله عليه السلام في مقام العتاب: «و أيّ سفر أشدّ منه». فالمراد بأهل مكة أو القوم فيهما شيعتهم عليهم السلام الساكنون بمكة. و حينئذ فنقول:

من المحتمل أن الثابت في حق من سافر بريدا و لم يرجع ليومه كان هو التخيير بين القصر و الإتمام، كما نسب إلى المشهور، و أنّ الشيعة كانوا يلتزمون في مقام العمل بالإتمام، فصار الإمام عليه السلام بصدد بيان ما هو الأسهل، إرفاقا بهم و ترحما عليهم، لا للردع عن الإتمام. نعم، لو كان اللفظ الصادر عنه عليه السلام كلمة الويل كانت ظاهرة في العتاب و الردع، و لكن لم يثبت ذلك، فلعلّ الصادر عنه كلمة الويح الدالة على


1- و قد يقال: إن معنى الروايات هو أنّ أهل مكة إذا قصدوا زيارة البيت و رجعوا إليها لإتمام المناسك فوصلوا إلى منزلهم بالوصول إلى أوّل حدّ منه أتمّوا الصلاة. و إطلاق المنزل على البلد كثير شائع، و الوصول إلى أوّل حدّ البلد مساوق للوصول إلى حدّ الترخّص، فافهم. ح ع- م.

ص: 122

الترحم، و يشهد بذلك ترديد الراوي في رواية معاوية، فافهم.

و أمّا رواية إسحاق بن عمار فيقع الإشكال فيها لقوله عليه السلام: «كأنّهم لم يحجّوا مع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقصّروا.» إذ حجة الذي كان مع الناس هو حجة الوداع، و قد أمر صلّى اللّٰه عليه و آله أن ينادى للحج، ليخرج الناس معه و يتعلموا منه صلّى اللّٰه عليه و آله مناسك الحج، فاجتمع الناس حوله و خرجوا معه من المدينة بقصد الحج. فسفره هذا لم يكن تلفيقيا، بل أنشأه من المدينة و استمرّ سفره حتى ذهب إلى عرفات.

فلا يتمّ الاستشهاد بفعله صلّى اللّٰه عليه و آله على أهل مكة إذا خرجوا حجّاجا، إلّا إذا ثبت انقطاع سفره من المدينة بإقامة العشر في مكة، أو بكونها وطنا له أو في حكم الوطن.

و الأوّل باطل قطعا، فإنه صلّى اللّٰه عليه و آله خرج من المدينة لحجة الوداع في أربع بقين من ذي القعدة، و دخل مكة في أربع أو خمس مضت من ذي الحجة، و بعد ما أتمّ المناسك بمعنى خرج منه قاصدا للمدينة في الثالث عشر من ذي الحجة، و بقي بالأبطح برهة من الزمان ثم ذهب إلى المدينة (1). فلم يتحقق منه الإقامة في مكة أصلا.

و أمّا كون مكة وطنا له فغاية تقريبه أن يقال: إنّه صلّى اللّٰه عليه و آله كان من أهلها أوّلا و لم يثبت إعراضه عنها، أو يقال بأنه و إن أعرض لكن يثبت حكم الوطن لمن كان ذا ملك، و لعله صلّى اللّٰه عليه و آله كان مالكا فيها.

و فيه أنّ الظاهر أنّه صلّى اللّٰه عليه و آله أعرض عنها بالهجرة. و ينافي كونه مالكا فيها ما روي أنّ عقيلا عمد إلى دور بني هاشم في مكة فباعها بعد أن هاجر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، و قال له أسامة بن زيد يوم الفتح: أ تنزل غدا في دارك يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله؟ فقال صلّى اللّٰه عليه و آله: و هل ترك لنا عقيل من دار. (2) هذا.


1- راجع الكافي 4- 245، كتاب الحجّ، باب حج النبي صلّى اللّٰه عليه و آله، الحديث 4.
2- راجع السيرة الحلبية 3- 85، و مستند أحمد 5- 202، و المغازي للواقدي 2- 829. و عبارة السيرة هكذا: يا رسول اللّٰه أين تنزل غدا، تنزل في دارك؟.

ص: 123

و يمكن أن يقال: إنّ سفره صلّى اللّٰه عليه و آله إلى عرفات في حجة الوداع و إن كان امتداديا لكن كان معه في هذا السفر لا محالة كثير من أهل مكة، و لعلّهم قصّروا لأمر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إياهم بالتقصير. فمعنى قوله عليه السلام: «كأنّهم لم يحجوا مع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله فقصّروا» أنهم لم يحجوا معه فقصروا امتثالا لأمره لا تأسيا به و اتباعا لما فعله من القصر.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في أخبار عرفات. و لكن الإنصاف دلالتها على عدم اعتبار كون الرجوع ليومه بعد القول بدخالة أصل الرجوع بسبب ضمّها إلى أخبار التلفيق. هذا.

و أمّا ما رواه الكليني بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام من قصر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله بمنى ثلاثا و تأسي أبي بكر و عمر به، و مخالفة عثمان لذلك أثناء خلافته، و أمره عليا عليه السلام أيضا بالإتمام ليشدّ بذلك بدعته. (1) فلا يرتبط بالمقام، لما عرفت من عدم كون سفره صلّى اللّٰه عليه و آله في حجة الوداع تلفيقيا. فمحط النظر فيه ردّ العامّة القائلين بعدم تحتم القصر في السفر و جواز الإتمام فيه، احتجاجا عليهم بقصر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و الخلفاء بعده في الموقف العمومي بمحضر الناس و مشهدهم.

و قد يستدل أيضا على عدم اعتبار كون الرجوع لليوم بما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، و هو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء، فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة، ثم بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدر أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام. و كيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: «إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريدا فكان عليك حين رجعت أن تصلي بالتقصير، لأنّك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك.» قال:


1- راجع الوسائل 5- 500 (ط. أخرى 8- 465)، الباب 3 من أبواب الصلاة المسافر، الحديث 9.

ص: 124

«و إن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تريم من مكانك ذلك، لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصّرت.

و عليك إذا رجعت أن تتم الصلاة حتى تصير إلى منزلك.» (1)

و ابن هبيرة كان واليا للعراق من قبل بني أميّة. و قصره كان في حدود كربلاء.

و تقريب الاستدلال بالرواية أن الظاهر تعلق قوله: «في الليل» بالفعل المتقدم عليه لا بالرجوع، فيستفاد منها تحقق البداء في الليل. و أمّا الرجوع فيحتمل وقوعه فيه و في غيره. و مقتضى ترك الاستفصال في الجواب هو العموم، فيستفاد من الحديث عدم اعتبار كون الرجوع ليومه أو ليلته في السفر التلفيقي. هذا.

و لكن يرد عليه أنّ الرواية و إن دلّت على تحقق الرجوع خارجا لكنها لا تدلّ على دخالته في ثبوت القصر فضلا عن دلالتها على عدم اعتبار كونه ليومه.

و كيف كان فالظاهر أن المسألة من حيث الدليل مما لا إشكال فيها، إذ مضافا إلى إطلاق أخبار التلفيق الشامل لمن لم يرجع ليومه أيضا يدلّ عليها أخبار عرفات بعد تحكيم أخبار التلفيق عليها، و ظاهرها تحتم القصر لا جوازه. و لكن عمدة الإشكال في المسألة إعراض الأصحاب عنها، و عدم إفتائهم بتعيّن القصر لمن يرجع في يومه سوى ابن أبي عقيل. و قد أجمعوا في الثمانية الامتدادية على عدم اعتبار كون طيها في يوم واحد.

هذا مع أنّه ليس في الأدلّة ما يدلّ على ذلك سوى إطلاق أخبار الثمانية، و هذا الإطلاق بعينه موجود في أخبار التلفيق، مضافا إلى أخبار عرفات باستفاضتها و رواية إسحاق بن عمار السابقة الصريحة في عدم الاعتبار. و قد رووا هذه الأخبار في كتبهم


1- المصدر السابق 5- 504 (ط. أخرى 8- 469)، الباب 5 منها، الحديث 1، عن التهذيب 3- 298.

ص: 125

و كانت بمرآهم و مع ذلك لم يفتوا بمضمونها، بل تسالموا في الامتدادية على عدم اعتبار أن يكون طيّها في يوم واحد و في التلفيقية على اعتبار ذلك. فيعلم بذلك عدم اعتنائهم بما هو ظاهرا أخبار عرفات.

و لنا أن نستكشف من هذا التسالم- مع ظهور الأدلة في خلافه- وجود نصّ معتبر و أصل إليهم يدا بيد من الأئمة عليهم السلام، غاية الأمر عدم ضبطه في الجوامع التي بأيدينا. و قد عرفت منا سابقا أن أخبارنا- معاشر الإمامية- لم تكن مقصورة على ما في الجوامع التي بأيدينا، بل كان كثير منها موجودة في الجوامع الأوّلية و لم يذكرها المشايخ الثلاثة في جوامعهم. كيف! و بناء القدماء من أصحابنا كان على العمل بالمنصوصات فقط، و قد أفتوا باعتبار الرجوع لليوم في السفر التلفيقي في كتبهم المعدّة لنقل خصوص المسائل المنصوصة و المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام، كالهداية و المقنعة و النهاية و المراسم و نحوها.

فهذا التسالم منهم من أقوى الأمارات على وجود نصّ في المسألة و إن لم يصل إلينا.

و إن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من كونه سببا لوهن ما يدلّ على عدم الاعتبار، كأخبار عرفات و نحوها، إذ عمدة ما يدلّ على حجية الخبر هي السيرة و بناء العقلاء، و ليس بناؤهم على العمل بمثل تلك الروايات التي رواها الأصحاب في كتبهم و كانت بمرآهم و مع ذلك أعرضوا عنها و لم يفتوا بمضمونها.

و يؤيّد ما ذكرناه- من استكشاف وجود النصّ في المسألة- ما في الفقه الرضوي، حيث قال: «فإن كان سفرك بريدا واحدا و أردت أن ترجع من يومك قصّرت، لأنّ ذهابك و مجيئك بريدان. (إلى أن قال:) و إن سافرت إلى موضع مقدار أربع فراسخ و لم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار، فإن شئت أتممت و إن شئت قصّرت». (1)


1- فقه الرضا، ص 159 و 161، باب صلاة المسافر و المريض.

ص: 126

بحث في سند فقه الرضا

و قد اشتهر هذا الكتاب في الأعصار المتأخرة. و عن البحار: «كتاب فقه الرضا أخبرني به السيّد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين- طاب ثراه- بعد ما ورد أصفهان. قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي في جوار بيت اللّٰه الحرام أن أتاني جماعة من أهل قم حاجّين، و كان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا عليه السلام. و سمعت الوالد- رحمه الله- أنّه قال: سمعت السيد- رحمه اللّٰه- يقول: كان عليه خطه عليه السلام، و كان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء،.

فأخذت الكتاب و كتبته و صححته. فأخذ والدي «قده» هذا الكتاب من السيّد و استنسخه و صحّحه. و أكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر محمد بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند و ما يذكره والده في رسالته إليه.

و كثير من الأحكام التي ذكرها أصحابنا و لا يعلم مستندها مذكورة فيه». (1)

و لم يثبت لنا اعتبار الكتاب، و لكن يظهر من المجلسي و والده الاعتماد عليه لوجهين: الأوّل: وثوقهما بالقاضي أمير حسين، و اعتمادهما على ما أخبر به. الثاني:

موافقة عباراته لعبارات الفقيه و رسالة علي بن بابويه. و فتاويهما مأخوذة من متون الأخبار. و قد كان أصحابنا يعملون عند إعواز النصوص برسالة ابن بابويه، و أجاز السيّد في الموصليات لأهل موصل أن يعملوا برسالته. (2) و لم تصل هذه الرسالة إلينا


1- بحار الأنوار 1- 11، مصادر الكتاب.
2- لم تطبع الموصليات الأولى في المجموعات الأربع المطبوعة من رسائل الشريف المرتضى، و لم يوجد هذه الإجازة في الموصليات الثانية و الثالثة المطبوعة فيها، و لكن جوابه «قده» للمسألة الرابعة عشرة من المسائل الميافارقيات هكذا: «الرجوع إلى كتاب ابن بابويه و إلى كتاب الحلبي أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كلّ حال.» راجع رسائل الشريف المرتضى 1- 279.

ص: 127

و لكن نقل منها كثيرا في الفقيه، و أكثر عباراتها المنقولة موافقة لعبارات فقه الرضا، و هذا هو العمدة في اعتماد المجلسيين على هذا الكتاب. و كيف كان فوجود الفتوى فيه يصلح للتأييد و إن لم يكف للاستناد. (1)

فتلخص مما ذكرناه بطوله أنّ المسافة الامتدادية لا يعتبر فيها طيّها في يوم واحد بالإجماع، مع أنّه ليس في الأدلّة ما يدلّ عليه سوى إطلاقات أخبار الثمانية، و أن المشهور في التلفيقية هو اعتبار كون الرجوع لليوم في تعيّن القصر و إن اختلفوا في حكم من لم يرجع ليومه، فقال بعضهم بالتخيير كالمفيد و الصدوق و الشيخ و سلّار و من تبعهم، و آخرون بتعيّن الإتمام كالسيّد و ابن إدريس و المحقق و من حذا حذوهم.

و بالجملة المشهور عدم تعيّن القصر لمن لم يرجع في يومه مع أنّ مقتضى إطلاقات أخبار التلفيق و روايات عرفات و رواية إسحاق بن عمّار السابقة عدم اعتبار الرجوع ليومه في تعيّن القصر، فلعلّه وصل إليهم هذا المعنى من الأئمة عليهم السلام و تلقوها منهم يدا بيد.

و لم يخالف المشهور في ذلك إلّا ابن أبي عقيل، و ربما نسب إلى ابن طاوس في البشرى أيضا. (2) و لا يخفى أن مخالفة مثل ابن أبي عقيل لا تضرّ، إذ الظاهر عدم كونه في المجامع العلمية التي كانت للشيعة، و لعلّه لم يكن محيطا بالفتاوى المأثورة التي كان الفقهاء من أصحابنا يتداولها و يتلقّاها الخلف من السلف، و لم يصل إلينا كتبه أيضا، و إنّما نقل العلامة في المختلف فتاواه من كتابه المسمى بكتاب المتمسك بحبل آل الرسول، و قال الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه إنّ ابن أبي


1- للمقرّر- دام ظلّه العالي- بحث في سند كتاب فقه الرضا في المجلد الأوّل من كتابه القيّم:
2- راجع مفتاح الكرامة 3- 503 و ما بعدها، المطلب الثاني من الفصل الخامس من المقصد الرابع من كتاب الصلاة، و كشف الرموز 1- 226. و ابن طاوس هذا هو السيّد جمال الدين أحمد بن موسى.

ص: 128

عقيل كتب إلى من عمان و أجاز لي رواية كتبه. (1)

و كيف كان فالمسألة في غاية الإشكال.

ما ربّما يستفاد منها اعتبار الرجوع لليوم
اشارة

و قد يقال: إنّ نظر المشهور في هذا الفتوى إلى أخبار ربّما يستفاد منها اعتبار كون الرجوع ليومه و هي الطائفة الخامسة من أخبار المسألة. و أقواها رواية محمد بن مسلم، فلنذكرها ثم نشرح مفادها. فنقول:

روى الشيخ بإسناده عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أحمد بن الحسن، عن أبيه، عن علي بن الحسن بن رباط، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عن التقصير. قال: «في بريد.» قال: قلت: بريد!؟ قال: «إنّه إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل يومه.» (2)

و علي بن الحسن من صغار الطبقة السابعة، فطحي، محدّث، ثقة عند الفريقين.

و كان في الثامن عشر من عمره يقرأ مع أخويه الأحاديث عند أبيهم، فسمعها عن أبيه و لكنه مع ذلك يرويها عنه بواسطة أخويه، و قال: كنت أقابله- و سنّي ثمان عشرة سنة- بكتبه، و لا أفهم إذ ذاك الروايات، و لا أستحلّ أن أرويها عنه. (3) و أبوه و أخوه أيضا فطحيان و لكنهما ثقتان. و كيف كان فالحديث موثق.


1- راجع رجال النجاشي- 48 (ط. أخرى- 35).
2- الوسائل 5- 496 (ط. أخرى 8- 459)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
3- راجع رجال النجاشي- 258 ط. أخرى 8- 181. و أخواه: أحمد و محمد. كما صرّح به الكشي في موضعين من رجاله ص 133 و 242. و قال في ص 345: «قال محمد بن مسعود: عبد اللّٰه بن بكير و جماعة من الفطحية هم من فقهاء أصحابنا، منهم: ابن بكير، و ابن فضّال- يعني الحسن بن علي-، و عمّار الساباطي، و علي بن أسباط، و بنو الحسن بن علي بن فضّال: علي و أخواه، و يونس بن يعقوب، و معاوية بن حكيم، و عدّ عدّة من أجلّة العلماء.».

ص: 129

و لا يخفى أنّ سؤال محمد بن مسلم و إن كان مجملا لكنه يعلم من جواب الإمام عليه السلام أنّ نظره كان إلى مسافة التقصير. و قوله: «قلت: بريد؟» ليس استفهاما حقيقيا بل استعجابي، و لا محالة كان مسبوق الذهن بما ذكره الناس في تحديد المسافة من المراحل و المرحلتين و نحوهما، أو بما صدر عن الأئمة عليهم السلام من التحديد بالثمانية و البريدين، و انسبق إلى ذهنه من قوله عليه السلام: «في بريد» أنّه يريد كون البريد بنفسه موجبا للقصر، كما هو الظاهر من اللفظ، فاستقلّ هذه المسافة و قال على سبيل الاستعجاب: «بريد!؟» فأجابه الإمام عليه السلام بما يزيل استعجابه كما يأتي بيانه.

و تقريب الاستدلال بالحديث لاعتبار كون الرجوع ليومه أنّ الظاهر من جواب الإمام عليه السلام هو أنّ البريد إنّما يوجب القصر لكونه بضمّ الإياب إليه شاغلا ليوم المسافر، فيعلم بذلك أنّ تمام الملاك في المسافة التلفيقية هو الشاغلية لليوم، و إن شئت قلت: إنّ ما ذكره عليه السلام صغرى لكبرى مطوية من سنخها، فكأنّه قال: إذا ذهب بريدا و رجع بريدا شغل السفر يومه، و كلّ من شغل السفر يومه يقصّر. فيعلم بذلك أنّ موضوع القصر في المقام هو شغل السفر ليوم المسافر، و هو المطلوب.

المناقشة في الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار

و نوقش في هذا الاستدلال بوجهين:

الأوّل أنّ جواب الإمام عليه السلام كما عرفت كان لرفع استبعاد محمد بن مسلم و إزالة تعجبه، و رفع الاستبعاد إنّما يتحقق بإرجاع السائل إلى ما عهده و ارتكز في ذهنه، و المركوز في ذهنه بسبب ما صدر عنهم سابقا هو أنّ أدنى ما يقصر فيه الصلاة بريدان، المعبّر عنهما في بعض الروايات بمسيرة اليوم، و لذلك استقلّ البريد لمّا سمعه.

ص: 130

فمراد الإمام عليه السلام رفع استبعاده ببيان أنّ البريد بضمّ الرجوع إليه يرجع إلى ما هو المعهود لديك من مسيرة اليوم، و حيث لا يعتبر في مسيرة اليوم المذكورة في تلك الروايات تحققها بالفعل في يوم واحد إجماعا بل النظر إلى مقدار مسيرة اليوم و قد ذكرت أمارة لتحقق البريدين، فكذلك لا يكون المراد بالشاغل في المقام خصوص الشاغل بالفعل بل مقدار شاغل اليوم و إن قطع في أيّام.

و بالجملة مراده عليه السلام أنّ البريد بضم الرجوع إليه يصير صغرى لكبرى مطوية مقررة في الشرع مركوزة في ذهن السائل، و ليست إلّا ثبوت القصير بالبريدين المقدرين في كثير من الروايات بمسيرة اليوم. و حيث لا يعتبر في مسيرة اليوم في الكبرى تحققها بالفعل في يوم واحد إجماعا، فكذلك الشاغل في الصغرى المذكورة، لوجوب اتحاد الوسط في المقدمتين. و على هذا فموجب القصر هو البريدان، أو البريد الراجع إليهما بسبب ضمّ الرجوع، من دون أن يكون لتحقق سير الثمانية في يوم واحد و كونه شاغلا لليوم فعلا دخل في ذلك.

لا يقال: سلّمنا أنّ كون السير شاغلا لليوم لا دخل له في تحتم القصر و لكن لا بد فيه من كون السفر شاغلا لليوم، و السفر أعمّ من السير، لصدقه على السير و على الوقوفات المتخللة في أثنائه. و بالجملة يعتبر في القصر كون السفر شاغلا لليوم و إن لم يشغله السير. ففي المسافة الامتدادية لو قطع الثمانية في يومين صدق على الشخص في كلا اليومين عنوان المسافر و إن نزل أثناء السير للاستراحة و نحوها. فما هو الموضوع للقصر من كون السفر شاغلا ليومه قد تحقق قطعا.

فإنّه يقال: مضافا إلى أنّ المعتبر في القصر مقدار مسيرة اليوم أعني الثمانية فراسخ لا شاغلية السفر ليومه و إن لم يكن بهذا المقدار، إنّ هذا الملاك حاصل في التلفيقي أيضا و إن لم يرجع ليومه، إذ لو لم يرجع و بقي في المقصد ليلة شغل سفره يومين فحصل شغل اليوم بطريق أولى. هذا.

ص: 131

و لكن الإنصاف أنّ ظاهر الحديث كون الاعتبار بالسير، و كون المعتبر شاغليته لليوم فعلا، فيجب أن يؤخذ بظاهره و يراد بالشاغل في الكبرى المطوية أيضا ذلك، إذ المقدر تابع للمذكور، و لا نسلّم كون كلامه عليه السلام ناظرا إلى مسيرة اليوم الواردة في بعض أخبار الثمانية، و إن أصرّ عليه في الجواهر و المصباح، (1) إذ مضافا إلى أن هذا القول رجم بالغيب يرد عليه أنّ المراد بمسيرة اليوم المذكورة في تلك الأخبار أمارة للبريدين هو مقدار سير القوافل و الأثقال المتعارفة لا سير هذا المسافر الخاص، و الأمر فيما نحن فيه بالعكس، حيث إنّ إضافة كلمة اليوم إلى ضمير الشخص تدلّ على أنّ المعتبر في المقام شغل يوم هذا الشخص لا مقدار سير القوافل و الأثقال المتعارفة.

فإن قلت: جواب الإمام عليه السلام كما عرفت إنّما هو لرفع استبعاد محمد بن مسلم و استعجابه، فيجب أن يكون صغرى لكبرى معلومة للمستعجب مع قطع النظر عن هذا الجواب، و ليست إلّا ما اشتهر و ارتكز في ذهنه من تحديد المسافة بمسيرة اليوم.

فمفاد هذه الرواية مفاد صحيحة زرارة الحاكية لسفر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذباب، حيث قال: «و إنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ.» و محطّ النظر في كليهما بيان اعتبار أصل الرجوع في البريد و أنّه بالرجوع يصير من مصاديق الحدّ المقرر المعروف من البريدين و مسيرة اليوم.

قلت: لا نسلّم كون الإمام عليه السلام بصدد إحالة ابن مسلم و إرجاعه إلى الكبرى المرتكزة في ذهنه، بل لعلّه بصدد بيان اشتباهه في تخيل كون ملاك القصر منحصرا في البريدين. فمحصل جوابه عليه السلام أنّ للقصر موجبا آخر سوى البريدين، و هو كون سير المسافر شاغلا ليومه فعلا، و أن البريد بضمّ الرجوع إليه يصير مصداقا لهذا


1- راجع الجواهر 14- 214، و مصباح الفقيه- 726 و ما بعدها، في الشرط الأوّل من شروط القصر.

ص: 132

الموجب كما هو الظاهر من اللفظ، و على هذا يكون الكبرى المطوية عبارة عن الشاغل بالفعل.

فإن قلت: يجب أن يكون جوابه عليه السلام بحيث يرفع به استعجاب ابن مسلم.

قلت: جوابه عليه السلام مع كونه ناظرا إلى بيان موضوع آخر للقصر يصلح لرفع الاستعجاب أيضا، لأنّ استعجابه كان من قلّة البريد في نظره، إذ كان الشائع بين المسلمين التحديد بالمراحل و المرحلتين و نحوهما. فيرجع جوابه عليه السلام إلى أنّ البريد ليس بقليل، إذ بانضمام الرجوع إليه يصير شاغلا لليوم، و ما يشغل اليوم بتمامه لا يعدّ قليلا، لاستلزامه للمشقة التي هي علة القصر في السفر.

فإن قلت: إن حمل جواب الإمام عليه السلام على الشاغلية التقديرية أعني كون البريد بسبب ضمّ الرجوع إليه بمقدار مسيرة اليوم رجع إلى ما ذكرناه و بطل الاستدلال بالحديث، و أمّا إذا جمدت على ظاهر اللفظ فعليك أن تحمل لفظ اليوم أيضا على ظاهره و لا يتعدى منه إلى الليل.

قلت: لا ملازمة بين الأخذ بظاهر الشغل و بين الجمود على ظهور لفظ اليوم، إذ من المقطوع به عدم الدخالة لخصوصية النهار في المقام، بل المراد باليوم هنا و ببياض اليوم في أخبار الثمانية هو القدر الذي يصرف في السير من مجموع اليوم و الليلة في مقابل ما يصرف في الاستراحة، فإنّ المعتاد بين المسافرين صرف مقدار منهما يناسب السير في المسير و صرف الباقي في الاستراحة و يختلف ذلك باختلاف الفصول و الأزمان. و مجموع السير المعتاد في مجموع اليوم و الليلة بحسب المراكب السابقة كان ثمانية فراسخ، و لم يجر العادة على طيّ هذا المقدار في النهار فقط، بل ربّما كان في النهار فقط، و ربّما كان في الليل فقط، و ربّما كان بالتلفيق حسب اقتضاء الحال و الزمان. فالمراد باليوم هو المقدار المصروف في السير من مجموع اليوم و الليلة، و بياض اليوم أيضا كناية عن ذلك.

ص: 133

فتلخص مما ذكرناه أنّ في جواب الإمام عليه السلام احتمالين:

الأوّل: أن يكون مراده عليه السلام أنّ ما ذكرت من البريد لا ينافي ما في ارتكازك من البريدين، لرجوع كليهما الى مقدار مسيرة اليوم، و هي تمام الملاك في ثبوت القصر، غاية الأمر رجوع البريد إليها بسبب ضمّ الرجوع.

الثاني: أن يكون مراده عليه السلام بيان ملاك آخر للقصر وراء البريدين، و هو البريد التلفيقي إذا كان شاغلا ليوم المسافر.

و يساعد الأوّل كونه بصدد رفع استعجاب السائل، و إنّما يتحقق رفعه غالبا بالإرجاع إلى ما علم سابقا.

و يساعد الثاني ظهور قوله: «شغل يومه» في الشغل الفعلي. هذا.

و لكن لا يقاوم هذا الظهور لظهور أخبار عرفات في عدم اعتبار الرجوع ليومه.

فالاستدلال بالحديث لاعتباره في غاية الإشكال، فتدبّر.

ثم لا يخفى أنّ حمل قوله: «شغل يومه» على الشغل الفعلي يقتضي تقييد الرجوع في قوله: «رجع» بما كان ليومه، و هو خلاف الظاهر. اللّٰهم إلّا أن يقال إنّ الغالب فيما إذا كان الذهاب أربعة تحقق الرجوع في يومه، فيصير هذه الغلبة قرينة على تقييد الرجوع، أو يقال إنّ ظهور الجزاء في الشغل الفعلي قرينة على تقييده، فافهم.

الوجه الثاني أنه و إن سلّم حمل قوله: «شغل يومه» على الشغل الفعلي و تقييد الرجوع في قوله: «رجع» أيضا بما كان ليومه لكن الحديث مع ذلك لا يدلّ على اعتبار تحقق الرجوع فعلا فضلا عن كونه ليومه، إذ أقصى ما يدلّ عليه هو وجوب التقصير في البريد لكونه مسافة إذا رجع فيها المسافر ليومه شغل يومه، و هذا لا يدلّ على تحقق الرجوع في اليوم و لا على حصول الشغل بالفعل. و بعبارة أخرى: ليس التعليل في كلامه عليه السلام بخصوص الجزاء، بل بالقضية الشرطية، و صدقها لا يتوقف على تحقق الشرط و الجزاء فعلا كما لا يخفى، فتأمّل.

ص: 134

تنبيه

اعلم أنّه قال في الجواهر ما حاصله: أنّ حديث زرارة الحاكي لسفر النبي صلّى اللّٰه عليه و آله إلى ذباب (الأوّل من الطائفة الثالثة) كالصريح في عدم اعتبار الرجوع ليومه، إذ قوله:

«كان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إذا أتى ذبابا قصّر» يظهر منه الاستمرار و التعدد، و يبعد جدّا كونه صلّى اللّٰه عليه و آله في جميع أسفاره إليه راجعا ليومه. (1)

و يرد عليه أنّ ما ذكرت إنما يصحّ لو فرض كون الذباب بلدة فيها منزل أو مضيف مثلا، و لكن من المحتمل كونه نقطة من البيداء، و الغالب في المسافرة إلى الصحاري هو الرجوع ليلا.

تتمة

قد تلخّص لك من جميع ما ذكرناه أنّ مقتضى الجمع بين جميع أخبار المسألة عدم اعتبار الرجوع ليومه في المسافة التلفيقية، كما اختاره ابن أبي عقيل، و لكن عمدة الإشكال فيها إعراض الأصحاب عن ذلك و تسالمهم على اعتباره في تحتّم القصر.

و لأحد أن يقول: إنّ هذا الإعراض غير مضرّ، إذ نراهم يحومون في استدلالاتهم حول هذه الأخبار، فلعلهم زعموا أنّ مقتضى الجمع بينها تعيّن القصر على من شغل السفر يومه فعلا و ثبوت التخيير لغيره. فلا يكشف إعراضهم عن ظهور أخبار عرفات عن وجود نصّ غير ما بأيدينا أو وجود وهن في النصوص الموجودة.

و بتقريب آخر: يحتمل أن يكون نظرهم في هذا التفصيل إلى رواية محمّد بن مسلم، فحملوا شغل اليوم فيها على الشغل الفعلي، و بسببها قيّدوا إطلاقات أخبار التلفيق، و حكموا فيمن لم يرجع ليومه بالتخيير، لكونه مقتضى الجمع بين أخبار


1- راجع الجواهر 14- 212.

ص: 135

عرفات و بين ما توهم دلالتها على الإتمام في الفرض، أو لما ورد من الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين. (1)

و مما يتوهم دلالته على الإتمام في المقام- مضافا إلى أصالة التمام- ما رواه الشيخ بإسناده عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن أهل مكة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ قال: «نعم، و المقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم.» (2)

بتقريب أنّ المراد بالزيارة فيها سفرهم إلى عرفات، لأنّه القابل للسؤال، و إلّا فوجوب الإتمام على أهل مكة في وطنهم أمر واضح لا يقبل السؤال. هذا.

و لكن الظاهر بعد هذا الحمل. و المقصود في الحديث هو السؤال عن وظيفة المسافر إذا دخل بلده و لمّا يدخل بعد في داره.

الأقوال فيمن لم يرجع ليومه

و كيف كان فالأقوال فيمن لم يرجع ليومه أربعة:

الأوّل: تعيّن القصر مطلقا. و به قال ابن أبي عقيل. و قد عرفت أنه مقتضى الجمع بين أخبار الباب و لكنه مما أعرض عنه المشهور.

الثاني: تعين الإتمام مطلقا. و به قال السيد المرتضى و الحلّي، و يظهر من المحقق في المعتبر أيضا اختياره، حيث قال: «و لو لم يرد الرجوع من يومه قال ابن بابويه يكون مخيّرا في صلاته و صومه، و به قال المفيد. و قال الشيخ يتخير في صلاته دون صومه.

و منع علم الهدى القصر في كلّ واحد من الأمرين. لنا: أنّ شرط القصر المسافة و لم تحصل فيسقط المشروط، و بالجملة فإنّا نطالبهم بدليل التخيير.» (3)


1- و لو جعل المعارض لأخبار عرفات رواية محمد بن مسلم كان مقتضى القاعدة بعد التساقط الرجوع إلى إطلاقات أخبار التلفيق. ح ع- م.
2- الوسائل 5- 572 (ط. أخرى 8- 501)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 11.
3- المعتبر 2- 468، في صلاة المسافر. و راجع رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم و العمل) 3- 47، و السرائر 1- 329.

ص: 136

و يساعده العمومات الدالة على كون مجموع الفريضة و النافلة إحدى و خمسين ركعة الشاملة لحال السفر أيضا، بعد حمل أخبار التلفيق على خصوص من رجع من يومه إمّا لتقييدها بسبب رواية محمد بن مسلم أو بادعاء انصرافها إلى خصوص هذه الصورة لكونها أغلب أفراد التلفيق وجودا.

الثالث: التخيير مطلقا. و به قال ابن بابويه و المفيد. و لعله المشهور. (1)

الرابع: التفصيل بين الصلاة و الصوم، فيحكم بالتخيير في الصلاة و تعين الصوم. و به قال الشيخ. (2)

و يمكن أن يقال: إنّ تعين القصر و إن كان معرضا عنه لكن أصل القصر أوفق بالاحتياط، إذ مقتضى الجمع العرفي بين أخبار المسألة كما عرفت تعين القصر.

و المشهور و إن لم يفتوا بتعينه لكن المشهور بينهم جوازه، فما هو المعرض عنه إنّما هو تعين القصر لا أصل جوازه. فالاحتياط الجامع بين الاعتناء بالأخبار و بقول الفقهاء هو القصر (3). هذا. و لكن الاحتياط الجامع لجميع الأقول يقتضي الجمع بين القصر و الإتمام، إذ القول بتعين الإتمام أيضا مما اعتنى به الأصحاب، و ليس القائل به منحصرا في السيد المرتضى و الحلي، بل قال الحلّي في السرائر: «دليل الاحتياط أيضا يقتضي ما اخترناه، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بأجمعهم في أنّ المكلف إذا تمم صلاته و صومه في المسألة المختلفة فيها فإنّ ذمته بريئة، و إذا قصّر ففيه الخلاف.» (4)

فتدبّر، فإنّ المسألة من دقائق المسائل الفقهية.


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 503، كتاب الصلاة، المطلب الثاني من الفصل الخامس من المقصد الرابع.
2- راجع النهاية- 122 و 161 بابي الصلاة في السفر، و حكم المسافر في شهر رمضان. و قد مرّ منه القول بالتخيير في الصلاة مطلقا (في التهذيب 3- 208، و الاستبصار 1- 224).
3- و يؤيد ذلك أن القائل بتعيين الإتمام من القدماء عبارة عمن لا يعمل بأخبار الآحاد كالسيد المرتضى و الحلّي. ح ع- م.
4- السرائر 1- 330، باب صلاة المسافر.

ص: 137

و ها هنا خمس مسائل
مرجع التعبيرات الواردة في تحديد المسافة

الأولى: التعبيرات الواردة في أخبارنا في تحديد المسافة أربعة: 1- البريدان.

2- ثمانية فراسخ. 3- أربعة و عشرون ميلا. 4- مسيرة يوم أو بياض يوم.

و الأصل فيها أنهم كانوا ينصبون على رأس كلّ فرسخ حجرا على شفير الطريق ليكون علامة، فسمى المسافة الواقعة بين الحجرين فرسخا لذلك لأنّه معرب «پر سنگ».

و على رأس كلّ ثلث من الفرسخ ميلا للعلامة أيضا، فسمى ما بين الميلين ميلا.

و كان للسلاطين أشخاص معدة لنقل الرسائل و الكتب، فكان يحمل أحدهم المكاتيب إلى رأس أربعة فراسخ، فينزل و يسلّم ما معه من الكتب إلى غيره، فيحملها هو أيضا إلى رأس أربعة و يسلمها إلى آخر، و هكذا إلى المقصد، تسريعا في وصول المكاتيب.

فكان يسمى حامل المكاتيب بريدا، لاختياره للسعي وقت البرد غالبا، أو لأنّه كان ينزل في رأس الأربعة للتبرد، ثم استعمل لفظ البريد في نفس المسافة التي هي أربعة فراسخ.

و أمّا كلمة المرحلة الواقعة في تحديدات المخالفين فالمراد بها مقدار ثمانية فراسخ.

و الأصل فيها أنّه كان مقدار السير الواقع في كلّ يوم ثمانية فراسخ، فكانوا ينزلون بعد طيّها ثم ينشؤون السفر ثانيا فيرحلون. و لأجل ذلك أيضا عبّر عن الثمانية فراسخ بمسيرة اليوم.

ثم لا يخفى أنّ مفاد التعبيرات الثلاثة الأول واحد، و إنّما الإشكال في مسيرة اليوم إذا اختلفت مع التقدير بالفراسخ. و الظاهر من الذكرى (1) أنّ الاعتبار


1- راجع الذكرى- 259، كتاب الصلاة، الركن الخامس، المطلب الثاني، الشرط الثالث من شروط القصر.

ص: 138

بالفراسخ. و احتمل في الروض (1) تقديم المسيرة. و في المدارك (2) أن كلا منهما ميزان مستقل، فيتخير في الأخذ بأيهما شاء. و قد يقال: إنّ المسيرة لا موضوعية لها و لكنها أمارة على الفراسخ يعتمد عليها عند الجهل بها.

أقول: الظاهر رجوع التحديدات الأربعة إلى أمر واحد، و لذا فسّر بعضها ببعض في بعض الأخبار:

ففي رواية سماعة مثلا: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، و ذلك بريدان، و هما ثمانية فراسخ.» (3)

فيستفاد من هذه و أمثالها أنّ المسافة الشرعية أمر واحد عبر عنه بتعابير مختلفة، لا أنّ كلا منها ميزان مستقل أو أنّ بعضها أمارة على بعض. فمسيرة اليوم أيضا عنوان يشاربها إلى مقدار الثمانية فراسخ، و ليس الاعتبار بنفس السير موضوعا أو أمارة بل بهذا المقدار.

و قوله عليه السلام في رواية الفضل: «و إنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك و لا أكثر، لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامّة و القوافل و الأثقال.» (4) أيضا لا يدلّ على كون الاعتبار بالسير، و إنّما يستفاد منه كون الاعتبار بالفراسخ، غاية الأمر دلالته على حكمة جعلها ميزانا و حدا.

نعم، ربّما يستفاد من قوله عليه السلام في رواية أبي بصير: «في بياض يوم أو بريدين» (5) أنّ كلا منهما ميزان مستقل، و لا أقلّ من كون بياض اليوم أيضا معتبرا بنحو الأمارية، بحيث يعتمد عليه مع الجهل بالفراسخ.


1- راجع روض الجنان- 383، كتاب الصلاة، المقصد الرابع من النظر الثالث.
2- راجع المدارك 4- 432، في الشرط الأوّل من شروط القصر، التنبيه الثاني.
3- الوسائل 5- 492 (ط. أخرى 8- 453)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
4- المصدر السابق 5- 490 (ط. أخرى 8- 451) و الباب، الحديث 1.
5- المصدر السابق 5- 492 (ط. أخرى 8- 454) و الباب، الحديث 11.

ص: 139

و لقائل أن يقول: إنّ الترديد في الحديث من جهة أنّ المسافة الشرعية الموجبة للقصر و إن كان أمرا واقعيا واحدا لكنها ربّما تستكشف لنا بسبب سير البريد كما في الطريق العامة التي يمر بها البرد و ربما تستكشف بمسيرة القوافل كما في الطرق الخاصة التي لا تمر بها البرد. و يحتمل أيضا أن يكون المراد ببياض اليوم شغل السفر ليومه فعلا، بناء على كونه ملاكا مستقلا في إيجاب القصر في قبال البريدين كما احتملنا ذلك في خبر محمد بن مسلم السابق أيضا. و يحتمل أيضا أن يكون الترديد في الرواية من الراوي، فتدبّر.

ثم إنهم ربّما قيّدوا السير في المقام بكونه معتدلا، و قيّده بعضهم بكونه في المكان المعتدل أيضا، و آخرون بكونه في اليوم المعتدل لا مثل أيّام الشتاء و الصيف.

أقول: يرد على ما ذكروه أخيرا من اعتبار التعارف و الاعتدال في اليوم ما أشرنا إليه سابقا من أنّ المراد بمسيرة اليوم ليس وقوع السير في جميع بياض اليوم بحيث يبتدأ بابتدائه و ينتهي بانتهائه، حتى يعتبر في اليوم كونه معتدلا، بل المراد بمسيرة اليوم أو بياض اليوم الواردين في الروايات هو المقدار الذي يصرف في السير عادة من مجموع اليوم و الليلة، في مقابل المقدار الذي يصرف منهما في الاستراحة، فإن المعتاد بين المسافرين صرف مقدار منهما يناسب السير في المسير، و صرف الباقي في الاستراحة، و يختلف ذلك باختلاف الفصول و الأزمان، و لم يجر العادة على صرف خصوص البياض في السير، بل ربما يكون السير في اليوم فقط، و ربّما يكون في الليل فقط، و ربما يكون بالتلفيق حسب اقتضاء الحال و الزمان.

تحديد الفرسخ و الميل و الذراع

المسألة الثانية: قالوا في تحديد الفرسخ بأنّه ثلاثة أميال، و الميل أربعة آلاف ذراع طول كلّ ذراع أربع و عشرون إصبعا، كلّ إصبع سبع شعيرات.

ص: 140

أقول: أمّا كون الفرسخ ثلاثة أميال فمتفق عليه، و أمّا الميل فقد حدّد تارة بأربعة آلاف ذراع، و أخرى بثلاثة آلاف، و في مرسلة الخزاز بثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع، و في مرسلة الصدوق بألف و خمسمائة ذراع (الثامنة و التاسعة من الطائفة الثانية) فراجع. (1) و عن مصباح الفيومي أنه قال: «الميل بالكسر في كلام العرب مقدار مدّ البصر في الأرض.» ثم نقل عن الأزهري أنه قال: «و الميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، و عند المحدثين أربعة آلاف ذراع. و الخلاف لفظي، فإنّهم اتفقوا على أنّ مقداره ست و تسعون ألف إصبع- و الإصبع سبع شعيرات بطن كلّ واحدة إلى ظهر الأخرى- و لكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان و ثلاثون إصبعا و المحدثون أربع و عشرون إصبعا، فإذا قسم الميل على رأي القدماء، كلّ ذراع اثنين و ثلاثين، كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع و إن قسم على رأي المحدثين، أربعا و عشرين، كان المتحصل أربعة آلاف ذراع. و الفرسخ عند الكلّ ثلاثة أميال». (2)

و في القاموس: «الميل قدر مدّ البصر، و منار يبنى للمسافر، أو مسافة من الأرض متراخية بلا حدّ، أو مائة ألف إصبع إلّا أربعة آلاف إصبع، و ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع، بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا عشر ألف ذراع بذراع المحدثين». (3)

و من كلامه أيضا يظهر لفظية النزاع. و الظاهر أنه لم يرد كون لفظ الميل موضوعا بأوضاع مختلفة لهذه المفاهيم المتكثرة التي ذكرها، بل يكون بصدد تعداد


1- المصدر السابق 5- 497 و 498 (ط. أخرى 8- 460 و 461)، الباب 2 منها، الحديثان 13 و 16.
2- كذا في مفتاح الكرامة 3- 497 نقلا عن المصباح. و في المصباح المطبوع ص 588 بعد قوله: «مقدار مدّ البصر في الأرض» هكذا: «قاله الأزهري. و الميل عند القدماء.».
3- القاموس المحيط 4- 53.

ص: 141

التعبيرات المختلفة التي ذكروها في بيان المسافة المعينة المحدودة، و اللازم إرجاع التعبير الثالث إلى الأوّل و إلّا لفسد المعنى كما لا يخفى.

و قال المحقق: «الميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد» (1) و في السرائر عن المسعودي في كتاب مروج الذهب أنه قال: «الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود، و هو الذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب و مساحة البناء و قسمة المنازل.» ثم قال: «و الذراع أربعة و عشرون إصبعا.» (2)

أقول: الظاهر أنّ كلام المسعودي هو المتّبع في هذا الباب، إذ ذراع اليد- و إن قيدناها بالتوسط- مما تختلف بحسب الأشخاص، و بحسبه يختلف الفرسخ كثيرا، و من المستبعد تحديد المسافة بهذا الأمر غير المضبوط. فالظاهر أنّ الذراع في كل عصر كان عبارة عن طول معين عيّن من قبل السلاطين و المتنفذين لذرع الثياب و الأرضين و نحوها، و كانوا يتصدون لتعيينها حسما لمادة النزاع و الاختلاف. و هذا الطول المعين كان يختلف بحسب الأعصار و الأمصار، و عليه يحتمل الاختلافات الواقعة في تحديد الميل كما عرفت. و المسعودي كان قريب العهد بعصر المأمون، و كان مطلقا بوضع زمانه، فقوله متّبع في هذا الباب.

لا يقال: أغلب أخبارنا في هذا الباب صدرت عن الصادقين عليهما السلام، فكيف تحمل على ما وضعه المأمون؟! فإنه يقال: الوارد في أخبارنا التحديد بالميل فقط، و ليس فيها تحديد بالذراع، سوى ما في رواية الخزّاز من التحديد بثلاثة آلاف و خمسمائة ذراع، و ما في مرسلة الصدوق من التحديد بألف و خمسمائة ذراع. و الواجب حملهما على كون التحديد بذراع أطول من ذراع المأمون.


1- الشرائع 1- 132 (ط. أخرى 101)، كتاب الصلاة، الفصل الخامس من الركن الرابع.
2- السرائر 1- 328، عن مروج الذهب 1- 103.

ص: 142

و بالجملة، الظاهر أنّ التحديدات كانت بأمور منضبطة سالمة من تطرق الزيادة و النقصان، و ذراع اليد أمر غير منضبط. نعم لا نابي أن يكون ذراع المأمون بحسب الأصل مأخوذا من ذراع اليد، فإنّها بحسب المتعارف من المرفق إلى أطراف الأصابع ست قبضات: أربع و عشرون إصبعا. و ما ذكرناه بالنسبة إلى الذراع جار في الإصبع و الشعير أيضا فإنّ المراد منهما في التحديدات أمران منضبطان مأخوذان بحسب الأصل من الإصبع و الشعير، فتدبر. (1)

حكم الشكّ في المسافة

المسألة الثالثة: لو شكّ في كون سفره بمقدار المسافة الشرعية أم لا، فإن كان هناك أمارة معتبرة عوّل عليها، و إلّا رجع إلى الأصل.

فالكلام هنا يقع في مقامين:

الأوّل: في الأمارات المعتبرة أو المتوهم اعتبارها في المقام.

الثاني: فيما يقتضيه الأصل عند فقدها.

و لنقدم المقام الثاني، فنقول: قال في الجواهر: «إنّ الأصل يقتضي الإتمام.» (2)

و قال في مصباح الفقيه ما حاصله: «أنّ الواجب هو الإتمام، لأصالة عدم تحقق ما يوجب القصر. فإن قلت: هذا الأصل إنّما يتفرع عليه أنه لا يجب القصر، و أمّا


1- لا يقال: بناء الشارع في التحديدات على المسامحة و الإرجاع إلى العرف، و الشاهد على ذلك تحديد الكر بالأشبار. فإنه يقال: بناؤه في الموضوعات على ذلك، و أمّا في التحديدات فلا نسلّم ذلك. و أمّا في باب الكر فالظاهر أنّ العبرة فيه بالوزن، و الأشبار إنّما ذكر أمارة لتحقق مقداره، و هي مصادفة دائما، إذ الكر بحسبها أزيد من الكر بحسب الوزن دائما.
2- الجواهر 14- 205، في الشرط الأوّل من شروط القصر.

ص: 143

وجوب الإتمام فهو مبني على أن لا يكون المقصد ثمانية فراسخ، و لا يمكن إحراز ذلك بالأصل، لأنّه من قبيل تعيين الحادث بالأصل و التعويل على الأصول المثبتة فمقتضى العلم الإجمالي في المقام هو الجميع. قلت: إنّ بقاء التكليف بالإتمام أيضا متفرع على الأصل المزبور، لأنّ مقتضى عمومات أدلة التكاليف وجوب الإتيان بالظهر مثلا رباعية على كلّ مكلف ما لم يسافر، فيكون السفر رافعا للتكليف الثابت بالعمومات، فمتى شك في تحققه يبنى على عدمه بالأصل، و إذا ارتفع الرافع بالأصل عملنا بما يقتضيه العمومات الأوّلية، و ليس هذا من باب التمسك بالعمومات في الشبهات المصداقية، بل من باب إحرازه موضوع العامّ بالأصل.» (1) انتهى.

أقول: ما ذكره «قده» من إثبات حكم الإتمام بالعمومات حقّ لا مرية فيه، فإنّ الموضوع للإتمام بحسب الأدلة هو مطلق المكلّف، غاية الأمر إخراج المسافر منه تخصيصا، فإذا كان الشخص مصداقا لعنوان العامّ بالوجدان و نفينا عنه عنوان الخاصّ بالأصل حكم عليه بحكم العام.

لا يقال: التخصيص دلّ على أنّ عنوان العام ليس تمام الموضوع للحكم، فصدقه لا يكفي في ثبوت الحكم.

فإنّه يقال: نعم، التخصيص و إن كان يخرج العام عن كونه تمام الموضوع لكن لا يوجب ذلك أن يصير الموضوع أمرا وجوديا أو عدوليا غير قابل للإحراز بسبب الأصل، بل الموضوع يتركب من أمر وجودي هو عنوان العام و أمر عدمي هو عدم عنوان الخاص. (2) فإذا ثبت الأوّل بالوجدان و الثاني بالأصل ثبت حكم العام


1- مصباح الفقيه- 725 (كتاب الصلاة) في الشرط الأوّل من شروط القصر، التنبيه الثالث.
2- و إن أبيت إلّا عن تقيد الموضوع بأن يصير الموضوع عنوان العام مقيدا بعدم كونه متصفا بعنوان الخاص- بتقريب أن حكم المخصص ثابت لوجوده النعتي و انتفاء الوجود النعتي بالعدم النعتي لا المحمولي- قلنا: إن للعدم النعتي أيضا فيما نحن فيه حالة سابقة، فنستصحب مفاد الليسية الناقصة أعني عدم كون هذا المكلف مسافرا بالسفر الشرعي. ح ع- م.

ص: 144

لثبوت موضوعه بكلا جزئية، و ارتفع حكم الخاص لارتفاع موضوعه بسبب الأصل، فتدبّر.

و يمكن ان يستشكل في جريان الأصل في المقام بأن موضوع القصر إن أخذ من حالات المكلف جرى فيه استصحاب العدم من جهة أنه قبل طيّ المسافة المشكوك فيها لم يكن مسافرا بالسفر الموجب للقصر فيستصحب ذلك. و أمّا إن أخذناه من حالات المسافة، بأن يكون موضوع القصر كون مسافة السفر ثمانية، فلا يكون موردا للأصل. و إثباته بالأصل الجاري بالنسبة إلى حالة المكلف عمل بالأصل المثبت.

و نظير ذلك ما ذكروه في باب اللباس المشكوك فيه، إذ من الأصول التي أجروها في هذا الباب استصحاب حالة المكلف، بأن يقال: إنّه قبل أن يلبس هذا اللباس لم يكن لابسا لغير المأكول، فيستصحب ذلك. و أجابوا عنه بأن الظاهر من الروايات كون موضوع الحكم من حالات اللباس لا المصلّي، فيشترط في الصلاة أن لا يكون لباس المصلّي من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و ليس هذا موردا للأصل، و إثباته بالأصل السابق عمل بالأصل المثبت. (1)


1- ربما يقال: إنّ قيد الشي ء يجب أن يكون من حالاته و أطواره و من صفاته و مقسماته، فلو فرض في مقام أخذ الأجنبي قيد يجب الالتزام بكون القيد عبارة عن أمر انتزاعي يكون من مقسمات المقيد و من حالاته، كوصف المعية و المقارنة و نحوهما، غاية الأمر كون الأجنبي منشأ لانتزاعه أو طرفا لإضافته، و لا فرق في ذلك بين القيود الوجودية و العدمية. ففي باب اللباس المشكوك فيه لا يصح أن يعتبر نفس عدم كون اللباس من أجزاء ما لا يؤكل لحمه قيدا للصلاة لعدم كونه من حالاتها بل المعتبر فيها عدم مقارنتها له، كما يدل على ذلك التعبير ب «في» في قوله: «لا تجوز الصلاة في شعر و وبر ما لا يؤكل لحمه». و بالجملة المانع معية الصلاة لما لا يؤكل و مقارنتها له، لا نفس ما لا يؤكل. و على هذا يمكن إجراء استصحاب العدم في صورة الشك، إذ عدم كون هذا اللباس مما لا يؤكل و إن لم يكن له حالة سابقة لكن عدم مقارنة الصلاة لما لا يؤكل بنحو العدم المحمولي مما له حالة سابقة، فكما يستصحب وجود الشرط كالوضوء أو الطهارة من الخبث بنحو الكون التام و يترتب عليه صحة الصلاة كما هو مورد صحيحتي زرارة، كذلك يستصحب عدم المانع، أعني عدم تحقق المقارنة المشار إليها بنحو الليسية التامة، و يترتب عليه صحة الصلاة. و بالجملة وزان عدم المانع وزان وجود الشرط، و الفرق بين القيود الوجودية و العدمية تحكم.اللهم إلّا أن يقال إنّ المقارنة المشار إليها و إن كانت معدومة سابقا لكن كان عدمها بعدم نفس الصلاة، فاستصحابه و لو بنحو العدم المحمولي من قبيل استصحاب السالبة بانتفاء الموضوع، و ليس هذا معتبرا بنظر العرف، فتدبر. ثم لا يخفى أنّ مقتضى ما ذكر أن لا يكون نفس الوضوء أو كون الشخص متوضئا أيضا قيدا للصلاة بل يكون القيد مقارنتها له، مع أن الاستصحاب يجري في نفس الوضوء كما لا يخفى. ح ع- م.

ص: 145

ثم لا يخفي أنّ المراد بالعمومات في المقام هي الروايات الكثيرة الواردة في أعداد ركعات الصلاة و أن مجموع الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، و الفريضة سبع عشرة ركعة، بل نفس قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ (1) أيضا شاهد على أن الوظيفة لو لا هذه الآية كانت على الإتمام، بداهة ظهور كلمة القصر في ذلك، فافهم.

هذا كلّه فيما يتعلق بالمقام الثاني.

و أما المقام الأوّل أعني البحث عن الأمارات التي يمكن أن يقال باعتبارها في تعيين المسافة فملخّص الكلام فيه أن ما يمكن أن يقال باعتباره في المقام أربعة:

1- البيّنة. 2- الظن المطلق. 3- الشياع. 4- العدل الواحد.

أمّا البينة فالظاهر اعتبارها إذا أخبرت عن حس.

و كأنّ من لم يعتبرها توهّم أن موارد اعتبارها بحسب الأدلّة هي المرافعات و الخصومات المرجوعة إلى الحكّام، بتقريب أنّ الظاهر منها أنّ البينة و اليمين أمران وضعتا شرعا لفصل الخصومات و قطعها، و كما لا يعتنى باليمين في غير باب القضاء فكذلك البينة. هذا.

و لكن تتبع الموارد الكثيرة التي حكم فيها بحجية البيّنة ربما يورث القطع بأنها


1- سورة النساء (4)، الآية 101.

ص: 146

أمارة شرعية عامّة تقع في طريق الإثبات في جميع الموارد عدا ما استثني. و مما يدل على عموم حجيتها ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سمعته يقول: «كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه.» (إلى أن قال:) «و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة». (1)

و أما الظن المطلق فعن الشهيد في الروض (2) احتمال اعتباره هنا، لأنّه مناط العمل في كثير من العبادات.

و أورد عليه بأنّه قول بغير دليل.

و نحن نقول: لنا أن نثبت ذلك بالانسداد الصغير، بتقريب أنّ تعليق الحكم على موضوع يعسر الاطلاع عليه غالبا كاشف عن اعتبار الظن به.

بيان ذلك: أنّ باب العلم بالمسافة الشرعية في غير المسافات البعيدة منسدّ لأغلب الناس، و قد علم من الروايات الواردة في باب السفر أنّ غرض الشارع لم يتعلق بثبوت الترخيص لخصوص من سافر سفرا بعيدا جدّا، بل قد تعلق بثبوته لكلّ من سافر بالسفر الشرعي و إن كان مقداره مسيرة يوم فقط، لوجود ملاك الترخيص فيه أيضا، أعني به الشدة الموجبة له. فمقتضى ذلك جواز الاعتماد في تشخيص المسافة على الظن، و إلّا لزم عدم ثبوت حكم القصر لأغلب من كان سفره بمقدار الثمانية أو أزيد ما لم يبلغ حدّا يعلم عادة بكونه مسافة.

و بتقريب آخر: لو لم يكن الظن بالمسافة حجة لهذا القبيل من المسافرين غير القاصدين للبلاد البعيدة لزم إمّا عدم انسداد باب العلم و العلمي لهم، أو وجوب رجوعهم إلى الأصل السابق و الإتمام، أو الاحتياط بالجمع. و التالي بشقوقه الباطل،


1- الوسائل 12- 60 (ط. أخرى 17- 89)، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
2- راجع روض الجنان- 384، كتاب الصلاة، المقصد الرابع من النظر الثالث.

ص: 147

لوضوع انسداد بابهما للأغلب إلّا من شذّ و ندر في مثل هذا الموضوع، و وضوح بطلان العمل بالأصل أو الاحتياط لأغلب المسافرين، لما عرفت من كون الشارع مريدا لثبوت الرخصة لهذا القبيل من المسافرين أيضا، بحيث يعلم بكون الإتمام أو الاحتياط مرغوبا عنه.

و مما يؤيد هذا الدليل أنّ الأئمة عليهم السلام عبّروا عن المسافة الواقعية الموجبة للقصر تارة بالبريدين، و أخرى بالأميال، و ثالثة بالفراسخ، و رابعة بمسيرة اليوم. و قد عرفت سابقا أن الأصل في ذلك هو أنه كان للسلاطين في كل زمان أشخاص معدّة لنقل الرسائل و الكتب، و كان في الطرق العامة على رأس كل أربعة فراسخ محل مخصوص هيئ فيه المركوب و البريد، فكان إذا بلغ حامل المكاتيب إلى هذا المحل نزل لاستراحة نفسه و مركوبه، و حوّل المكاتيب إلى شخص آخر موجود في هذا المحل، فركب هذا الشخص المركوب المهيّأ قبلا و ذهب مقدار أربعة فراسخ و حوّلها إلى آخر، و هكذا. و كان يسمى حامل المكاتيب بريدا، ثم استعمل بالعناية في نفس المسافة الواقعة بين هذا المنزل و ذاك. و كانوا يضعون على رأس كل فرسخ الحجر على شفير الطريق للعلامة، و يسمون الموضع بالفارسية «پر سنگ»، ثم عرّب فصار فرسخا، و على رأس كلّ ثلث منه ميلا و منارة يوقد عليها النار الهداية المسافرين، و يسمونه ميلا، ثم استعمل الفرسخ و الميل بالعناية في نفس المسافة الواقعة بين الحجرين أو الميلين.

و كيف كان فجميع هذه التعبيرات الأربعة الواردة في الروايات تعبيرات مختلفة عن المسافة الواقعية التي هي أمر واحد، و يحتمل جدّا تخطيها عنها و مع ذلك ذكرها الأئمة عليهم السلام لأصحابهم في مقام تحديد المسافة، و لا محالة كانوا يعتمدون في أسفارهم على الأميال المنصوبة و الأحجار الموضوعة و الأمكنة المعدة لنزول البرد، و على سير القوافل، اعتمادا على ما ذكره الأئمة عليهم السلام مع أنّهم لم يكونوا

ص: 148

يقطعون دائما بكونها مطابقة للمسافة الشرعية الواقعية، بل غاية ما يستفاد منها هو الظنّ، لاحتمال الزيادة و النقصان فيها. فيعلم من ذلك أنّ في إحراز المسافة الواقعية لا يجب تحصيل العلم بل يجوز الاعتماد على الظن، سواء حصل بمسيرة اليوم، أو بالمرور على أربعة و عشرين ميلا من الأميال المنصوبة من قبل السلاطين، أو بالتجاوز عن ثمانية فراسخ، أو بريدين، أو بغير ذلك من الأمور المورثة للظن، فتدبّر.

و بهذا البيان يظهر وجه حجية الشياع أيضا في المقام و إن لم يورث العلم.

و إن أبيت عن حجية الظنّ في المقام كان المرجع عند عدم حصول العلم و ما بحكمه أصالة التمام كما مرّ بيانها.

و ربما يقال: إنّ الظن الاطمئناني أيضا ملحق بالعلم، لكونه من أفراده عرفا.

و فيه أنّه ليس في أدلتنا لفظ العلم حتى يقال بوجوب الرجوع إلى العرف و العادة في تشخيص مصاديقه، بل الاعتماد عليه من جهة حجتيه الذاتية غير القابلة للجعل.

و هذا المعنى إنّما يثبت لنفس العلم و اليقين فقط.

اللّٰهم إلّا ان يقال باستمراره السيرة على العمل بهذا القبيل من الظن المتاخم للعلم، فيكون ذلك دليلا على حجيته و جواز الاعتماد عليه و إن لم يكن من أفراد العلم.

حكم الفحص عند الشك في المسافة

المسألة الرابعة: إذا شك في أن الطريق المقصود بمقدار المسافة أو لا، و لم يكن في البين أمارة، فهل يرجع إلى أصالة التمام من دون فحص، أو يجب الفحص و مع اليأس يرجع إليها، أو يفصّل بين ما إذا كان الفحص مستلزما للحرج و بين غيره؟ في المسألة وجوه.

و لا يخفى أنّ الشبهة في المقام شبهة موضوعية وجوبية، و أنّ الشك في المكلف به لا التكليف، للعلم إجمالا بوجوب القصر أو الإتمام، غاية الأمر كون الإتمام موردا.

ص: 149

للأصل، و على فرض جريانه ينحلّ العلم الإجمالي فيقع الكلام في أنّه يجري قبل الفحص أو لا.

قال الشيخ: «و هل يجب الفحص أم لا؟ وجهان: من أصالة العدم التي لا يعتبر فيها الفحص عند إجرائها في موضوعات الأحكام، و من تعليق الحكم بالقصر على المسافة النفس الأمرية، فيجب لتحصيل الواقع عند الشك إمّا الجمع، و إمّا الفحص، و الأوّل منتف هنا إجماعا، فتعيّن الثاني.» (1)

أقول: لا يظهر لكلامه «قده» معنى محصّل، إذ ما ذكره من كون الحكم بالقصر معلقا على المسافة النفس الأمرية بيان لوجود العلم الإجمالي في المقام، و هو مسلم لكن المقصود حلّه بإجراء الأصل، و ما ذكره للمنع عن جريانه قبل الفحص لا يفي بذلك، إذ الحصر الذي ذكره غير حاصر، لإمكان القول بإجراء الأصل و عدم الفحص. و بالجملة ما استدل به لوجوب الفحص مما يشبه المصادرة، كما لا يخفى.

ثم ما ذكره من أنه يجب إمّا الجمع و إمّا الفحص، إمّا أن يكون بنحو الترديد بأن يكون المراد تعين الجمع أو تعين الفحص، و إمّا أن يكون بنحو التخيير، فعلى الأوّل يصح قوله: «و الأوّل منتف هنا إجماعا». و أما على الثاني فلا يصح ذلك، لجواز الجمع قطعا. هذا.

و الهمداني «قده» بعد ما سلّم في المقام عدم تنجيز العلم الإجمالي بنحو الإطلاق و إلّا لما صحّ إجراء الأصل بعد الفحص أيضا قال: إنه مانع عن الرجوع إلى الأصول قبل الفحص. (2)

و يرد عليه أنّ العلم إن أثّر في تنجيز الطرفين فلا مجال للأصل و لو بعد الفحص، و إن كان تأثيره معلقا على عدم جريان الأصل فلنا أن نقول بجريانه قبل الفحص


1- كتاب الصلاة للشيخ الأعظم الأنصاري- 390.
2- راجع مصباح الفقيه- 725 (كتاب الصلاة) في الشرط الأوّل من شروط القصر، التنبيه الرابع.

ص: 150

أيضا، و بجريانه ينحل العلم. و القول باشتراطه بالفحص في أطراف العلم دون الشبهة البدوية دعوى بلا دليل.

و قال بعض أعاظم العصر: إنه من الممكن دعوى انصراف لفظ الشك و عدم العلم عن مورد يمكن تحصيل العلم بسهولة. فالأدلّة المعلقة للترخيص على هذين العنوانين غير شاملة للشكوك الابتدائية الزائلة بالفحص. نعم، خرج الشبهة التحريمية الموضوعية بالإجماع، فيبقى غيرها على طبق القاعدة من وجوب الفحص. (1)

و يرد عليه أيضا عدم تسليم الانصراف.

و الحق أن يقال: إنّ الشبهة الموضوعية إذا كانت في باب الأموال و الحقوق المجعولة شرعا يمكن دعوى القطع بوجوب الفحص فيها، و إلّا لزم الخروج من الدين و تعطيل كثير من الأحكام الشرعية. فمن شك في حصول الاستطاعة أو بلوغ ماله حدّ النصاب أو صيرورته متعلقا للخمس لا يجوز له استصحاب العدم قبل الفحص.

فإنّ الاستطاعة و بلوغ المال حدّ النصاب و نحوهما مما لا تعلم غالبا إلّا بالفحص، فالقول بعدم وجوبه يوجب تعطيل هذه الأحكام غالبا.

و كيف كان ففي مسألة الشك في المسألة الأحوط الفحص.

مبدأ المسافة

المسألة الخامسة: في مبدأ المسافة وجوه بل أقوال: 1- أن تعتبر من المنزل. نسب ذلك إلى الصدوق. (2) 2- أن تعتبر من حدّ الترخص. 3- أن تعتبر من آخر خطة البلد.

و ربما قيل في البلاد الكبيرة باعتبارها من آخر المحلة.


1- راجع كتاب الصلاة لآية اللّٰه العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري «قده»- 591، في الشرط الأوّل من شروط القصر، المسألة 6.
2- في المختلف ص 163 (ط. أخرى 2- 534): «و قال علي بن بابويه: و إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه».

ص: 151

و يمكن أن يوجّه الأوّل بأن الشخص بعد أن خرج من منزله عازما للسفر صدق عليه عنوان المسافر من حينه.

و يمكن أن يوجه الثاني بأن العرف لا يساعد على إطلاق عنوان المسافر إلّا على من خرج عن فناء بلده، بحيث غاب عنه آثاره، و هو عين وصوله إلى حدّ الترخص.

أو يقال: إنّ العرف و إن ساعد على إطلاقه قبل ذلك لكن الشرع لم يعتبر ذلك.

بتقريب أن المستفاد مما دل على اشتراط القصر بالوصول إلى حدّ الترخص هو أنّ السفر إنما يتحقق شرعا بعد الوصول إليه.

و يمكن أن يوجّه الثالث بأن السير في شوارع البلد و محلاته مما يحصل من الإنسان في كلّ يوم، إذ المتوطن في بلدة لا يخلو غالبا من السير في نقاطها المختلفة لقضاء الحوائج اليومية، فلا يكون هذا السير موجبا لصدق اسم المسافر، بل الملاك لصدقه تحقق سير منه مغايرا لما يتحقق منه في كلّ يوم، و ليس هذا إلّا ما يتغرب به من البلد.

و يمكن أن يناقش في ذلك بأن السير في شوارع البلد لا يوجب صدق عنوان المسافر إذا تحقق مستقلا، و أمّا إذا تحقق في امتداد السير في خارج البلد كان المجموع ملاكا لصدق عنوانه، كما يشهد بذلك إطلاق العرف هذا العنوان على من خرج من منزله قاصدا للثمانية مثلا.

ثم لا يخفى أنّ ادعاء الإجماع أو الشهرة في هذه المسألة بلا وجه، فإنها لم تكن معنونة في كلمات الأصحاب. (1) نعم، يظهر من العلامة في كتبه أن الاعتبار بآخر البلد. (2)


1- قال في مفتاح الكرامة 3- 495: «و ظاهر مجمع البرهان 3- 366 و الذخيرة ص 407 و الكفاية ص 32 و الرياض 4- 408 أن ذلك إجماع من الكلّ، حيث قالوا ما نصّه: قالوا: المراد جدران آخر البلد الصغير أو القرية و إلّا فالمحلّة. و الحق أن المصرح بذلك أوّلا إنما هو الشهيد.».
2- راجع التذكرة 1- 189 (ط. أخرى 4- 377)، المسألة 625 (في شرائط القصر)، و المنتهى 1- 391، و نهاية الإحكام 2- 172.

ص: 152

و أوّل من عنون المسألة بنحو التفصيل الشهيد الأوّل في الذكرى و البيان و تبعه الشهيد الثاني و بعض آخر، (1) فقالو إنّ المبدأ آخر خطة البلد في البلاد المتعارفة، و آخر المحلة في البلاد المتسعة. و في جامع المقاصد: أنه لو كان في موضع وحده كساكن البرّ أو موضع لم يكن في البلد فهو بمنزلة ما إذا كان منزله في نهاية عمارة البلد. (2)

و كيف كان فالمسألة من التفريعات التي يجب فيها إعمال النظر و الاجتهاد، و ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد، و لذا لم تذكر في كتب القدماء من أصحابنا و ليس منها اسم في كتبهم، فادعاء الشهرة أو الإجماع فيها غريب.

و الأقوى فيها هو الوجه الثالث. و يدلّ عليه أنّ عنوان السفر و عنوان الإقامة متقابلان عرفا، كما يستفاد من قوله تعالى يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ. (3) و عنوان المقيم إنّما يطلق على الشخص باعتبار توطنه في بلد خاصّ من دون نظر إلى كونه ساكنا في منزل مخصوص من منازله، فيقال: فلان مقيم بلدة قم مثلا من جهة كونه مترددا دائما في شوارعه و محلاته لقضاء حوائجه اليومية. فما دام كون الشخص في البلد، و إن كان يتردد في شوارعه، يطلق عليه المقيم عرفا. فإذا قيل: سافر فلان، تبادر إلى أذهان السامعين أنّه خرج من البلد الذي كان متوطنا فيه و تغرّب منه.

و بالجملة المتبادر إلى ذهن العرف من لفظ السفر هو التغريب من الوطن و محل الإقامة، و يحصل ذلك بالخروج من خطة البلد و نهايته، إذ مجموع البلد يعد محلا


1- راجع الذكرى- 259 (في شروط القصر- الشرط الثالث)، و البيان- 155 (ط. أخرى- 260) و المهذّب البارع 1- 482 (في الشرط الثاني من شروط القصر)، و الروض- 383، و الروضة 1- 369، و غيرها مما ذكره في مفتاح الكرامة 3- 495.
2- لم نقف عليه في جامع المقاصد، و لكن نقله عن المحقق الثاني في مفتاح الكرامة 3- 496 بلا ذكر للمصدر.
3- سورة النحل (16)، الآية 80.

ص: 153

للإقامة من جهة أنّ الشخص يتردد دائما في طرقه و شوارعه لقضاء الحوائج اليومية، و ما هو الملاك عرفا لصدق عنوان السفر هو السير الزائد على ما كان يتحقق من الإنسان في كلّ يوم في نقاط محل الإقامة.

و لأجل ذلك ترى أنّه يتبادر إلى الأذهان في باب التحديدات المذكورة للمسافات المختلفة كونها معتبرة بين البلاد من دون نظر إلى المحلات و المنازل، و لا يلتفتون في تحديداتهم إلّا إلى البعد الواقع بين البلدين. و كان هذا المعنى بعينه مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام، فكانوا عند سؤالهم عن مقدار مسافة التقصير يذكرون البعد الواقع بين بلادهم و مقاصدهم، من دون أن يذكر أحد منهم اسما من منزله أو محلته. فيكشف ذلك عن كون المتبادر إلى أذهانهم من اعتبار المسافة اعتبارها من آخر البلد لا من المنزل، و لم يردعهم الأئمة عليهم السلام عن ذلك، مع أنّه لو كان الاعتبار شرعا بغير هذا المعنى العرفي لكان عليهم التنبيه على ذلك، فراجع أخبار باب المسافة حتى تطلع على ما ذكرناه:

فمنها: رواية أبي ولّاد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام، إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، و هو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء. الحديث. (1)

فمنها: رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن التقصير في الصلاة فقلت له: إنّ لي ضيعة قريبة من الكوفة، و هي بمنزلة القادسية من الكوفة. الحديث. (2)

و منها: مرسلة صفوان، قال: سألت الرضا عليه السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، و هي أربعة فراسخ


1- الوسائل 5- 504 (ط. أخرى 8- 469)، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 521 (ط. أخرى 8- 492)، الباب 14 منها، الحديث 4.

ص: 154

من بغداد. الحديث. (1)

فيستفاد من هذه الأحاديث أنّه كان المركوز في أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام اعتبار البعد و المسافة من البلد إلى البلد، و لم يرد عن الأئمة عليهم السلام ردع بالنسبة إلى ذلك، بل ربما يستفاد صحة ذلك و كونه صوابا من رواية زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، حيث قال عليه السلام: «و قد سافر رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله إلى في خشب، و هي مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان: أربعة و عشرون ميلا، فقصّر و أفطر.» (2)

و بالجملة كون الاعتبار بحسب الارتكاز العرفي بالبعد الواقع بين البلدين مما لا يكاد يخفى.

و مما يؤيد ما ذكرنا أيضا أنّ تحديد المسافة في أخبارنا ورد بلفظ البريدين و الفراسخ و الأميال، و من المعلوم أنّ نصب الأميال و الأحجار و اعتبار البريد كان في المسافات الواقعة في خارج البلاد، و واضح أنّه كان يتبادر إلى أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام من الألفاظ المذكورة أنهم عليهم السلام بصدد إحالتهم في تعيين المسافة إلى البرد و الأميال و الفراسخ الخارجية المنصوبة من قبل السلاطين، و لا محالة كانوا يعتمدون عليها بعد سماع التحديدات منهم عليهم السلام.

اللّٰهم إلّا أن يقال: إنّ المتبادر إلى أذهانهم كون الاعتبار بمقدار هذه الأمور لا بأنفسها، كما يشهد بذلك ما ذكرناه سابقا من أن المسافة الموجبة للقصر مسافة واقعية مخصوصة، و أنّ التعابير الأربعة إنّما وردت للإشارة إليها، فتدبّر.

و كيف كان فالاعتبار في تحديد المسافة بنهاية البلد لا بالمنزل و لا بحدّ الترخص، و لا فرق في ذلك بين البلاد الكبيرة و غيرها. و لا وجه لما ذكروه من كون الاعتبار في


1- المصدر السابق 5- 503 (ط. أخرى 8- 468)، الباب 4 منها، الحديث 1، (الخامس من الطائفة الثالثة).
2- المصدر السابق 5- 491 (ط. أخرى 8- 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.

ص: 155

البلاد الكبيرة بآخر المحلة، إذ صرف تسمية قسمة من البلد باسم لا يوجب صيرورة الخارج منها مسافرا، فإذا فرض كون شخص ساكنا في آخر محلة من بلد مجاورا للمحلات الأخر و كان تردده في جميع الأيّام في شوارع المحلات الأخر و كان قضاء حوائجه اليومية في تلك المحلات من دون أن يكون له شأن و شغل في محلة نفسه فهل يمكن أن يقال إنّه إذا خرج من محلة نفسه بقصد السفر صار مسافرا ما لم يخرج من البلد؟ لا، و لا يقبل الوجدان ذلك، بل هذا الشخص أيضا ينسب إلى مجموع البلد فيقال: فلان ساكن بلدة إسلامبول مثلا و مقيم فيها، و الملاك في صدق عنوان المسافر هو الخروج من محل الإقامة كما عرفت.

و من الغريب ما ذكره بعضهم في هذا المقام من أنّ الموضوعات الشرعية يجب أن تحمل على الأفراد المتعارفة، نظير ما ذكر في تحديد الوجه من رجوع غير مستوى الخلقة إليه، فيحمل البلد في هذا المقام أيضا على البلد المتعارف.

و يرد عليه أنّه لم يرد في أخبارنا في هذا المقام لفظ البلد حتى يحمل على المتعارف منه، و كون الاعتبار بالبلد أمر استظهرناه من فهم العرف و من خلال بعض التعبيرات الواردة في بعض الروايات.

ص: 156

الشرط الثاني: قصد المسافة

و من شروط القصر: قصد المسافة. فلو قصد ما دون المسافة ثم تمادى به السير إلى أن كملت المسافة لم يقصر بلا خلاف في ذلك.

و يدلّ عليه بعض الأخبار، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن رجل، عن صفوان، قال: سألت الرضا عليه السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، و هي أربعة فراسخ من بغداد، أ يفطر إذا أراد الرجوع و يقصّر؟ فقال: «لا يقصّر و لا يفطر، لأنه خرج من منزله و ليس يريد السفر ثمانية فراسخ، إنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه.» (1)

و يحمل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ، و يأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى أو ستة فراسخ لا يجوز ذلك ثم ينزل في ذلك الموضع؟ قال: «لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم الصلاة.» (2) (3)


1- الوسائل 5- 503 (ط. أخرى 8- 468)، الباب 4 منها، الحديث 1، (الخامس من الطائفة الثالثة).
2- المصدر السابق 5- 504 (ط. أخرى 8- 469)، و الباب، الحديث 3.
3- و ربّما يستدل لاعتبار القصد أيضا بما دل على تحديد المسافة و اعتبارها بضميمة الإجماع و النصوص على جواز التقصير عند بلوغ حد الترخص، إذ يستفاد من ذلك عدم اعتبار طيّها في التقصير فيتعين كون الاعتبار بقصدها.

ص: 157

مسألة: إذ اقصد الثمانية قبل البلوغ و بلغ في الأثناء و لم يكن الباقي مسافة وجب عليه التقصير، لتحقق القصد منه، و لا دليل على اعتبار وقوعه حال التكليف.

ص: 158

الشرط الثالث: أن لا يكون كثير السفر

اشارة

و من شروط القصر: أن لا يكون كثير السفر. كما عبّر بذلك في بعض عبائر المتأخرين.

و قد اختلفت عبارات الأصحاب في التعبير عن هذا الشرط، فالمشهور بين القدماء التعبير عنه بعدم كون سفره أكثر من حضره، أو بعدم زيادة سفره على حضره. و وافقهم في هذا التعبير بعض المتأخرين. و قد وقع هذا النحو من التعبير في كلام المفيد، و السيّدين، و سلّار، و الشيخ في النهاية و المبسوط، و الحلّي في السرائر، و المحقق في شرائعه و نافعة، و العلّامة في أكثر كتبه كالتذكرة و الإرشاد و القواعد و التحرير، و الشهيد الأوّل في الدروس، إلى غير ذلك من المتأخرين. (1)

و عبّر عنه في المعتبر بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام سفرا، ثم قال: «و قال بعضهم أن لا يكون سفره أكثر من حضره. و هذه عبارة غير صالحة، و قد اعتمدها المفيد و أتباعه. و يلزم على قولهم لو أقام في بلده عشرة و سفر عشرين أن يلزم الإتمام في السفر، و هذا لم يقله أحد.» (2)

أقول: و أنت ترى أن العنوان الذي ذكره مع شموله لسائر ما يوجب الإتمام، كسفر المعصية مثلا، عنوان مجمل. و محصله: أنه يشترط في إيجاب السفر للقصر


1- راجع المقنعة- 349، و الانتصار- 53، و الجوامع الفقهية- 495 (ط. أخرى 8- 557)، فصل في أقسام الصلاة من كتاب «الغنية»، و المراسم- 74، و النهاية- 122، و المبسوط 1- 284 (في كتاب الصوم)، و السرائر 1- 338، و الشرائع 1- 134 (ط. أخرى 8- 102)، و المختصر النافع- 51، و التذكرة 1- 191 (ط. أخرى 4- 394)، و الإرشاد 1- 275، و القواعد 1- 50، و التحرير 1- 56، و الدروس 1- 211، و غيرها من كتب المتأخرين.
2- المعتبر 2- 472، في صلاة المسافر- الشرط الرابع.

ص: 159

كونه موجبا له، فيتحد الشرط و المشروط.

و عبّر عن هذا الشرط بعض المتأخرين بعدم كون السفر عملا و شغلا له (1)، و آخرون بعدم كونه كثير السفر. (2) و في مفتاح الكرامة عن أستاذه بحر العلوم أنّ الأولى التعبير عنه بأن لا يكون السفر عمله و من كان منزله و بيته معه. (3) و اقتصر بعضهم على ذكر خصوص بعض العناوين الخاصة الواردة في الروايات من دون أن يذكروا لها عنوانا جامعا. (4)

نقل الأقوال في المسألة

فلنذكر بعض عبائر القدماء ثم نشرع في الاستدلال على أصل المسألة، فنقول:

1- قال الصدوق في هدايته: «فأمّا الذي يجب عليه التمام في الصلاة و الصوم في السفر: المكاري، و الكري، و البريد، و الراعي، و الملّاح، لأنّه عملهم». (5)

2- و قال المفيد في المقنعة: «و من كان سفره أكثر من حضره فعليه الإتمام في الصوم و الصلاة معا» (6) 3- و قال السيد المرتضى في الانتصار: «و مما انفردت به الإماميّة القول بأن من سفره أكثر من حضره، كالملّاحين و الجمّالين و من جرى مجراهم، لا تقصير عليهم لأنّ باقي الفقهاء لا يراعون ذلك. و الحجة على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة». (7)


1- نسبه في مفتاح الكرامة 3- 568 إلى العلّامة في بعض كتبه، و الشهيد، و جملة من متأخري المتأخرين.
2- منهم الشهيد في الروض- 389، (في صلاة المسافر- الشرط الخامس).
3- مفتاح الكرامة 3- 568، (في الشرط الرابع من شروط القصر).
4- راجع مجمع الفائدة و البرهان 3- 387، (في الشرط الخامس من شروط القصر).
5- الجوامع الفقهية- 52، باب صلاة المسافر من كتاب «الهداية».
6- المقنعة- 349، باب حكم المسافرين في الصيام.
7- الانتصار- 53، مسائل الصلاة.

ص: 160

4- و قال الشيخ في النهاية: «و لا يجوز التقصير للمكاري و الملّاح، و الراعي، و البدوي إذا طلب القطر و النبت، و الذي يدور في جبايته، و الذي يدور في إمارته، و من يدور في التجارة من سوق إلى سوق، و من كان سفره أكثر من حضره. هؤلاء كلّهم لا يجوز لهم التقصير ما لم يكن لهم في بلدهم مقام عشرة أيام». (1)

5- و قال سلّار في المراسم: «و لا قصر للملّاح، و الجمّال، و من معيشته في السفر، و من سفره أكثر من حضره». (2)

6- و قال ابن زهرة في الغنية: «الظهر أربع ركعات (إلى أن قال:) هذا في حقّ الحاضر أهله بلا خلاف، و في حق من كان حكمه حكم الحاضرين من المسافرين، و هو من كان سفره أكثر من حضره، كالجمّال و المكاري و البادي». (3)

7- و قال ابن حمزة في الوسيلة- بعد ما شرط في القصر أن لا يكون سفره في حكم الحضر-: «و الذي يكون سفره في حكم الحضر ثمانية رهط: المكاري، و الملّاح، و الراعي، و البدوي، و البريد، و الذي يدور في إمارته، أو جبايته، أو تجارته من سوق إلى سوق.» (4)

هذه جملة من أقوال الأصحاب في المسألة.

و لا يخفى أن العناوين الخاصة المذكورة في روايات الباب عشرة، و هي السبعة المذكورة في النهاية مضافة إلى الجمّال، و الكري، و الأشتقان.

و الظاهر دخول الجمّال في المكاري لكونه قسما منه و إن ذكر بخصوصه في الأخبار.

و أمّا الكري و الأشتقان فلم نتحصل المراد منهما بنحو الجزم. و لعلّ الكري عبارة عمن يكري نفسه لعمل كالبريد مثلا في مقابل المكاري الذي يكري دوابّه. و ذكروا


1- النهاية- 122، باب الصلاة في السفر.
2- المراسم- 74، ذكر صلاة المسافر.
3- الجوامع الفقهية- 495 (ط. أخرى- 557)، فصل في أقسام الصلاة من كتاب «الغنية».
4- الوسيلة- 108، فصل في بيان أحكام صلاة السفر.

ص: 161

في معنى الأشتقان أنه معرب «دشتبان»، بمعنى أمين البيادر من قبل السلطان. و في الفقيه: «الأشتقان: البريد». (1)

أخبار المسألة

ثم إنّ صاحب الوسائل ذكر في الباب الذي عقده لهذه المسألة اثني عشر حديثا، و لكن بعضها مكررة كما لا يخفى:

1- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، و عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري، و الكري، و الراعي، و الأشتقان، لأنّه عملهم.» و رواه الشيخ و الصدوق أيضا، و قال الصدوق بعد نقله: «و روي: الملّاح». (2) و الرواية من حيث السند في غاية الصحة، كما لا يخفى.

2- ما عن الخصال عن محمّد بن موسى بن المتوكل، عن السعدآبادي، عن أحمد بن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال:

«خمسة يتمون في سفر كانوا أو حضر: المكاري، و الكري، و الأشتقان- و هو البريد-، و الراعي، و الملّاح، لأنّه عملهم.» (3)


1- الفقيه 1- 439، باب الصلاة في السفر، ذيل الحديث 1275. قال الشهيد «قده» في الذكرى- 260: «و المراد بالكري في الرواية: المكتري. و قال بعض أهل اللغة: قد يقال الكري على المكاري. و الحمل على المغاير أولى بالرواية، لتكثر الفائدة، و أصالة عدم الترادف.» و قال أيضا: «الأشتقان هو: أمين البيادر. و قيل: البريد».
2- الوسائل 5- 515 (ط. أخرى 8- 485)، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر، الحديثان 2 و 3.
3- المصدر السابق 5- 517 (ط. أخرى 8- 487) و الباب، الحديث 12. و فيه- بطبعتيه الحديثتين- زاد بعد ابن أبي عمير كلمة «رفعه»، و في الخصال- 302: «يرفعه». و لكن أسقطت الكلمة من طبعته القديمة ج 1 ص 549. و أثبتت الرواية في المتن من هذه الطبعة.

ص: 162

و تفسير الأشتقان بالبريد لعلّه من كلام الصدوق. و يحتمل قريبا أنّ قوله:

«و هو البريد» كان بعد قوله: «الكري»، و كان تفسيرا له، و كان ذكره بعد الأشتقان من أغلاط النساخ.

ثم إنّ الظاهر كون الرواية مرسلة، لأنّ ابن أبي عمير من الطبقة السادسة، من أصحاب الرضا عليه السلام، فيبعد جدا روايته عن الصادق عليه السلام بلا واسطة.

3- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن ابي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «المكاري و الجمال الذي يختلف و ليس له مقام يتم الصلاة و يصوم شهر رمضان.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمد بن يعقوب. و رواه أيضا بإسناده عن علي بن الحسن، عن السندي بن الربيع. (1)

4- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال: «ليس على الملّاحين في سفينتهم تقصير، و لا على المكاري، و الجمّال.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن محمّد بن مسلم. و نحوه أيضا ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن أبي المغراء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال: «ليس على الملّاحين في سفينتهم تقصير، و لا على المكارين، و لا على الجمّالين.» (2)

5- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن أحمد العلوي، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى، عن أبي عبد اللّٰه عليهما السلام، قال: «أصحاب السفن يتمون الصلاة في سفنهم.» (3)


1- المصدر 5- 515 و 517 (ط. أخرى 8- 484 و 487) و الباب، الحديثان 1 و 10.
2- المصدر السابق 5- 516 (ط. أخرى 8- 485 و 486) و الباب، الحديثان 4 و 8.
3- المصدر السابق، و الصفحة و الباب، الحديث 7.

ص: 163

6- ما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه، عن سليمان الجعفري، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «كل من سافر فعليه التقصير و الإفطار غير الملّاح، فإنه في بيت و هو يتردد حيث يشاء.» (1)

7- ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال:

«الأعراب لا يقصرون، و ذلك أنّ منازلهم معهم.» (2)

8- ما رواه عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن إسحاق بن عمار، قال: سألته عن الملّاحين و الأعراب هل عليهم تقصير؟ قال: «لا، بيوتهم معهم.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن علي بن إبراهيم. (3)

9- ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه، قال: «سبعة لا يقصّرون الصلاة: الجابي الذي يدور في جبايته، و الأمير الذي يدور في إمارته، و التاجر الذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، و الراعي، و البدوي الذي يطلب مواضع القطر و منبت الشجر، و الرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، و المحارب الذي يقطع السبيل.» و بإسناده عن الحسن بن علي بن فضّال، عن عمرو بن عثمان، عن عبد اللّٰه بن المغيرة نحوه. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد. (4)

10- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن أبيه، و محمد بن


1- المصدر السابق 5- 517 (ط. أخرى 8- 487) و الباب، الحديث 11.
2- المصدر السابق 5- 516 (ط. أخرى 8- 486) و الباب، الحديث 6.
3- المصدر السابق 5- 516 (ط. أخرى 8- 485) و الباب، الحديث 5.
4- المصدر السابق 5- 516 (ط. أخرى 8- 486) و الباب، الحديث 9. و إسماعيل بن أبي زياد هو السكوني

ص: 164

خالد البرقي، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن محمد بن جزك، قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أنّ لي جمالا و لي قوّام عليها و لست أخرج فيها إلّا في طريق مكة لرغبتي في الحج، أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجب عليّ إذا أنا خرجت معهم أن أعمل، أ يجب عليّ التقصير في الصلاة و الصيام في السفر، أو التمام؟

فوقّع عليه السلام: «إذا كنت لا تلزمها و لا تخرج معها في كل سفر إلّا إلى مكة فعليك تقصير و إفطار.» و روى الكليني أيضا نحوه عن محمد بن جزك. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن عبد اللّٰه بن جعفر، عن محمد بن شرف، عن أبي الحسن عليه السلام. (1)

هذه جميع روايات المسألة غير ما يتعلق بفروعها.

مخالفة العنوان المشهور للعنوانين.

و أنت ترى أنّ المذكور فيها عناوين خاصة، و أنه ليس للعنوان الذي ذكره المشهور عين و لا أثر في الروايات، و لم يذكر فيها ضابط كلّي سوى ما اشتمل عليه الأوليان من التعليل بقوله: «لأنّه عملهم» و ما اشتمل عليه رواية إسحاق بن عمّار و روايتا سليمان الجعفري من قوله: «بيوتهم معهم»، أو «أنّ منازلهم معهم»، أو «فإنّه في بيت و هو يتردد حيث يشاء».

و لا يخفى أنّ الظاهر منها دوران الحكم مدار العلتين المنصوصين، أعني كون السفر عملا له، أو كون بيته معه. و قد ذكر بعض المتأخرين- و منهم السيّد «قده» في العروة (2)- هذين العنوانين مستقلين و لم يدرجوهما تحت عنوان واحد، و قد عرفت استحسان بحر العلوم «قده» أيضا لذلك. و الظاهر عندنا أيضا صحة ذلك، و أنّ ثبوت الإتمام للمكاري و نظائره ليس بملاك ثبوته للبدوي و شبهه، بل الملاك فيهما مختلف،


1- المصدر السابق 5- 518 (ط. أخرى 8- 489)، الباب 12 منها، الحديث 4.
2- راجع العروة الوثقى 2- 131- 130، السادس و السابع من شروط القصر.

ص: 165

حيث إنّ البدوي و شبهه خارج عمن يجب عليه القصر موضوعا، بخلاف المكاري و نظائره، فإنّه داخل فيه موضوعا غاية الأمر خروجه بالتخصيص.

بيان ذلك: أن الظاهر من قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ (1) كون الخطاب من أوّل الأمر متوجها إلى من يكون السفر و الضرب في الأرض طارئا له، بأن كان له مقرّ معلوم متّخذ على الوطنية و يتغرّب بسفره عن وطنه، لا إلى كلّ من يضرب في الأرض و يسير فيها و إن كان سفره عين حضره و لم يحصل له بسفره بعد عن مقرّه.

و بعبارة أخرى: مطلق السائر في الأرض لا يطلق عليه عنوان المسافر عرفا ما لم يكن له مقرّ معلوم يتغرب بسيرة عنه. و المنصرف من إطلاق الآية و سائر أدلّة القصر هو الذي عرض عليه عنوان السفر، و يكون له حضر في قبال سفره و سيره، لا من يكون حضره في السير و السفر، بحيث يكون بقاؤه اتفاقا في مقرّ معلوم على خلاف طبعه و وضعه.

فلو لم يكن في أخبارنا أيضا اسم من الأعراب لكنا نحكم بوجوب الإتمام عليهم من جهة خروجهم عن موضوع السفر و انصراف أدلّة القصر عنهم.

و قوله عليه السلام: «بيوتهم معهم»، أو: «منازلهم معهم» أيضا إرجاع إلى هذا المعنى الارتكازي و إشارة إلى كون الأعراب خارجين تخصصا.

و بحكمهم أيضا بعض أقسام الملّاحين- كما دل عليه رواية إسحاق بن عمّار و الجعفري- أعني من كان بيته و أهله في السفينة، بحيث يكون نسبته إلى جميع البنادر و البلدان على حد سواء، دون من كان أهله و منزله في أحد البنادر مثلا. فإنّه يدخل في العنوان الآخر.

و بحكمهم أيضا المكاري الذي لم يتخذ لنفسه وطنا و بنى على التعيش في


1- سورة النساء (4)، الآية 101.

ص: 166

السفر. و كذا بعض أقسام الرعاة و الصعاليك السائرة في البلدان بحيث يكون نسبتهم إلى جميعها على حد سواء. فجميع هذه تشترك في انصراف أدلّة القصر عنها من أوّل الأمر و تخرج عنها موضوعا كما لا يخفى.

و أمّا سائر أقسام المكارين و الملّاحين و نظائرهم فتخلف مع الأعراب و مشابهيهم، لكونهم ذوي أوطان معلومة و يكون السفر مبعدا لهم عن أوطانهم، غاية الأمر كثرة تحقق السفر منهم.

فيكون خروجهم عن حكم القصر بعنوان آخر مخصص لأدلته.

و ما هو الملاك في خروجهم هو كون السفر عملا لهم و مقوّما لشغلهم، كما دل عليه روايتا زرارة و ابن أبي عمير. هذا.

و قد عرفت أن المشهور عبّروا عن ذلك بكون السفر أكثر من الحضر.

و يمكن أن يقال باستفادتهم ذلك من قوله عليه السلام: «لأنّه عملهم» بإلقاء الخصوصية:

بتقريب أنّ خصوصية الاكتساب و كون الارتزاق من طريق السفر مما يقطع بعدم دخالته في الحكم. فلو فرض كون شخص يكاري من أوّل عمره إلى آخره في سبيل اللّٰه، بمعنى أنّه يحمل الأشخاص و الأثقال للناس تبرّعا و مجانا فلا ينبغي الإشكال في وجوب الإتمام عليه.

هل يكون لخصوصية التحرف دخل في الحكم؟

و كذلك يمكن أن يقال بعدم دخالة خصوصية كونه ذا حرفة معينة كالمكاراة و نحوها من الصنائع و الحرف المتقومة بالسفر أيضا في ذلك، إذ بمناسبة الحكم و الموضوع يستظهر أن موجب الحكم بالإتمام في هذه الأشخاص هو كون السفر متكررا منهم و كونهم ملازمين له غالبا من غير دخالة لحيثية التحرف في ذلك.

و يدلّ على ذلك أنّ الظاهر رجوع الضمير في قوله: «لأنّه» إلى السفر. فيستفاد

ص: 167

منه أن الملاك كون السفر بما هو سفر عملا لهم، و هو عبارة أخرى عن تكرر وقوعه منهم و مزاولتهم معه، لا كون الحرف الخاصة المذكورة من المكاراة و نحوهما عملا.

و لو سلّم رجوع الضمير إلى كل واحد من مبادئ العناوين المذكورة كالمكاراة و الملاحية و نحوهما أو إلى مجموع المكاراة و سائر المبادي لكان المنظور أيضا هذه المبادي بما هي مشتملة على السفر لا بما هي هي. إذ بمناسبة الحكم و الموضوع يعلم أن كون المكاراة مثلا بما هي هي عملا لا يقتضي الإتمام، بل إنّما يقتضي ذلك بجهة اشتمالها على السفر و كون السفر متكررا من المكاري بحيث لا يوجب له الشدة التي يوجبها سائر الأسفار.

فيرجع الأمر بالآخرة إلى أنّ الملاك في وجوب الإتمام و عدم ثبوت القصر له هو عملية السفر و تكرره و كثرته بحيث يقلّ حضره في جنب سفره، فإنّ العرف يطلق على من كان مزاولا لأمر أنّ هذا الأمر صار عملا له.

فبهذا البيان يمكن تصحيح ما عنونه المشهور و ذكروه في مقام بيان هذا الشرط من عدم كون السفر أكثر من الحضر.

و بالجملة قد ذكر المشهور هذا العنوان حتى في كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام، و ليس منه في الأخبار السابقة عين و لا أثر، و لكن يمكن أن يقال باستفادته من التعليل الوارد في روايتي زرارة و ابن أبي عمير، بعد إلقاء الخصوصيات التي يمكن ادعاء القطع بعدم دخالتها في الموضوع، حيث إنّ العرف يفهم بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ إيجاب الإتمام في المذكورين إنّما نشأ من تكرر السفر عنهم و كثرته و صيرورته أمرا عاديا لهم بحيث لا يوجب لهم المشقة الموجودة في سائر الأسفار الموجبة للقصر و الترخيص، من دون أن يكون لخصوصية الحرفة و الشغل دخل في ذلك. و سيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض الفروع الآتية أيضا، فانتظر.

ص: 168

هذا و لكن يقع الإشكال في أنّ مرادهم بالأكثرية هل هي الأكثرية بحيث يكون الحضر في جنب السفر معدوما عرفا و يقال في حقّ هذا الشخص إنّه سفري، بنحو يكون الحضر منه كالسفر من غيره على خلاف طبعه و عادته، أو الأكثرية الدقية إمّا زمانا ككونه في كل شهر مثلا أربعة عشر يوما في الحضر و ستة عشر يوما في السفر، و إمّا عددا ككون عدد أسفاره في كل شهر أزيد من عدد حضراته؟ فيه وجوه.

و الأظهر بحسب الفهم العرفي هو الأوّل، أعني كون الشخص بحيث يكون حضره فانيا في جنب سفره، فإنّه الذي يطلق عليه عرفا أن السفر عمل له، كما لا يخفى. (1)

ثم إنّ الأولى هو التأمل التام في بعض العناوين الخاصة المذكورة في الروايات و جعلها مطرحا للبحث، إذ لعل ذلك ينتج في استنباط الفروع المشتبهة. فنقول:

أمّا الإعراب فقد عرفت حكمهم و أنه يمكن القول بخروجهم من أدلّة وجوب القصر تخصصا، إذا الظاهر منها بيان حكم السفر الذي هو من الأمور الطارئة، أعني ما يحصل به البعد و التغرّب من المنزل، و العرب البدوي منزله في السفر، فله منزل سيّار و بيت متحرك، فلا يكون سيره في الأرض مبعدا له عن منزله. نعم، إذا سافر من هذا المنزل السيّار بقصد الحجّ أو زيارة المشاهد مثلا وجب عليه القصر، لخروجه


1- الظاهر عدم صحة هذا التعبير، إذ أكثر المكارين لا يكون حضرهم قليلا و فانيا في جنب سفرهم، كما لا يخفى، حيث إنّهم يبقون في أوطانهم لتهيئة المسافرين و الأثقال، بل التعبير بالأكثرية أيضا غير صحيح، و إنّما المدار نفس الكثرة و صيرورة السفر أمرا عاديا و متعارفا له بناء على إلقاء خصوصية التحرف. فلو كان مكار يسافر في شغله كل أسبوع مرة و يكون بقاؤه في السفر ثلاثة و في الحضر أربعة فلا شك في وجوب الإتمام عليه. ثم لا يخفى أنّ كون السفر أكثر عددا من الحضر إنّما يتصور بناء على عدم اشتراط تخلل الحضر في صدق تكرر السفر و القول بتحققه بتكرر المقاصد أيضا، فتدبّر. ح ع- م.

ص: 169

بذلك من منزله و صيرورته مسافرا بحكم العرف، و قد عرفت أيضا أنّ بعض المكارين و الملّاحين و الرعاة أيضا بحكمهم.

و أما الراعي فهو على أقسام: بعضها بحكم الأعراب، كما عرفت. و بعضها لا يتحقق منه السفر أصلا، كمن يخرج دوابّ القرية في كلّ يوم إلى مرتع القرية و يرجعها في الليل. نعم، قد يكون لبعض الرعاة منزل مخصوص و وطن معين، فيتغرّبون عنه في أكثر السنة و يسافرون لرعي الأغنام في الصحاري، فهذا القسم من قبيل المكارين و من بحكمهم.

و من العناوين أيضا التاجر الذي يدور في تجارته، كما في رواية السكوني. و قد تفرد هو بنقله و نقل نظيريه، و لكن روايته هذه معمول بها بين الأصحاب، حيث ذكروا هذه العناوين الخاصة في كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة عنهم عليهم السلام و أفتوا على وفقها. فاللازم هو الدقة في مفادها، فنقول:

لا يخفى وجود الفرق بين التاجر الذي يدور في تجارته و من بحكمه من الأمير و الجابي، و بين مثل المكاري و الملّاح و نظائرهما، فإن المكاراة و نحوها متقومة بالسفر و يكون السفر بمنزلة الجنس لها بحيث لا يعقل تحققها بدونه، و هذا بخلاف التاجر و شقيقيه، فإنّ السفر ليس جنسا لمثل التجارة و الإمارة و الجباية، بل مفاهيمها مفاهيم غير مرتبطة بمفهوم السفر. نعم، قد يتوقف حصول بعض أفرادها من بعض الأشخاص على تحقق السفر، فالتجارة مثلا أمر تتقوّم بوجود رأس مال حتى يشترى به متاع و يباع للربح، و ليست متقومة بمفهوم السفر، غاية الأمر أن تفاوت القيم و حصول الربح قد يكون بحسب اختلاف الأزمنة و قد يكون بحسب اختلاف الأمكنة، و في القسم الثاني قد يحمل المتاع إلى المكان الآخر من دون أن يتوقف التجارة على مسافرة صاحبه، و قد تكون بحيث تتوقف على سفره بنفسه لتقويم المتاع و تحويله و نحو ذلك. و كيف كان فالتجارة ليست شغلا سفريا بحيث تتقوم بالسفر و يكون السفر بمنزلة

ص: 170

الجنس لها، و هذا بخلاف المكاراة و الملّاحية و نحوهما، فإنّ السفر يكون بمنزلة الجنس لها، و يكون كلّ منها نوعا منه. و نظير التاجر الأمير و الجابي، كما في الرواية.

و على هذا فيستفاد من وجوب الإتمام على مثل التاجر الذي يدور في تجارته أنّ وجوب الإتمام لا ينحصر فيمن يكون السفر مقوّما لشغله و حرفته، كما لا يخفى.

ثم إنّ المذكور في الرواية و إن كان خصوص من يدور في تجارته من سوق إلى سوق و يتبادر منه تعدد الأسواق على الترتيب الذي كان متداولا في السابق من تأسيس و الأسواق، كلّ شهر في بلد أو برية، إلّا أنه يمكن دعوى القطع بعدم دخالة ذلك في الحكم، إذ بمناسبة الحكم و الموضوع يعلم عدم الفرق بين من يدور في الأسواق المتكررة و بين من يدور بين سوقين كسوق بلده و سوق بلد آخر، سواء كان تجارته بحمل المتاع من هذا إلى ذاك و بالعكس أو كان من طرف واحد، لاشتراك الجميع في أن السفر ليس جنسا لشغلهم و لكن التجارة و الاسترباح بالنسبة إليهم صادفا من باب الاتفاق كثرة السفر و تكرره. و خصوصية كون الأسواق أزيد من اثنين أو كون جميعها خارج الوطن أو كون تجارته بحمل المتاع من الطرفين مما يقطع بعدم دخالتها في الحكم، بل خصوصية السوقية أيضا ملقاة، لإمكان تحقق البيع و الشراء في غير الأسواق، كما لا يخفى.

ثم إنّه هل يكون لخصوصية التجارة دخل في الحكم أو يعمّ سائر الحرف و المكاسب أيضا إذا استلزمت بالنسبة إلى شخص كثرة السفر و تكرره؟

يمكن دعوى القطع بعدم دخالتها بعد اشتراك الجميع في عدم كون السفر جنسا لها و استلزامها لمزاولته اتفاقا في حق أشخاص معينة.

فإذا كان شغله التحرير، أو التدريس، أو التجارة، أو الزراعة، أو نحوها و لم يكن لعمله باذل في بلده فاحتاج إلى أن يسافر في كلّ يوم أو كلّ أسبوع إلى بلد آخر أو محل آخر للاكتساب لزم عليه الإتمام، إذ بمناسبة الحكم و الموضوع يعلم أن الموجب

ص: 171

لرفع القصر و الترخيص هو كثرة السفر و صيرورته سهلا و عاديا بالنسبة إلى هذا الشخص، بحيث لا يوجب بالنسبة إليه الشدة المناسبة للترخيص. و لا فرق في ذلك بين من يدور في التجارة أو في سائر الحرف و المشاغل.

و إذا انتهى إلقاء الخصوصية إلى هذا الحد فلأحد أن يقول بإلقاء خصوصية الاكتساب و التحرف أيضا و كون الملاك نفس الدوران من بلد إلى بلد. فالطلاب و المحصلون المسافرون كلّ يوم أو أسبوع لتحصيل العلم أيضا مشمولون لهذا الحكم.

و قد عرفت أن المشهور أيضا لم يعتبروا التحرف و الاكتساب في عنوان المسألة، بل عبّروا عنه بكون السفر أكثر من الحضر. و تبيّن لك أيضا إمكان استفادته من قوله:

«لأنّه عملهم» بإلقاء الخصوصية، فافهم و انتظر لذلك مزيد توضيح.

تذييل و مناقشة فيما سبق

اعلم أنّ العلّامة في التذكرة بعد ما ذكر من شرائط القصر عدم زيادة السفر على الحضر، و مثل لها بالمكاري و سائر العناوين المذكورة في الروايات و عقّبها بفروع، قال أخيرا: «هل يعتبر هذا الحكم في غيرهم، حتى لو كان غير هؤلاء يردّد في السفر اعتبر فيه ضابطة الإقامة عشرة أو لا؟ إشكال ينشأ من الوقوف على مورد النصّ، و من المشاركة في المعنى.» (1)

فيظهر منه الإشكال في التعدي عن العناوين الخاصّة المذكورة في الروايات. بل ربما يظهر من المحقق في المعتبر أيضا ذلك، حيث إنه استشكل في العنوان المشهور، كما عرفت، و عبّر هو «قده» بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام سفرا. (2) و الظاهر أنه أراد بذلك الإشارة إلى العناوين الخاصة المذكورة في الأخبار، فيستفاد منه عدم التعدي عنها.


1- التذكرة 1- 191 (ط. أخرى 4- 395)، الفرع الأخير من فروع البحث الرابع (عدم زيادة السفر على الحضر).
2- راجع المعتبر 2- 472، الشرط الرابع من شروط القصر.

ص: 172

و نحن نقول: إن كان مرادهم الاستشكال في التعدي عن العناوين الخاصة حتى إلى العناوين المسانخة لها كسائقي السيّارات و ملّاحي الطائرات مثلا في زماننا المسانخين للملّاحين و المكارين حتى في كون السفر جنسا لشغلهم فالاستشكال بلا وجه، إذ فيه- مضافا إلى التعليل بقوله: «لأنه عملهم» الشامل لهم قطعا- أنّه لو كان المذكور في الأخبار نفس العناوين الخاصة فقط لتعدينا منها أيضا إلى العناوين المسانخة لها، للقطع بعدم دخالة خصوصية المكاراة و الملّاحية مثلا و أنّه إذا ألقي هذه العناوين إلى أهل العرف لفهموا منها كون الملاك أمرا جامعا بين المكاراة و الملّاحية مثلا و بين غيرهما من العناوين غير المذكورة المسانخة لهما.

و إن كان مرادهم الاستشكال في التعدي عن ذوي الحرف المستلزمة للسفر إلى كلّ من تكرر عنه السفر و لو لم يكن متحرفا به، كمن تكرر عنه السفر لتحصيل العلم أو الزيادة مثلا، فله وجه، إذ تعميم مفاد الأخبار حتى تشمل مثل ذلك مشكل. و غاية ما يمكن أن يقال في تقريبه أمران أشرنا إليهما سابقا:

الأول: أن يقال بدلالة قوله: «لأنّه عملهم» على ذلك، فإنّ الظاهر كما عرفت كون مرجع الضمير فيه نفس السفر لا عنوان المكاراة و نظائرها. و معنى عملية السفر كثرته و تكرره عن الشخص بحيث يراه العرف مزاولا للسفر دائما سواء صدق عليه أحد العناوين الصناعية أم لم يصدق.

الثاني: إلقاء الخصوصية، بأن يقال: لو فرض قطع النظر عن عموم التعليل أيضا كان المتبادر إلى ذهن العرف عدم دخالة خصوصية التحرف و التكسب، بل كان يحكم بمناسبة الحكم و الموضوع أن الملاك في وجوب الإتمام صيرورة السفر بسبب التكرر عاديا للشخص، بحيث يرتفع عنه صعوبته و مشقته، سواء كان ذلك للتكسب و تحصيل المال أو كان للزيارة و نحوها، فيكون ذكر عنوان المكاراة و نحوها من باب المثال. هذا.

ص: 173

و لكن الظاهر عدم جواز التعدي إلى غير ذوي الحرف المتقوم حرفتهم بالسفر.

بيان ذلك: أنه إذا ألقى إلى العرف حكم الشارع بوجوب الإتمام على الملّاح و المكاري، و نظائرهما، بل و التاجر الذي يدور في تجارته و شقيقيه، لتبادر إلى أذهانهم أن سبب وجوب الإتمام عليهم كون السفر أمرا طبيعيا لهم، حيث إنّ كلّ شخص يختار بحسب طبعه و ميلة شغلا من الأشغال الدنيوية يلائم طبعه و يكون نشاطه و سروره في رواجه، و حزنه و كأبته في كساده، من غير فرق بين أن يكون الاحتياج إلى نفقة المعاش داعيا له إلى اختيار أصل الشغل و بين أن يكون داعيه أمرا وراء ذلك و لو كان جهة قربية. و بين الناس من يتفق أن يكون ميلة الطبيعي إلى شغل يتقوم بحسب النوع، كالمكاراة و نظائرها، أو بحسب الشخص، كالتجارة و شقيقيها، إلى المسافرة و الدوران من هنا إلى هناك، فيكون كمال نشاط هذا الشخص بتهيؤ أسباب سفره كوجود المكتري و الأحمال للمكاري مثلا، و حزنه و كأبته بعدم تهيؤها الموجب لتعطله عن شغله، في قبال سائر الناس المختارين لأشغال حضرية، بحيث يعدّ السفر تعطلا لهم عن أشغالهم و يوجب فيهم كسلا و حزنا. فهم اختاروا بحسب ميلهم الطبيعي أشغالا حضرية، و هؤلاء أشغالا سفرية، و كلّ حزب بما لديهم فرحون، و كمال سرورهم في رواء شغلهم، و يكون السفر تعطلا للحضريين، و الحضر تعطلا للسفرين. و العنوان الجامع للمكاري و نظائره كون السفر كالجنس لشغلهم، و العنوان الجامع للتاجر الذي يدور و شقيقيه كون هذه الأشغال بالنسبة إليهم متوقفة على مزاولة السفر.

فإذا ألقي إلى العرف حكم الإمام عليه السلام بعدم ثبوت القصر و الترخيص لهذين الفريقين انسبق إلى أذهانهم أنّ هذا الحكم ناش من كون السفر شغلا لهم غير موجب لتعطلهم عن أشغالهم الطبيعية، و كونهم مائلين إليه بالطبيعة مسرورين بتهيؤ أسبابه، كما يشهد بذلك أيضا قوله: «لأنّه عملهم.» فلا يشتمل هذا الحكم لمن

ص: 174

يسافر كلّ أسبوع مثلا للزيارة أو تحصيل العلم، لعدم كون السفر ملائما لطباعهم و موجبا لسرورهم و نشاطهم، بل يعدّون مدة السفر تعطلا لهم عن أشغالهم و يكون موجبا لحزنهم و كأبتهم فناسب حكم القصر.

و بالجملة استفادة وجوب الإتمام لغير من يكون السفر شغلا لها و مقوما لحرفته و لو بحسب هذا الشخص، كمن يدور في تجارته أو نجارته أو إمارته أو جبايته أو نحوها من الأشغال، من هذه الروايات الواردة في الباب في غاية الإشكال. فيجب العمل بعمومات أدلّة القصر للمسافر بعد قصور أدلّة الإتمام عن شمول غير ذوي الحرف. و إلقاء خصوصية العملية و الشغلية و إن قرّبناه سابقا لكنه مما لا وجه له بعد احتمال دخالتها. و لا يتوهم مما ذكرنا وجوب القصر على المكاري مثلا إذا لم يكن سفره لتحصيل المال بل للأمور القريبة، لما أشرنا إليه من عدم كون المدار هو الاحتياج بل كون السفر عملا و شغلا و إن كان الداعي إليه أمرا قربيا.

و قد تحصل مما ذكرناه أن الحكم بالإتمام لكلّ من كان سفره كثيرا أو أكثر من حضره في غاية الإشكال و إن عبّر بذلك المشهور. فالملاك كون الشخص ممن بيته معه، أو ممن يكون السفر مقوما لشغله و حرفته و لو من باب الاتفاق، فتدبّر جيدا.

و ها هنا ست مسائل
حكم من كثر سفره في بعض السنة

الأولى: إذا اتخذ المكاراة أو نحوها عملا له في الشتاء مثلا دون الصيف ففي «نجاة العباد» أنّه يصلّى قصرا في وجه (1). و قال الشيخ «قده» في الحاشية: «لا يخلو عن إشكال، فلا يترك الاحتياط.» و اختار آخرون الإتمام.


1- نجاة العباد- 185، في الشرط الخامس من شروط القصر.

ص: 175

و كيف كان فإذا فرض صدق عنوان المكاري مثلا على هذا الشخص فهل يكفي ذلك في وجوب الإتمام عليه، أو الملاك صدق كون السفر عملا له، أو صدق كلا العنوانين؟ و هل المراد بكون السفر عملا له كونه عملا له دائما حتى لا يشتمل ذلك، أو كونه عملا له في الجملة؟

المسألة محلّ إشكال. نعم، لا إشكال في اعتبار التكرر و المزاولة في صدق كون السفر عملا له.

و لكن لأحد أن يقول بكفاية المزاولة في بعض السنة أيضا في صدقه.

فاللازم هو الدقة في مفاد صحيحة زرارة المشتملة على قوله: «لأنه عملهم»، ثم النظر في أنّها هل تشتمل المقام أو لا، فنقول:

قد عرفت أن الضمير في قوله عليه السلام: «لأنه» إما أن يرجع إلى السفر، و إمّا أن يرجع إلى مبادئ الحرف المذكورة، أعني كلّ واحد من المكاراة و نظائرها، أو مجموعها.

و الظاهر هو الأوّل. و يشهد له أيضا مناسبة الحكم و الموضوع، إذ بملاحظتها يستظهر أن سبب الحكم بالإتمام في هذه العناوين هو حيثية كثرة السفر و تكرره منهم. و يؤيد ذلك أيضا قوله عليه السلام في رواية هشام بن الحكم: «المكاري و الجمّال الذي يختلف و ليس له مقام يتمّ الصلاة.» حيث إنّ المستفاد منه كون الملاك هو الاختلاف و تكرر السفر، من دون دخالة لعنوان المكاراة و الجمّالية في ذلك. و قوله: «ليس له مقام» أيضا يمكن أن يكون تأكيدا لذلك، و إن كان يحتمل أيضا أن يكون ناظرا إلى الإقامة التي يأتي أنّها قاطعة للكثرة. و بالجملة الظاهر رجوع الضمير في قوله: «لأنه» إلى نفس السفر، لما عرفت.

و يدلّ عليه أيضا أن الظاهر من التعليل كونه بيانا لأمر ارتكازي و إرجاعا إلى ما يراه العرف و المخاطب سببا للحكم بالإتمام، و ليس ذلك إلّا كون السفر بما

ص: 176

هو سفر عملا له، بمعنى صيرورته أمرا عاديا له بنحو لا يوجد فيه ما هو المقتضي للترخيص في سائر المسافرين. فافتراق هذا المسافر عن سائر المسافرين المتحملين للشدة في السفر أمر مركوز في أذهان العرف، بحيث يمكن أن يدّعى فيه ما ادعيناه في البدوي و نظائره من انصراف أدلّة القصر عنه من أوّل الأمر.

هذا مضافا إلى أنه لو فرض رجوع الضمير إلى مبادئ العناوين المذكورة كالمكاراة و نحوها وجب الالتزام أيضا بكون رجوعه إليها من جهة اشتمالها على حيثية السفر لا بما أنّها عنوان خاص كالمكاراة مثلا، و إلّا كان في التعليل نحو مصادرة، إذ محصله على هذا أنه يجب على المكاري مثلا الإتمام لأن المكاراة عمله، و حاصله أنّه يجب الإتمام على المكاري لأنه مكار. فالواجب أن يلحظ في مرجع الضمير حيثية السفر، و مقتضاه عدم الاعتبار بحيثية المكاراة و نحوها، و كون الإتمام دائرا مدار كون السفر عملا. و العلة كما تكون معممة، تكون مخصصة لدوران الحكم مدارها نفيا و إثباتا. فلازم ذلك عدم الاعتبار بصدق عنوان المكاراة. ما لم يصدق كون السفر عملا له. و إذا صدق كونه عملا وجب الإتمام و إن لم يصدق المكاراة. اللّهم إلّا أن يكون النظر في مرجع الضمير إلى السفر الخاص، أعني السفر المكاراتي مثلا لا مطلق السفر، فيصير الملاك صدق كون السفر الخاص عملا له.

ثم إنّه بعد الفراغ عن ذلك يقع البحث في أنّه هل يكفي في صدق كونه عملا له كونه مزاولا له في بعض السنة، أو لا يكفي ذلك في صدقة؟ فيه وجهان. و إثبات أحدهما مشكل. (1)

ثم إنه يتفرع على ما ذكرناه من كون الاعتبار بعنوان المكاراة أو كون السفر


1- الظاهر أن من يكاري في كلّ سنة ستة أشهر ففي زمن المكاراة يصدق عليه أن السفر عمله.

ص: 177

عملا له، أو كون السفر الخاص عملا فروع أخر:

منها: ما إذا كان مكاريا ثم انصرف عنها و صار ملاحا أو بريدا مثلا بلا فصل، فإن كان الاعتبار بكون السفر عملا له كان هذا العنوان باقيا قطعا، بخلاف قسيميه، فإنّهما يرتفعان و يتوقف الإتمام على صدق العنوان الطارئ. و صدقه في السفر الأوّل و الثاني مشكل.

و منها: ما إذا كان مكاريا يحمل الأثقال للناس، فاتفق في سفر أو سفرين أنه حمل المتاع لنفسه، فإنّه في هذا السفر أو السفرين لا يكون مكاريا. و الالتزام بوجوب القصر عليه مشكل.

و منها: ما إذا كان أحد من أوّل عمره إلى آخره يسافر لحمل أمتعة نفسه من بلد إلى بلد، حيث لا يصدق عليه عنوان المكاري. إلى غير ذلك من الفروع المفروضة، فتدبّر جيّدا.

حكم من كثر سفره في أقل من المسافة

المسألة الثانية: إذا كان السفر غير الموجب للقصر عملا له، ثم أنشأ في شغله سفرا يوجبه، فهل يتمّ أو يقصر؟ مثال ذلك ما إذا كان عمله المكاراة فيما دون المسافة، أو المكاراة بالوجه المحرم كحمل الخمر مثلا، أو المكاراة لا عن قصد الثمانية و إن تحققت من باب الاتفاق، ففي هذه الصور إذا اتفق منه سفر في عمله يوجب القصر لو لا كونه في عمله، فهل يتمّ في هذا السفر، أو يتوقف الإتمام على صيرورة السفر الشرعي أعني الموجب للقصر عملا له بأن يتكرر منه ذلك؟ فيه وجهان.

و قد يستدل لوجوب القصر بأن الظاهر من إيجاب الإتمام على من شغله السفر كون هذا العنوان استثناء من أدلة القصر و رافعا لحكمه، و هذا إنّما يتمّ فيما إذا كان سفره بنحو يوجب القصر لو لا طروء هذا العنوان، و السفر المحرم و أمثاله غير موجب له

ص: 178

و لو لم يكن عملا.

و فيه: أن المنظور في المقام ليس إثبات حكم الإتمام في الأسفار السابقة المحققة لعنوان العملية، بل في هذا السفر الجديد الذي يوجب القصر قطعا لو لا كونه في شغله. فاللازم على هذا المستدل إثبات أنّ الأسفار السابقة المحققة للعنوان أيضا يجب أن تكون مما يوجب القصر.

و يمكن أن يستدل لذلك بصحيحة زرارة السابقة، حيث قال عليه السلام: «أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري و الكري، و الراعي، و الأشتقان، لأنه عملهم.» إذ من الواضح أنّ المراد بقوله: «في سفر» ليس مطلق السفر بل ما يكون موجبا للقصر بحسب ذاته و لو لا طروء عنوان المكاراة و نحوها. فمحصل كلامه عليه السلام أن هذه الأربعة و إن تحقق منهم السفر الذي يوجب القصر بالنسبة إلى غيرهم لا يجب عليهم القصر لطروء هذه العناوين. ثم إنّ مرجع الضمير في قوله: «لأنه» نفس السفر كما عرفت سابقا، و على هذا فمقتضى التعليل أن صيرورة السفر الموجب للقصر ذاتا عملا لهم أوجب عليهم الإتمام.

و يمكن أن يناقش في هذا الاستدلال أيضا بعدم تسليم أن يكون المراد بالسفر في قوله عليه السلام السفر الخاص الموجب للقصر، و لعلّه عليه السلام أراد أن هذه الأربعة يجب عليهم الإتمام في جميع الحالات من الحضر و السفر بقسميه، فتدبّر (1).


1- و ربّما يحمل على من كان التردد إلى ما دون المسافة عملا له رواية إسحاق بن عمار. قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الذين يكرون الدواب يختلفون كلّ الأيّام، أ عليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال: «نعم». و رواية الأخرى عنه أيضا. قال: سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب، و قلت: يختلفون كلّ أيّام كلما جاءهم شي ء اختلفوا؟ فقال: «عليهم التقصير إذا سافروا.» (راجع الوسائل 5- 518 (ط. أخرى 8- 488)، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديثين 2 و 3.) و ربما تحملان أيضا على ما إذا أقاموا في البلد عشرة أيّام، أو ما إذا لم يكسر السفر عملا لهم بل اختلفوا أحيانا. ح ع- م.

ص: 179

قاطعية الإقامة للكثرة

المسألة الثالثة: قد عرفت أن من شرائط القصر أن لا يكون المسافر كثير السفر، مع اختلاف التعبيرات الواقعة في كلماتهم عن هذا الشرط. و اعتبار هذا الشرط إجمالا مجمع عليه بين الأصحاب. نعم، لم يذكره ابن أبي عقيل، و الصدوق في المقنع.

ثم إنّ كثيرا من المعترضين لهذا الشرط ذكروا أنه إن أقام في بلده عشرة أيام انقطع حكم الكثرة، و وجب القصر في السفر الذي بعدها، و ادعى بعضهم عليه الإجماع و لكن في المعتبر: «أن دعوى الإجماع في مثل هذه الأمور و غلط.» (1) و لم يتعرض لهذا الفرع في المقنعة و الهداية و الانتصار و المراسم و الكافي و الغنية. و قال الشيخ في النهاية بعد ذكر المكاري و نظائره: «هؤلاء كلّهم لا يجوز لهم التقصير ما لم يكن لهم في بلدهم مقام عشرة أيّام، فإن كان لهم في بلدهم مقام عشرة أيّام وجب عليهم التقصير، و إن كان مقامهم في بلدهم خمسة أيّام قصّروا بالنهار و تمّوا الصلاة بالليل». (2)

و بالجملة قد تعرض كثير منهم لكون إقامة العشر في البلد قاطعة لحكم الكثرة.

و أمّا الإقامة في غير بلده فلم نر إلى زمن المحقق «قده» من تعرض لقاطعيتها.

نعم، الحق المحقق و العلّامة و من تأخر عنهما بإقامة العشرة في بلده العشرة المنوية في غيره، و اكتفى بعضهم بمطلق العشرة. (3) و في مفتاح الكرامة عن الرسالة النجيبية


1- المعتبر 2- 473، في الشرط الرابع من شروط القصر.
2- النهاية- 122، باب الصلاة في السفر.
3- قال المحقق في المختصر النافع- 51: «و ضابطه ألّا يقيم في بلده عشرة، و لو أقام في بلده أو غير بلده ذلك قصّر.» قال في الرياض ج 4 ص 429: «و إطلاقها أي المرسلة كالعبارة. و إن اقتضى الاكتفاء في غير البلد بإقامة العشرة و لو من غير نية إلّا أنّ ظاهرهم تقييدها فيه بالنية، بل ادعى عليه الإجماع جماعة و منهم شيخنا في الروض ص 391 و خالي العلّامة المجلسي.» و راجع التذكرة 1- 191 ط. أخرى 4- 394، و جامع المقاصد 2- 513، و غيرهما.

ص: 180

تقييد عشرة البلد أيضا بالنية ثم قال: «و لم أجد له موافقا.» (1)

ثم إنّ بعض المتعرضين لقاطعية الإقامة المنوية في غير البلد الحق بها إقامة الثلاثين مترددا. (2) و عن كثير منهم عدم الاكتفاء بالثلاثين. (3) نعم، ألحقوا بها العشرة الحاصلة بعد الثلاثين. (4)

و بالجملة فكلماتهم مختلفة متشتتة في باب انقطاع الكثرة. و قد استشكل في أصل انقطاعها- حتى بالنسبة إلى إقامة العشرة في البلد- المقدس الأردبيلي، و تلميذه صاحب المدارك. و ظاهر الحدائق القطع بعدم الانقطاع بذلك. (5) و لعل نظرهم في ذلك إلى ضعف بعض الأخبار الواردة في المسألة و اضطراب متن الصحيح منهما كما ستعرف، و لكن لا يخفى أن الضعف في المقام يتجبر بعمل الأصحاب، كما سيظهر.

ثم إن ما ذكره الشيخ في النهاية من حكم إقامة الخمسة في البلد قد وافقه فيه بعضهم، كابن حمزة في الوسيلة (6)، و لكن نفاه الأكثر.

و كيف كان فالمستند في هذه المسألة ثلاث روايات روى الشيخ ثنتين منها و الصدوق ثالثتها. و ادعى بحر العلوم «قده» (7) القطع بكون المجموع رواية واحدة اختلفت باختلاف الرواة في نقلها:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أبي إسحاق


1- مفتاح الكرامة 3- 569، في الشرط الرابع من شروط القصر.
2- راجع المهذّب البارع 1- 486، و جامع المقاصد 2- 513 و غيرهما مما هو مذكور في مفتاح الكرامة 3- 570.
3- قال في الروض (ص 391): «. و إن كان الظاهر منهم (أي الأصحاب) عدم الاكتفاء بالتردد ثلاثين.»
4- راجع الدروس 1- 212، و الروض- 391، و الرياض 4- 429، و غيرها.
5- راجع مجمع الفائدة 3- 391، و المدارك 4- 452، و الحدائق 11- 398.
6- راجع الوسيلة- 108، و المهذّب للقاضي ابن البراج 1- 106.
7- راجع مفتاح الكرامة 3- 572.

ص: 181

إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سألته عن حدّ المكاري الذي يصوم و يتمّ؟ قال:

«أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقلّ من مقام عشرة أيّام وجب عليه الصيام و التمام أبدا. و إن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير و الإفطار» (1) 2- ما رواه بإسناده عن سعد، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: قال:

«المكاري إن لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيّام أو أقلّ قصّر في سفره بالنهار و أتمّ بالليل و عليه صوم شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام و أكثر قصّر في سفره و أفطر.» (2)

3- ما رواه الصدوق بإسناده عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال:

«المكاري إذا لم يستقر في منزله إلّا خمسة أيّام أو أقلّ قصّر في سفره بالنهار و أتمّ صلاة الليل و عليه صوم شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر و ينصرف إلى منزله و يكون له مقام عشرة أيّام أو أكثر قصّر في سفره و أفطر.» (3)

و في مشيخة الفقيه: «و ما كان فيه عن عبد اللّٰه بن سنان فقد رويته عن أبي- رضي اللّٰه عنه-، عن عبد اللّٰه بن جعفر الحميري، عن أيوب بن نوح، عن محمد بن أبي عمير، عن عبد اللّٰه بن سنان». (4)

و لا يخفى عدم سلامة الأوليين من حيث السند، لكون ابن مرّار مجهولا و إن


1- الوسائل 5- 517 (ط. أخرى 8- 488)، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 519 (ط. أخرى 8- 490) و الباب، الحديث 6، عن التهذيب 3- 216.
3- المصدر السابق 5- 519 (ط. أخرى 8- 489) و الباب، الحديث 5.
4- الفقيه 4- 431.

ص: 182

وثقه بحر العلوم و بعض آخر. (1) هذا مضافا إلى إرسال الأولى، و أمّا الثالثة فصحيحة من حيث السند و لكن في متنها نحو اضطراب. و اتحاد الأوليين من حيث السند و تقارب الأخيرتين متنا مما يوجبان الحدس بكون الجميع رواية واحدة اختلف متنها باختلاف الرواة في النقل، و كون البعض المبهم في سند الأولى عبارة عن عبد اللّٰه بن سنان، كما يؤيد ذلك أيضا كثرة رواية يونس عنه. هذا.

و لكن التأمل التام ينفي هذا الحدس، إذ الأخيرتان متضمنتان لقاطعية الخمسة، و الأولى تنفيها، و بين متنها و متن الأخيرتين تباين بيّن، فكيف يحكم باتحاد الثلاثة.

و صرف اتحاد الأوليين من حيث السند لا يقتضي كونهما رواية واحدة مع تفاوت المتن جدا، فافهم.

ثم لا يخفى أن يونس من الطبقة السادسة، و من متكلمي أصحابنا و ثقاتهم، و إن ضعّفه بعض. و منشأ ذلك مزاولته للعلوم العقلية. و عبد اللّٰه بن سنان من كبار الطبقة الخامسة، و من مشايخ يونس.

ثم إنّ قاطعية إقامة العشرة لحكم الكثرة مما لا إشكال فيها إجمالا. و يدلّ عليها الروايات و أفتى بها الأصحاب. و أما قاطعية الخمسة فيثبتها الأخيرتان و ينفيها الأولى، فيقع التعارض بينها في ذلك فيرجع إلى عمومات وجوب الإتمام على المكاري و نظائره.

ثم إنّ في المقام مناقشات: بعضها في الروايتين الأخيرتين، و بعضها في الثالثة فقط، و بعضها في الأولى فقط:

أمّا التي في الأخيرتين ففي قوله: «خمسة أيام أو أقل.» فإنّ انقطاع الكثرة بأقل من خمسة خلاف الإجماع. و وجّهه بحر العلوم «قده» (2) بأن المراد من الأقل ليس الأقل من خمسة بل من العشرة، فكأنّه قال: الخمسة أو ما فوقها مما هو أقل من العشرة. و يشهد لذلك مقابلتها بالعشرة و ما فوقها.


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 572، و تنقيح المقال 1- 144.
2- راجع مفتاح الكرامة 3- 572.

ص: 183

و أما التي في الثالثة ففي قوله: «و ينصرف إلى منزله.» فإنّ الظاهر منه دخالة الإقامتين معا في إيجاب القصر في السفر المتخلل بينهما، أو في السفر الذي بعدهما، و كلاهما مخالفان للإجماع. و يمكن أن يذبّ عنها بجعل الواو بمعنى أو، أو بالحمل على كونه في مقام بيان الوظيفة للمكاري الذي صار من عادته أن يقيم عقيب كل سفر تحقق منه ذهابا كان أو إيابا و أن وظيفته القصر أبدا حيث يقع كل سفر يصدر عنه بعد الإقامة، فتأمّل.

و أمّا التي في الأولى فقط فناشئة من قوله: «أبدا» مع ذكر لفظة «أو» في كلتا الفقرتين المتقابلتين.

بيان ذلك: أن ظاهر الفقرة الأولى المشتملة على قوله: «أبدا» هو أن المكاري إذا كان من شأنه و عادته المستمرة أن يقيم في كل سفر في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من عشرة وجب عليه الصيام و التمام أبدا أي في جميع أسفاره. و لازم ذلك أن يكون مقابله المكاري الذي يتحقق منه أبدا إقامة العشرة في كلا البلدين، إذ مقابل من يتحقق منه إقامة الأقل في أحد البلدين هو الذي لا يكون إقامته أقل لا في هذا و لا في ذاك. و على هذا فيجب أن يكون الفقرة الثانية مع الواو و لا يناسب فيها ذكر «أو». و إن قلت: إنّ الفقرة الثانية صحيحة مع «أو» فإن الإقامة دائما في أحد البلدين تكفي في ثبوت القصر أبدا، لزم منه أن يكون الفقرة الأولى مع الواو، إذ التمام إنّما يثبت للذي لا يتحقق منه إقامة العشرة لا في منزله و لا في مقصده.

و ملخص هذا الإشكال أن ذكر لفظة «أو» في كلتا الفقرتين مع كون الحديث بقرينة قوله: «أبدا» في مقام بيان تقسم المكاري إلى من يتمّ أبدا و من يقصّر كذلك غير مناسب، إذ مفهوم ما اشتمل على لفظة «أو» يجب أن يذكر بالواو، و بالعكس.

هذا.

و لكن الظاهر اندفاع هذا الإشكال، إذ يظهر من سؤال الراوي أنه كان مركوزا

ص: 184

في ذهنه اختلاف المكارين في الحكم باختلاف الإقامة، و كون بعض الإقامات مما يوجب انقطاع كثرة السفر موضوعا أو حكما، فسأل الإمام عليه السلام عن حدّ الإقامة التي توجب ذلك.

و بعبارة أخرى: لما كان المكاراة تستلزم عادة مقدارا من الإقامة في المنزل و في المقصد لتهيئة أسباب السفر، و كان المركوز في ذهن السائل أن هذا القبيل من الإقامة لا تضرّ بحكم الكثرة و أن بعضا منها مما يوجب زوال حكمها سأل الإمام عليه السلام عن التمييز بينهما، فأجابه الإمام عليه السلام بأن الإقامة إن كانت أقلّ من عشرة فلا تضر بحكم الإتمام و الكثرة أبدا، سواء كانت في المنزل أو في بلد آخر، و إن كانت أكثر من عشرة أضرّت به كذلك. فالحديث بصدد تعيين الإقامة التي توجب زوال الحكم الكثرة و تمييزها مما لا توجب ذلك، و ليس في مقام تقسيم المكاري إلى من يتم دائما و من يقصر كذلك حتى يستشكل بأن ذكر لفظة «أو» في كلتا الفقرتين غير مناسب.

و ربما يناقش في هذه الرواية أيضا بأن الظاهر منها كون إقامة العشرة في البلد الذي يدخله موجبة للقصر في السفر المتقدم عليها بنحو الشرط المتأخر، و هو خلاف الإجماع.

و لكن الظاهر اندفاعها أيضا، إذ المتأمل في الأخبار الثلاثة يظهر له كونها بصدد بيان وظيفة المكاري بالنسبة إلى الإسفار المتحققة منه بعد الإقامة، فافهم.

هل الإقامة في المقصد قاطعة للكثرة؟

و كيف كان فكون إقامة العشرة إجمالا قاطعة لحكم الكثرة مما لا إشكال فيه و يدلّ عليه الروايات و أفتى به الأصحاب، فيجب الإفتاء به.

نعم، يبقى الإشكال في أنه هل يقتصر في ذلك على الإقامة في المنزل أو يحكم بما تضمنته الروايات من عدم الفرق بين كونها في المنزل أو في البلد الذي يذهب اليه؟

ص: 185

و وجه الاقتصار أن المذكور في كلمات الأصحاب إلى زمان المحقق هو قاطعية الإقامة في المنزل فقط و لم يتعرضوا لقاطعية غيرها، فلعلّهم أعرضوا عن هذه القسمة من مفاد الروايات، فيقتصر في تخصيص أدلة الإتمام للمكاري على المتيقن.

و وجه التعميم منع ثبوت الإعراض، إذ صرف عدم التعرض لا يدلّ عليه. و يؤيد ذلك اعتماد مثل المحقق و العلامة على الروايات حتى بالنسبة إلى هذه القسمة من مفادها. و لعل وجه عدم تعرض الأصحاب لذلك استبعادهم لهذا الحكم، إذ الإقامة في الوطن لما كانت مقابلة للسفر حقيقة أمكن أن يقال بقاطعيتها لكون السفر عملا، و أمّا الإقامة في بلد آخر فلا يخرج بها الشخص عرفا من كونه مسافرا و لو كانت مع القصد، خصوصا إذا كانت لتهيئة أسباب السفر الذي يكون عملا له، فهو مع كونه مقيما يكون عرفا في سفر هو شغله و يكون بصدد تهيئة أسباب إدامة السفر، فلا وجه للحكم بقصره حيث لم يخرج عن كونه مسافرا و متلبسا بالسفر الذي هو شغل له، فتدبّر.

هل يعتبر في الإقامة القصد

ثم على فرض التعميم فهل يعتبر القصد و النية في كلتا الإقامتين، أو لا يعتبر أصلا، أو يفصّل بين الإقامة في المنزل و بين الإقامة في بلد آخر فيعتبر القصد في الثانية دون الأولى؟ وجوه. أوجهها الأخير كما سيظهر. و أبعدها الأول، إذ المسافر بوصوله إلى الوطن يخرج عن كونه مسافرا و يصير حاضرا حقيقة، من غير دخالة لقصد الإقامة في ذلك، فيجب الحكم بعدم دخالة النية في المقام و خروجه عن مصداق كثير السفر و إن كانت إقامته بلا قصد، و هذا بخلاف الإقامة في غير الوطن، فإنّ المسافر لا يخرج بها عرفا عن كونه مسافرا و إن كانت مع النية، غاية الأمر أن الشارع حكم بكونه في حكم الحاضر إذا كانت منوية. و الظاهر أن صيرورته بحكم

ص: 186

الحاضر تعبدا أوجبت حكمه بزوال حكم الكثرة عنه، فيعتبر في قاطعيتها حكما أن تكون مع النية. و بالجملة بمناسبة الحكم و الموضوع يعلم أن مناط الحكم بالقاطعية في غير البلد هو صيرورة المسافر بسبب الإقامة بحكم الحاضر تعبدا، و من الواضح أنه يعتبر في ذلك النية و القصد كما سيظهر في محله. و إذا صار الحضور التعبدي موجبا لزوال حكم الكثرة إذا كان بمقدار عشرة أيام فالحضور الحقيقي إذا كان بهذا المقدار قاطع لحكمها بطريق أولى، و من المعلوم أن تحقق الحضور في الوطن لا يتوقف على النية بل يتحقق حقيقة و لو لم توجد النية.

و أمّا الوجه الثاني فيبعّده أن مقتضاه ثبوت القصر في سفر واحد بعد ثبوت التمام في نفس هذا السفر، إذ المقيم في غير الوطن مترددا لا يخرج عن كونه مسافرا لا عرفا و لا شرعا ما لم يبلغ الثلاثين. و لازم الوجه الثاني أن المكاري الذي أقام في غير بلده مترددا ما لم يبلغ العشرة يتم لكونه كثير السفر، و إذا بلغ العشرة يشرع في القصر و ان لم يخرج بعد من البلد، و هذا مستبعد جدا، فتأمّل.

و بما ذكرنا يظهر كون الوجه الثالث أوجه الوجوه، إذ لا يرد عليه ما ورد على الأولين. نعم، يرد عليه أن كلتا الإقامتين ذكرتا في الحديث بمساق واحد، فإمّا أن يعتبر في كلتيهما القصد و إمّا أن لا يعتبر في واحدة منهما، و أما التفصيل فهو خلاف سياق الحديث. اللهم إلّا أن يقال: إنّ الحديث دل على كون الإقامة قاطعة للكثرة في الجملة، من دون أن يكون فيه اسم من القصد، و التفصيل أمر استفدناه، بمناسبة الحكم و الموضوع، و لا نسلّم كون سياق الحديث آبيا عنه، فتدبر جيدا.

هل تختص قاطعية الإقامة بالمكاري أو تعمّ؟

المسألة الرابعة: هل قاطعية الإقامة لكثرة السفر تختص بالمكاري كما قيل اقتصارا على مورد النصّ، أو تجري في جميع من كان السفر عملا له كما نسب إلى

ص: 187

المشهور؟ الظاهر هو الثاني. إذ المترائى من الحديث ثبوت هذا الحكم للمكاري بما أنه كثير السفر و أن السفر عمل له و يكون بذلك مغايرا لسائر المسافرين في الحكم، فيجب إلقاء خصوصية المكاراة. و بالجملة بعد التأمل يحصل القطع بعدم دخالة خصوصية المكاراة في هذا الحكم، و لأجل ذلك ذهب الأكثر إلى التعميم.

هل يعتبر في الإقامة التوالي أم لا؟

المسألة الخامسة: من الغريب في هذا المقام ما ذكره الشهيدان و تبعهما بعض من تأخر عنهما من عدم اعتبار التوالي في الإقامة القاطعة للكثرة، و كفاية العشرة ملفقة بشرط أن لا يتخللها مسافة شرعية، فلا يضر بإقامة العشرة الخروج إلى ما دون المسافة في أثنائها.

قال في الدروس: «لو تردد في قرى دون المسافة فكل مكان يسمع أذان بلده فيه فبحكمه و ما لا فلا. نعم، لو كمل له عشرة متفرقة في بلد قصّر.» (1)

و معنى كلامه «قده» أن إقامته في البلاد المتقاربة التي يسمع فيها أذان بلده أيضا تحسب من جملة العشرة، و أما إقامته في البلاد التي لا يسمع فيها أذان بلده فلا تحسب منها و لكن لا تضر بإقامة العشرة أيضا بل يتصل ما قبلها بما بعدها إذا كان المجموع عشرة.

أقول: هذا الحكم من الغرائب، إذ الخارج إلى ما دون المسافة و إن لم يكن مسافرا شرعا لكنه لا يصدق عليه المقيم قطعا. نعم، لو كان الملاك هو التعطل عن السفر الشرعي لكان ما ذكروه وجيها، و لكنه لا دليل على قاطعية ذلك، بل غاية ما يدلّ الروايات على خروجه عن حكم كثير السفر مع كونه داخلا فيه موضوعا هو المقيم عشرا في منزله أو في البلد الذي يدخله، و لا شك أن المأخوذ في مفهوم الإقامة هو


1- الدروس 1- 212، و راجع الروضة 1- 373، و مجمع الفائدة 3- 397، و غيرهما مما هو مذكور في مفتاح الكرامة 3- 573.

ص: 188

التعطل عن السير و الدوران مطلقا و أن المتبادر من إقامة العشرة كونها بنحو الاتصال، فتدبّر جيدا.

هل يثبت حكم الكثرة في السفر الثاني أو الثالث؟

المسألة السادسة: إذا وجب القصر على كثير السفر فهل يعود حكم التمام في السفر الثاني، أو الثالث؟ قولان:

اختار الأول جمع، منهم المحقق «قده»، على ما حكاه عنه تلميذه صاحب كشف الرموز. (1)

و اختار الثاني جمع، منهم الشهيدان «قدهما». (2) و حكي عن أولهما أنه استدل لذلك في الذكرى بأن الاسم قد زال عنه بالإقامة و صار كالمبتدإ فيحتاج في عوده إلى تكرر السفر ثلاثا.

أقول: من الواضح فساد هذا الاستدلال، لعدم كون إقامة العشرة موجبة لخروج المكاري مثلا عن كونه مكاريا أو كون السفر عملا له عرفا. و حكم الشارع بالقصر في السفر الأوّل ليس لخروجه موضوعا، بل هو حكم تعبدي، فيقتصر في تخصيص عمومات أدلة الإتمام على القدر المتيقن.

و ربما يستدل للشهيد أيضا باستصحاب حكم المخصص، كما ربما يستدل لخلافه بعموم العام. و هذا هو الأقوى، و يدل عليه أيضا الخبر السابق الذي رواه يونس عن بعض رجاله، إذ كما يدل فقرته الثانية على وجوب القصر في السفر الواقع بعد إقامة العشرة يدل فقرته الأولى على وجوب الإتمام في السفر الواقع بعد إقامة الأقل، و السفر الثاني في المقام واقع بعد إقامة الأقل فيدخل في عموم الفقرة


1- راجع كشف الرموز 1- 224، و السرائر 1- 339، و المدارك 4- 453، و الرياض 4- 430.
2- راجع الذكرى- 260، و الروض- 389، و غيرهما المذكور في مفتاح الكرامة 3- 575.

ص: 189

الأولى. (1) و إن شئت قلت: إنّ حكم الإمام عليه السلام بالقصر بعد إقامة العشرة إمّا أن يكون بالنسبة إلى السفر الأوّل فقط، و إما أن يكون بالنسبة إلى جميع الأسفار إلى آخر العمر، و إما أن يكون بالنسبة إلى سفرين أو أكثر. لا سبيل إلى الثالث، لعدم بيانه في الحديث مع كونه في مقام البيان، و الثاني باطل إجماعا و قطعا فتعين الأوّل لأنه المتيقن.

ثم إنّ دلالة الحديث على وجوب القصر في السفر الأوّل بعد الإقامة، مع أن الاسم لم يزل بعد كما عرفت، حجة قاطعة على وجوب القصر في السفر الأوّل فيمن شرع في المكاراة ابتداء بطريق أولى و إن فرض صدق الاسم عليه أيضا في السفر الأوّل.

فإن قلت: هذا في السفر القصير و المتعارف مسلم و أما إذا كان سفره طويلا فوق العادة بحيث شغل السنة مثلا فالظاهر وجوب الإتمام عليه في السفر الأول أيضا مع صدق الاسم.

قلت: الحديث يدلّ في الجملة على أنّ صرف الشروع في السفر بقصد المكاراة لا يوجب الإتمام. فمن قصد سفرا طويلا ابتداء أو بعد إقامة العشرة ففي أول شروعه فيه لا يجوز عليه الإتمام قطعا، و حينئذ فإمّا أن يقال بثبوت القصر إلى آخره، أو يقال بثبوت الإتمام في أثنائه. لا سبيل إلى الثاني، لعدم تعين الموضع الذي يحكم فيه بالشروع في الإتمام، فيتعين الأوّل. فيكون الاعتبار بوحدة السفر و تعدده، فيثبت القصر في السفر الأوّل مطلقا. قصيرا كان أو طويلا، ابتداء كان أو بعد الإقامة و يثبت الإتمام في الأسفار الواقعة بعده. (2)


1- الظاهر أن الحديث في مقام بيان أن أيّ إقامة تضر بحكم الكثرة و رافعة لحكمها، و أيّ إقامة لا تضر، و أما أنها بعد تحققها فإلى أيّ زمان يبقى أثرها فليس الحديث بصدد بيانه، و ليس في مقام بيان أن كل سفر تعقب إقامة العشرة يقصر فيه، و كل سفر تعقب إقامة الأقل لا يقصر فيه، و إلّا لوجب على من أقام في الوطن عشرة ثم سافر و أقام في المقصد أقل من العشرة أن يقصر في الذهاب و يتمّ في الإياب، مع وضوح بطلانه كما لا يخفى. ح ع- م.
2- مقتضى ما ذكره (مدّ ظلّه العالي) وجوب القصر دائما فيما إذا كان هنا مكار أو ملّاح يسافر في كلّ سنة سفرا طويلا جدا بحيث يشغل أحد عشر شهرا منها و يقيم شهرا في بلده أو بلد آخر و استمر ذلك مدة عمره، و الالتزام بذلك مشكل. ح ع- م.

ص: 190

الرابع: أن لا يقطع السفر بإحدى القواطع

اشارة

و من شروط القصر أن لا يقطع السفر بإحدى القواطع الثلاث، أعني المرور بالوطن، و قصد إقامة العشرة، و إقامة ثلاثين مترددا.

و لا إشكال في قاطعية هذه الثلاثة. و أما المرور بالموضع الذي له فيه ملك ففي قاطعية خلاف و سيأتي بيانه.

و هذا الشرط يذكر في مقامين: الأوّل: في تحديد السفر الموجب للقصر، حيث إنه يشترط في ثبوت القصر أن يكون من أوّل الأمر قاصدا للمسافة التي لا يقطعها إحدى القواطع. فلو عزم على مسافة ناويا للمرور على الوطن أو الإقامة في أثنائها قبل بلوغ الثمانية لم يثبت القصر أصلا. الثاني: في بيان ما يقطع السفر و يزيل حكمه بعد تحققه و إيجابه للقصر. و نحن نجعل المقامين مقاما واحدا، طلبا للاختصار، و نذكر حكم القواطع الثلاث في فصلين:

الفصل الأوّل في بيان قاطعية الوطن، و تحديده
اشارة

لا إشكال في كون المرور بالوطن و لو آنا ما قاطعاً للسفر حقيقة، و كون تخلله في أثناء الثمانية مع العزم موجبا لعدم ثبوت القصر من أوّل الأمر. فإنّه مع تخلله يصير السفر سفرين حقيقة، و لكل منهما حكمه، و المفروض قصور كل منهما عن مقدار المسافة المعتبرة.

بيان ذلك: أن قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلٰاةِ الآية، لا يراد منه كون مطلق الضرب و السير في الأرض موجبا للقصر، بل ما ينطبق عليه عنوان السفر في مقابل الحضر، و قد أخذ في مفهوم السفر

ص: 191

التغرب عن الوطن و البعد عنه. فمن مرّ بوطنه و لو آنا ما فقد خرج عن موضوع المسافر حقيقة و صار مصداقا للحاضر، و لا يشمله في هذا الحال أدلة التقصير قطعا. و حينئذ فإذا خرج عن وطنه ثانيا يكون خروجه هذا إنشاء لسفر جديد، لانقطاع السفر السابق حقيقة بالحضور في الوطن، و لو فرض إطلاق المسافر عليه في هذا الحال فإنّما هو بنحو من العناية و إذا انقطع السفر اللاحق عن السابق حقيقة و صارا فردين مستقلين للسفر كان لكل منهما حكمه، و المفروض قصور كل منهما عن مقدار المسافة، فلا يثبت القصر أصلا.

فهذا إجمالا مما لا شك فيه. و إنّما المهم بيان حقيقة الوطن و ما هو المراد منه، مع قطع النظر عما نسب إلى المشهور من إثبات الوطن الشرعي بإقامة ستة أشهر، فإنه أمر آخر و سيأتي بيانه. و المقصود فعلا بيان ما قد يسمونه بالوطن العرفي.

فنقول: الظاهر أن انتزاع مفهوم الوطنية عن مكان ليس بلحاظ الاعتبارات و الحالات السابقة من كون المكان محلا لولادة الشخص، أو مسكنا لآبائه و أجداده، أو مقرّا لأبويه حين ولادته و نحو ذلك، و لا بلحاظ الاعتبارات و الحالات اللاحقة، ككونه عازما على الإقامة فيه إلى حين موته أو إلى أمد بعيد. و بالجملة ليس انتزاع مفهوم الوطنية عن مكان بلحاظ الحالات و الإضافات السابقة أو اللاحقة، بل هي مفهوم تحكي عن علقة و إضافة فعلية بين الشخص و المكان المخصوص بحسب الوضع الفعلي لهذا الشخص، حيث إنّ كل شخص يختار بحسب طبعه و ميلة بلدا من البلاد لإقامة و إقامة أهله و أولاده، و يوجد بينه و بين هذا البلد علقة خاصة، بحيث لو خلّي و طبعة يكون باقيا في هذا المكان و يكون خروجه منه أمرا طارئا ناشئا من المزعجات و القواسر الطارئة و يرجع إليه بحسب طبعه بعد ما ارتفع القواسر. فهذا البلد يسمى عرفا بالوطن.

و بعبارة أخرى: الوطن عبارة عما هو المقرّ الفعلي للشخص بحسب وضعه

ص: 192

الفعلي، بحيث لو لا طروء المزعجات و القواسر، أعني الحوائج الداعية إلى السفر، لكان مستقرا فيه غير خارج منه، و آية ذلك رجوعه إليه بحسب طبعه و عادته بعد ما أخذ حظّه من سفره و ارتفع حاجته فيه. و هذا من غير فرق بين أن يكون اختياره لهذا البلد من جهة كونه محلا لإقامة آبائه و أقاربه، أو لكونه بلدا مناسبا لشغله و حرفته، أو لكون مائه و هوائه ملائمين لمزاجه، أو لكون سيرة أهله و أخلاقهم مناسبة لروحه، أو لكونه محلا لما هو طالبه من كسب العلوم و الآداب، أو لغير ذلك من الجهات. و سواء كان له في هذا البلد ملك أو منزل مملوك أو غير مملوك، أو لم يكن، بل كان من سكّان المدارس أو المساجد و المعابر. و سواء كان من قصده البقاء في هذا البلد إلى أن يموت فيه، أو لم يقصد ذلك، بل لم يلتفت إليه أصلا. بل يمكن أن يقال بعدم إضرار التوقيت أيضا في صدق الوطن إذا كان قاصدا للإقامة فيه مدة مديدة إقامة سائر الناس في منازلهم من جهة اقتضاء وضعه الفعلي لذلك. فالطلاب المجتمعون في مجامع الحوزات العلمية المقيمون فيها عشرين سنة أو أزيد ربما يعدّون متوطنين في تلك المجامع العلمية و إن لم يكن من قصدهم البقاء فيها دائما. و التاجر الذي ارتحل عن مسقط رأسه إلى بلد آخر و صار فيه مشتغلا بشغله و تجارته و اتخذ فيه دار الإقامته و إقامة أهله ربما يعدّ هذا البلد وطنا له و إن كان من قصده أن يرجع في آخر عمره إلى مسقط رأسه. و هكذا.

و بالجملة لا يلاحظ في انتزاع عنوان الوطن الاعتبارات و الإضافات السابقة أو اللاحقة، بل الإضافة الفعلية بين الشخص و مقرّه. فما هو المقرّ الفعلي للشخص بحيث يبقى فيه لو خلّي و طبعه يسمى وطنا له.

و يدلّ على ذلك كلمات أهل اللغة أيضا في تفسير الوطن و الموطن و اشتقاقاتهما:

قال في الصحاح: «الوطن محلّ الإنسان. و قد خففه رؤبة بقوله

ص: 193

أوطنت وطنا لم يكن من وطني لو لم تكن عاملها لم أسكن

بها و لم أدجن بها في الدجن

و أوطان الغنم: مرابضها و أوطنت الأرض، و وطّنتها توطينا، و استوطنتها أي اتخذتها وطنا. و كذلك الاتّطان، و هو افتعال منه.» (1)

و في القاموس: «الوطن، محرّكة و يسكّن: منزل الإقامة، كالموطن، و مربط البقر و الغنم. جمعه: أوطان. و وطن به يطن، و أوطن: أقام. و أوطنه و وطّنه و استوطنه:

اتخذه وطنا. و مواطن مكة: مواقفها». (2)

و في المنجد: «وطن يطن وطنا، و أوطن إيطانا بالمكان: أقام به. وطّن، و أوطن، و توطّن، و اتّطن، و استوطن البلد: اتخذه وطنا. (إلى أن قال:) الوطن: منزل إقامة الإنسان، ولد فيه أو لم يولد. مربط المواشي. جمعه: أوطان. الموطن: الوطن.» (3)

ثم لو أبيت عن تسمية بعض ما ذكرناه باسم الوطن فلا يضرّنا فيما نحن بصدده، إذ ليس حكم الإتمام دائرا مدار صدق عنوان الوطن، بل يدور مدار صدق الحضور و الخروج عن صدق عنوان المسافر الذي يعتبر في مفهومه التغرّب عن المقرّ الفعلي و محل الإقامة. و الآية الشريفة و الأخبار المأثورة إنّما تكون بصدد بيان وجوب القصر على من خرج عن مقرّه الفعلي و بعد عن محل إقامته و صار بذلك ملازما لمشقة زائدة موجبة للترخيص. فالمرور بالمقرّ الطبيعي الفعلي مما يوجب زوال عنوان المسافر و لو سلّم عدم صدق عنوان الوطن على كلّ مستقر و مقام. و قد عرفت سابقا أن البدوي الذي يكون بيته معه، و كذا الملّاح الذي يكون في بيت يتردد فيه حيث يشاء إنّما يتمّان


1- الصحاح 6- 2241. و فيه: «و لم أرجن بها في الرجن». و معناهما واحد.
2- القاموس المحيط 4- 276.
3- المنجد- 906.

ص: 194

لعدم صدق عنوان المسافر عليهما، كما هو المستفاد من التعطيلات الواردة في الروايات بالنسبة إليهما، و لا يدور حكم الإتمام فيهما على صدق عنوان الوطن على بيتهما السيّار. فالملاك كل الملاك في ثبوت القصر هو التغرّب عن البيت و المقرّ الطبيعي الفعلي سواء كان ثابتا أو سيّارا، و في ثبوت الإتمام الرجوع إليه بحيث يصدق عليه أنه حضر في منزله و بيته.

و كيف كان فالمرور بالمقرّ الفعلي مما يوجب زوال عنوان السفر و ارتفاع حكمه، سواء صدق عليه عنوان الوطن أم لا و سواء كان له فيه ملك أو منزل أم لا، و لا نحتاج في ذلك إلى دلالة آية أو رواية كما هو واضح لا يخفى.

طوائف أخبار المرور بالملك
اشارة

نعم، ها هنا أخبار ربما يوهم بعضها خلاف ما ذكرناه، و قد اختلف مضامينها، و باعتبار ذلك تنقسم إلى أربع طوائف:

الأولى: ما تدلّ على أن مرور المسافر بملكه الثابت من الضيعة أو الدار قاطع لسفره و إن لم يكن الموضع وطنا له. بل في بعضها كفاية النخلة الواحدة أيضا في ذلك.

الثانية: ما تدلّ على عدم كون المرور بمثل الصيغة قاطعاً مطلقا من غير تفصيل بين المستوطن و غيره.

الثالثة: ما تدلّ على أن المرور بالمنزل أو الدار أو الضيعة قاطع للسفر إذا كان يستوطنه لا مطلقا.

الرابعة: ما تدلّ على ذلك مع تفسير الاستيطان أيضا.

و مجموع أخبار المسألة تسعة: أربعة منها من الطائفة الأولى، و ثنتان من الثانية، و اثنتان من الثالثة، و واحدة من الرابعة:

أما الطائفة الأولى:

1- ما رواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن الفضل

ص: 195

الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يسافر من أرض إلى أرض، و إنّما ينزل قراه و ضيعته؟ قال: «إذا نزلت قراك و أرضك فأتمّ الصلاة، و إذا كنت في غير أرضك فقصّر.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن إسماعيل بن الفضل. (1)

2- ما رواه الكليني عن محمد بن الحسن و غيره، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سألت الرضا عليه السلام عن الرجل يخرج إلى ضيعته، فيقيم اليوم و اليومين و الثلاثة، أ يقصّر أم يتمّ؟ قال: «يتمّ الصلاة كلّما أتى ضيعة من ضياعه.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمد بن يعقوب. و في قرب الإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر نحوه. (2)

3- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى، عن عمران بن محمد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك، إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلا: خمسة فراسخ، فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام، فأتمّ الصلاة أم أقصّر؟ فقال: «قصّر في الطريق، و أتمّ في الصيغة.» (3)

4- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضّال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: في الرجل يخرج في سفر فيمر بقرية له أو دار فينزل فيها؟ قال: «يتمّ الصلاة و لو لم يكن له إلّا نخلة واحدة و لا يقصّر، و ليصم إذا حضره الصوم و هو فيها.» (4)

فهذه الأخبار الأربعة تدلّ على كون المرور بالملك مطلقا قاطعاً للسفر، سواء


1- الوسائل 5- 520 (ط. أخرى 8- 492)، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
2- المصدر السابق 5- 523 (ط. أخرى 8- 497) و الباب، الحديثان 17 و 18.
3- المصدر السابق 5- 523 (ط. أخرى 8- 496) و الباب، الحديث 14.
4- المصدر السابق 5- 521 (ط. أخرى 8- 493) و الباب، الحديث 5.

ص: 196

كان الموضع وطنا له أم لا، كما يؤيّد ذلك ترك الاستفصال فيها.

و أما الطائفة الثانية

المخالفة لظاهر الطائفة الأولى بنحو التباين فثنتان كما عرفت:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار [يسار- خ ل] عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: «من أتى ضيعته ثم لم يرد المقام عشرة أيام قصّر، و إن أراد المقام عشرة أيام أتمّ الصلاة.» (1)

2- ما رواه أيضا عن سعد، عن إبراهيم، عن البرقي، عن سليمان بن جعفر الجعفري، عن موسى بن حمزة بن بزيع، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك، إنّ لي ضيعة دون بغداد فأخرج من الكوفة أريد بغداد، فأقيم في تلك الضيعة، فأقصّر أم أتمّ؟ فقال: «إن لم تنو المقام عشرة أيام فقصّر.» و رواه البرقي أيضا في المحاسن. (2)

و المستفاد من الروايتين أن المرور بالضيعة لا يغيّر حكم السفر، و إنما يزول الحكمة بنية إقامة العشرة التي هي من القواطع القطعية. و مقتضى ترك الاستفصال فيهما أيضا عموم الحكم لمن استوطنها أو لم يستوطنها.

و أمّا الطائفة الثالثة

المفصلة بين صورة الاستيطان و غيرها من دون تعرض لتفسير الاستيطان فروايتان أيضا كما لو عرفت:

1- ما رواه علي بن يقطين، عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام. و قد جعلها في الوسائل خمس روايات باختلاف الرواة عن علي بن يقطين، و باختلافها في اللفظ، و باشتمال بعضها على السؤال و الجواب و اشتمال غيره على بيان الحكم فقط، و لكن الجميع ترجع إلى رواية واحدة، لاشتراكها في المضمون و وحدة الراوي عن الإمام عليه السلام. نعم، في واحدة منها أنّ سعد بن أبي خلف قال: سأل علي بن يقطين


1- المصدر السابق 5- 525 (ط. أخرى 8- 499)، الباب 15 منها، الحديث 6.
2- المصدر السابق 5- 526 (ط. أخرى 8- 499) و الباب، الحديث 7.

ص: 197

أبا الحسن الأوّل عليه السلام. و لعل المستفاد منه كون سعد بنفسه حاضرا في مجلس الإمام عليه السلام، فيتعدد الراوي عنه عليه السلام، و لكن لا يبعد أن يكون هذا التعبير من سعد لا لحضوره في المجلس بل لشدة اعتماده على نقل ابن يقطين.

و كيف كان فلنذكر الخمسة التي ذكرها في الوسائل:

1- ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام أنه قال: «كلّ منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير.» (1)

ب- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أيّوب بن نوح، عن أبي طالب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: إنّ لي ضياعا و منازل، بين القرية و القريتين الفرسخ و الفرسخان و الثلاثة؟ فقال: «كلّ منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير.» (2)

ج- ما رواه أيضا عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: الرجل يتخذ المنزل فيمر به أ يتمّ أم يقصّر؟ قال: «كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل و ليس لك أن تتم فيه.» (3)

د- ما رواه عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن علي، قال: سألت أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن رجل يمر ببعض الأمصار و له بالمصر دار و ليس المصر وطنه، أ يتمّ صلاته أم يقصّر؟ قال: «يقصر الصلاة، و الضياع مثل ذلك إذا مر بها.» (4)

ه- ما رواه عنه، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن سعد بن أبي


1- المصدر السابق 5- 520 (ط. أخرى 8- 492)، الباب 14 منها، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 522 (ط. أخرى 8- 494) و الباب، الحديث 10.
3- المصدر السابق 5- 521 (ط. أخرى 8- 493) و الباب، الحديث 6.
4- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 7.

ص: 198

خلف، قال: سأل على بن يقطين أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة، فيمر بها؟ قال: «إن كان مما قد سكنه أتمّ فيه الصلاة و إن كان مما لم يسكنه فليقصّر.» (1)

2- ما رواه الشيخ أيضا عنه، عن أيّوب بن نوح، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام: في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق، يتمّ الصلاة أم يقصّر؟ قال: «يقصّر. إنّما هو المنزل الذي توطنه.» (2)

و مراده عليه السلام أنّ ما قرع سمعك من كون المرور بالمنزل قاطعاً للسفر إنّما هو المنزل الذي توطنه. و لفظة «توطنه» ماض من التفعل، أو مضارع من الإفعال أو التفعيل، أو التفعل بحذف إحدى التائين كما لا يخفى.

فهذه الطائفة الثالثة تدلّ على أنّ المرور بالمنزل أو الضيعة ليس بنفسه تمام الموضوع في إيجاب الإتمام كما هو مقتضى الطائفة الأولى، و ليس أيضا بلا أثر بحيث لا يغيّر حكم السفر أصلا كما هو مقتضى الطائفة الثانية، بل هو قاطع للسفر و موجب للإتمام بشرط أن يكون المنزل أو الضيعة وطنا له.

فلو لم تكن الطائفة الثالثة في البين كان التعارض بين الأوليين باقيا، و لكن بعد ورودها تصير شاهدة للجمع بينهما، فتحملان على الثالثة حمل المطلق على المقيد و يرتفع التهافت من البين. فهذا مقتضى الجمع بين الطوائف الثلاث.

فإن قلت: لا نسلم تهافت الأوليين، إذا الأولى أعم مطلقا من الثانية، حيث فصل في الثانية بين قاصد الإقامة و غيره، فتحمل الأولى على الثانية و يجمع بينهما.

قلت: كون قصد الإقامة من القواطع كان أمرا واضحا مفروغا عنه، فلا يمكن حمل الطائفة الأولى على صورة قصد الإقامة. هذا مضافا إلى صراحة بعضها في


1- المصدر السابق 5- 522 (ط. أخرى 8- 494) و الباب، الحديث 9.
2- المصدر السابق 5- 522 (ط. أخرى 8- 493) و الباب، الحديث 8، عن التهذيب 3- 212.

ص: 199

كون الإقامة في الضيعة أقلّ من عشرة.

و كيف كان فظاهر الطائفة الأولى كون المرور بالضيعة مثلا بما هو هو من القواطع، و ظاهر الطائفة الثانية نقيض ذلك، فهما متهافتتان بنحو التباين، و لكن الطائفة الثالثة بمنزلة المفسّر لهما، حيث فصل فيها بين الصورة الاستيطان و غيرها، و المتبادر من الاستيطان فيها مفهومه العرفي و قد مرّ توضيحه.

و لكن هنا رواية أخرى مفصلة بين صورة الاستيطان و غيرها، مع التعرض لتفسير الاستيطان أيضا، و صار هذا سببا لقول المشهور بالوطن الشرعي في مقابل الوطن العرفي، و فسّروا الوطن الشرعي بالموضع الذي له فيه ملك و قد بقي فيه ستة أشهر و لو متفرقة، و ربما لا يساعد الرواية لما تسالموا عليه.

و قد جعلنا الرواية طائفة رابعة

في هذا الباب، فلنذكرها ثم نشرح مفادها:

فنقول: روى الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ فقال: «لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام، إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه.» فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: «أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى دخلها.» و قال: و أخبرني محمد بن إسماعيل أنه صلّى في ضيعته فقصّر في صلاته. قال أحمد: و أخبرني علي بن إسحاق بن سعد و أحمد بن محمد جميعا أن ضيعته التي قصّر فيها: الحمراء. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع إلى قوله: «متى دخلها.» (1)

هذه جميع روايات المسألة، و قد ظهر لك أنها تسعة. و أمّا الروايات الأخر التي ذكرها في الوسائل في هذا الباب فلا دلالة لها على حكم المسألة، إذ محط النظر في بعضها سؤالا و جوابا إنّما هو بيان مقدار المسافة الموجبة للقصر من غير نظر إلى بيان


1- المصدر السابق 5- 522 (ط. أخرى 8- 494) و الباب، الحديث 11.

ص: 200

حكم المرور بالضيعة، و لبعضها محامل أخر، كما لا يخفى على المتأمل. و اللازم في كلّ مسألة تشخيص المواد العاملة، أعني الإخبار المرتبطة بها و تمييزها من غيرها حتى لا يختلط الأمر و لا يشتبه على الطالب، و قد عرفت أن ما يرتبط بمسألتنا هذه تسعة، و قد قسمناها إلى أربع طوائف، و أشرنا إلى وجه الجمع بينها، و بقي الإشكال في الأمر الزائد الذي يشتمل عليه الأخيرة، أعني تفسير الاستيطان، فانتظر لبيانه.

إشكالان و تفصيان

الأوّل: قد يتوهم أنّ بين الطائفة الثانية و الثالثة عموما من وجه، لدلالة الثانية على وجوب القصر على من لم يرد المقام عشرة أيام في ضيعته و وجوب الإتمام على من أراده، تحقق الاستيطان أم لم يتحقق، و دلالة الثالثة على وجوب القصر على من لم يستوطن فيها، و وجوب الإتمام على من استوطن أقام فيها أم لم يقم. فإذا قيّدنا كلا من الطائفتين بالأخرى كان مقتضاه وجوب الإتمام على المستوطن المقيم و القصر على من فقد الوصفين، و بقي حكم المقيم فقط و المستوطن فقط غير مبين. و لازم ذلك كون المارّ بضيعته أسوء حالا من غيره، لكفاية الإقامة فقط في إيجاب الإتمام بالنسبة إلى غيره بلا إشكال. ثم إن الالتزام بإطلاق الطائفة الثالثة و طرح الثانية أشكل، لاستلزامه عدم كون الإقامة ذات حكم أصلا، فيبقى الالتزام بإطلاق الطائفة الثانية و طرح الثالثة رأسا، فيكون الحكم دائرا مدار الإقامة و عدمها، و لا أثر للاستيطان أصلا.

أقول: هذا إشكال غريب واضح الفساد، بداهة أنّ أخبار الإقامة ليست بصدد بيان حكمين: إيجاب إقامة العشرة للإتمام و إيجاب إقامة الأقلّ للقصر، بل تتضمن حكما واحدا و هو ثبوت الإتمام لمن أقام العشرة، و أمّا القصر فهو مما يقتضيه نفس طبيعة السفر لا إقامة الأقلّ. و كذلك الأخبار الواردة في المرور بالمنزل ليست إلّا بصدد

ص: 201

بيان أنّ المرور به موجب للإتمام أم لا، بعد فرض كون أصل السفر موجبا للقصر.

فمحطّ النظر في أخبار إقامة العشرة و المرور بالضيعة و المنزل بيان قواطع السفر بعد كون إيجابه للقصر مفروغا عنه لكلّ من السائل و المسؤول، و كان قاطعية الإقامة من المسلّمات و الواضحات لأصحاب الأئمة عليهم السلام، لكثرة ما صدر عنهم فيها. فليس أخبار الطائفة الثانية بصدد بيان هذا الحكم، بل الذي هو محط النظر في أخبار المرور بالضيعة و المنزل بطوائفها بيان أنّ المرور بهما أيضا من القواطع، أو أنّ المارّ بهما كغيره، حيث إنّ المسألة كانت معنونة بين فقهاء العامّة، و كان يفتي بعضهم بقاطعيته أيضا، فتصدى أصحاب الأئمة عليهم السلام للسؤال عنها. فالطائفة الأولى تدلّ على كونه أيضا من القواطع، و الثانية تدلّ على أنّ المرور بهما لا حكم له أصلا و أنّ المارّ بهما كغيره في عدم انقطاع سفره إلّا بنية إقامة العشرة، و الثالثة تدلّ على كون المرور بهما قاطعاً بشرط الاستيطان، و هي شاهدة للجمع بين الأوليين، فصار المتحصل من الجميع أن المرور بالملك المستوطن فيه أيضا من القواطع مثل نية الإقامة.

و يشهد لما ذكرناه أنه جميع في رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع بين القاطعين فدلّت على أن كلا من الإقامة و المرور بالملك المستوطن فيه قاطع مستقل.

الإشكال الثاني: قد يتوهم أيضا أنّ الطائفة الثانية و ثلاث روايات من الطائفة الأولى معترضة لحكم الضيعة فقط، و الطائفة الثالثة المفصّلة بين صورة الاستيطان و غيرها متعرضة لحكم المنزل، فكيف تجعل هذه مفسرة لهاتين؟

و يرد عليه- مضافا إلى القطع بعدم دخالة خصوصية الضيعة- أن المستفاد من رواية محمّد بن إسماعيل بن بزيع هو أنّ الضيعة بما أنّها ضيعة لا حكم لها و إنّما الاعتبار بكون الشخص ذا منزل يستوطنه، فهي تفسر الأوليين و يصير محصّل الجميع أن المرور بالملك- أي ملك كان- يوجب الإتمام إذا كان للشخص في هذا الموضع منزل يستوطنه، فتدبّر.

ص: 202

تكميل حكم ما استوطنه ستة أشهر
اشارة

قد عرفت أنه لا يراعى بحسب اللغة و المتفاهم العرفي في صدق الوطن على بلد خاص الاعتبارات السالفة، من كونه مسقطا لرأس الإنسان، أو محلا لإقامة آبائه و أجداده، و لا اللاحقة ككونه عازما على البقاء فيه دائما مثلا. بل هو عبارة عن محلّ الإقامة و المقرّ الفعلي للشخص بحسب طبعه و وضعه الفعلي، سواء ملك فيه شيئا أم لا. و عرفت أيضا أنّ كون المرور به قاطعاً للسفر أمر واضح لا يحتاج إلى تعبد شرعي، إذ المسافر يخرج بالمرور به من كونه مسافرا حقيقة و يدخل في عنوان الحاضر. فهذا مما لا إشكال فيه.

نعم هنا شي ء آخر، و هو أنه ربما نسب إلى المشهور تفسير الوطن بالموضع الذي له فيه ملك و قد استوطنه فيما مضى ستة أشهر و لو متفرقة، و ربما عبّروا عن ذلك بالوطن الشرعي و جعلوه من القواطع. و مستندهم في هذا الفتوى رواية ابن بزيع لا محالة.

فاللازم ذكر كلمات الأصحاب ثمّ التدبّر في رواية ابن بزيع حتى يظهر ما هو الحق في المقام فنقول:

نقل كلمات القدماء في المسألة

1- قال في الفقيه- بعد ما روي خبر إسماعيل بن الفضل السابقة (الأولى من الطائفة الأولى):- «قال مصنف هذا الكتاب: يعني بذلك إذا أراد المقام في قراه و أرضه عشرة أيّام، و متى لم يرد المقام بها عشرة أيّام قصّر إلّا أن يكون له بها منزل فيكون فيه في السنة ستة أشهر، فإن كان كذلك أتم متى دخلها. و تصديق ذلك ما رواه محمّد بن إسماعيل بن بزيع.» (1)


1- الفقيه 1- 451، باب الصلاة في السفر، ذيل الحديث 1307.

ص: 203

2- و قال الشيخ في النهاية: «و من خرج إلى ضيعة له و كان له فيها موضع ينزله و يستوطنه وجب عليه الإتمام، فإن لم يكن له فيها مسكن وجب عليه التقصير.» (1)

3- و قال في المبسوط: «و إذا سافر فمرّ في طريقة بضيعة له، أو على مال له، أو كانت له أصهار، أو زوجة فنزل عليهم و لم ينو المقام عشرة أيّام قصّر. و قد روي أنّه عليه التمام، و قد بيّنا الجمع بينهما، و هو أنّ ما روي أنه إن كان منزله أو ضيعته مما قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا تمّم و إن لم يكن استوطن ذلك قصّر.» (2)

4- و قال القاضي في مهذّبه: «من مرّ في طريقه على ما له، أو ضيعة يملكها، أو كان له في طريقة أهل، أو من يجري مجراهم و نزل عليهم و لم ينو المقام عندهم عشرة أيّام كان عليه التقصير». (3)

5- و عنه في الكامل: «من كانت له قرية له فيها موضع يستوطنه و ينزل به و خرج إليها و كانت عدّة فراسخ سفره على ما قدمناه فعليه التمام، و إن لم يكن له فيها مسكن ينزل به و لا يستوطنه كان له التقصير». (4)

6- و في الكافي لأبي الصلاح: «فإن دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام و لو صلاة واحدة، و إن لم ينزله، أو لم يكن له فيه وطن فعزم على الإقامة عشرا تمّم، و إن لم يعزم قصّر ما بينه و بين شهر.» (5)

7- و عن ابن الجنيد: «من وجب عليه التقصير في سفر فنزل منزلا أو قرية يملكها أو بعضها أتمّ و إن لم يقم المدة التي توجب التمام على المسافر، و إن كان مجتازا بها غير نازل لم يتمّ.» (6)


1- النهاية- 124، باب الصلاة في السفر.
2- المبسوط 1- 136، كتاب الصلاة المسافر.
3- المهذّب 1- 106، باب صلاة السفر.
4- راجع مفتاح الكرامة 3- 560، و المختلف- 170 (ط. أخرى 2- 561)، و الذخيرة- 408.
5- الكافي- 117، باب تفصيل أحكام الصلاة الخمس.
6- راجع المختلف- 170 (ط. أخرى 2- 563)، الفصل السادس، المسألة 407.

ص: 204

8- و في السرائر: «و السفر خلاف الاستيطان و المقام، فإن لا بدّ من ذكر حدّ الاستيطان، و حدّه ستة أشهر فصاعدا، سواء كانت متفرقة أو متوالية. فعلى هذا التقرير و التحرير من نزل في سفره قرية أو مدينة و له فيها منزل أو مملوك قد استوطنه ستة أشهر أتمّ و إن لم يقم المدة التي توجب على المسافر الإتمام أو لم ينو المقام عشرة أيّام، و إن لم يكن كذلك قصّر». (1)

9- و في الوسيلة- في حكم من مرّ بضيعة له-: «و إن كان له فيها مسكن نزل به ستة أشهر فصاعدا أتمّ، و إن لم يكن قصّر، إلّا إذا نوى الإقامة عشرة». (2)

هذه الأقوال القدماء من أصحابنا، ثمّ اشتهر من زمن المحقق و العلامة القول بثبوت الإتمام على من مرّ بموضع له فيه ملك قد استوطنه فيما مضى ستة أشهر و لو متفرقة، فأفتى بذلك المحقق و العلّامة و من تأخّر عنهما، و ادّعى بعضهم عليه الإجماع. (3) و شاع بين متأخري المتأخرين من المقاربين لعصرنا التعبير عن ذلك بالوطن الشرعي. هذا. و لكن ناقش فيه في الرياض، و تبعه بعض آخر، (4) إلى أن انقلب الشهرة أخيرا إلى إنكاره و حمل رواية ابن بزيع على تحديد الوطن العرفي.

و كيف كان فإثبات ما سمّوه وطنا شرعيا بسبب الشهرة مشكل، فإنّ الشهرة إنّما تكون حجة إذا كانت متحققة بين القدماء من أصحابنا بنحو يستكشف بها كون المسألة من المسائل المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد (5)، و الشهرة في هذه المسألة إنّما حدثت من عصر المحقق «قده»، فإنّ عبارة الشيخ في نهاية التي ألّفها النقل المسائل


1- السرائر 1- 331، باب صلاة المسافر. و في هذا النسخة: «و له فيها منزل مملوك».
2- الوسيلة لابن حمزة- 109، في فصل بيان أحكام صلاة السفر.
3- راجع الشرائع 1- 133 (ط. أخرى- 101)، في الشرط الثالث من شروط القصر، و المنتهى 1- 393، و الذكرى- 259، و الروض- 386، و غيرها.
4- راجع الرياض 4- 419، و الذخيرة 5- 408. و لتفصيل الأقوال في المسألة راجع مفتاح الكرامة 3- 565- 560.
5- قد مرّ توضيح ذلك في أوائل البحث عن صلاة الجمعة، فراجع. (ص 20).

ص: 205

المتلقاة عنهم عليهم السلام، و كذلك عبارة الفقيه و كلمات القاضي و أبي الصلاح ظاهرة في الخلاف، و بعض القدماء كالمفيد مثلا لم يتعرض للمسألة أصلا. نعم، عبارة المبسوط الذي هو كتاب تفريعي، و كذا السرائر ظاهرة في إثباته و لكن لا يتحقق الشهرة المعتمد عليها بمثل ذلك.

و على هذا فإن نهض رواية ابن بزيع لإثبات ما سمّوه وطنا شرعيا فهو، و إلّا فالمرجع عمومات أدلة القصر في السفر، فنقول:

محتملات رواية ابن بزيع

المحتملات في الحديث ثلاثة:

1- أن يحمل على ما يستفاد من ظاهر كلام الفقيه، أعني ما يقيم فيه في كلّ سنة ستة أشهر.

2- أن يحمل على ما سمّوه وطنا شرعيا.

3- أن يحمل على تحديد الوطن العرفي و يكون ذكر ستة أشهر من باب المثال كما سيأتي توضيحه.

أما الأول: فتقريبه أن يقال: إنّ قوله عليه السلام في تفسير الاستيطان: «أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر» جاء بلفظ المضارع، بل الموجود في أكثر روايات ابن يقطين و صدر رواية ابن بزيع أيضا استعمال الاستيطان كذلك، بل لا يوجد في الروايات المعترضة لحكم الاستيطان ما يكون بلفظ الماضي سوى قوله: «سكنه» في رواية سعد بن أبي خلف، إذ لفظة: «توطنه» في رواية الحلبي و إن احتملنا فيها بدوا أن تكون ماضيا من التفعل لكنّ الظاهر كون التوطّن لغة مستحدثة، و لذا لم يذكر في الصحاح و القاموس، و إنّما ذكره المنجد كما عرفت، فيتعين كون لفظة: «توطنه» في الحديث أيضا مضارعا من الإفعال أو التفعيل.

و على هذا فلا يمكن حمل الاستيطان و نظائره في أخبار الباب على ما نسب إلى

ص: 206

المشهور من كفاية الاستيطان ستة أشهر فيما مضى. فيجب حمل المضارع في الروايات على ما هو ظاهره من الاستمرار، و يكون المراد من قوله عليه السلام في تفسير الاستيطان: «أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر» كون المرور بالضيعة موجبا للإتمام إذا كان له فيها منزل كان من عادته أن يقوم فيه في كلّ سنة ستة أشهر، و يتكرر ذلك منه في جميع السنوات من الماضية و الحاضرة و المستقبلة.

و إن شئت قلت: إنّ المراد بقوله: «يقيم فيه ستة أشهر» الإقامة في الحال أو الاستقبال أو بنحو الاستمرار. لا إشكال في بطلان الأوّلين، فإنّ إقامة ستة أشهر في المستقبل لا يعقل أن تصير موجبة لثبوت الإتمام فعلا، إذ الإقامة شرط لثبوته و ما لم يتحقق الشرط لا يتحقق المشروط، و الإقامة في الحال أي في هذا السفر الذي مرّ فيه بمنزلة أيضا ليست بمرادة قطعا، إذ محط النظر في أخبار الباب بيان ثبوت الإتمام بنفس المرور و لو آنا ما من جهة تحقق الاستيطان مع قطع النظر عن هذا السفر، فتعين الحمل على الاستمرار و هو المطلوب. هذا.

و يمكن أن يناقش في ذلك بأن الاعتبار هل يكون بجميع السنوات من زمن التولد إلى الممات، بحيث لا يتخلف عنها سنة، أو يكفي الأقلّ من ذلك؟ لا شبهة في بطلان الأوّل. و أمّا على الثاني فيصير الموضوع مجملا من حيث المبدأ، فيحتمل أن يكون الاعتبار بعشر سنوات مثلا قبل الحاضرة، و أن يكون بخمس و نحو ذلك، فمن أيّ سنة يبتدأ السنوات المعتبرة؟

هذا مضافا إلى إنّ الإقامة في السنوات الماضية قد تحققت لا محالة و أما في الآتية فلم تتحقق بعد، فكيف تعتبر في الإتمام فعلا؟! و لو قيل بكفاية قصدها بالنسبة إلى الآتية لزم أن يكون قوله «يقيم» بمعنى نفس الإقامة بالنسبة إلى السنوات الماضية و بمعنى قصدها بالنسبة إلى السنوات الآتية، و ذلك مساوق لاستعمال اللفظ في معنيين. و لو قيل بعدم الاعتبار بالسنوات الماضية أصلا و كفاية قصدها فقط بالنسبة

ص: 207

إلى الآتية لزم الخروج من ظهور اللفظ، إذ الفعل قد وضع لبيان تحقق نفس المادة لا لقصدها، فتدبّر.

و أما الثاني أعني حمل الحديث على ما سمّوه وطنا شرعيا، فغاية تقريبه أن يقال:

إنّ لفظ الاستيطان في أخبار المسألة و كذلك الإقامة في رواية ابن بزيع و إن استعملا بلفظ المضارع لكن يجب القول بانسلاخهما عن الزمان، لعدم جواز حملهما على الحال و لا الاستقبال و لا الاستمرار كما اتضح ذلك في أثناء تقريب كلام الصدوق و المناقشة عليه، فيكون المراد منهما نفس تحقق المادة خارجا. فالمتبادر من قوله في رواية ابن بزيع: «يقيم فيه ستة أشهر» بعد عدم جواز حمله على الاستمرار أو الاستقبال أو الإقامة في هذا السفر هو أن تحقق الإقامة خارجا في منزل بمقدار ستة أشهر مما يوجب الإتمام حال المرور به، و لا محالة ينطبق ذلك على ما مضى، إذ المستقبل لم يتحقق بعد، فلعلّ ذلك هو وجه فتوى جلّ المتأخرين بكفاية الإقامة ستة أشهر فيما مضى في ثبوت الإتمام، مع أن أغلب أخبار الباب و فتاوى القدماء من الأصحاب وردت بلفظ المضارع.

فإن قلت: لو كان معنى الاستيطان عبارة عن نفس الإقامة لصحّ ما ذكرت من وجوب حمل روايات الباب على المضي، و لكن من المحتمل أن يكون الاستيطان عبارة عن قصد الإقامة في مكان بعنوان الاستيطان، بأن يكون الاستيطان من العناوين القصدية التي لا تنطبق على معنوناتها إلّا بالقصد كالتعظيم و نظائره، و على هذا الفرض يمكن حمل أخبار المسألة على زمان الحال أيضا، فيكون المراد دوران الإتمام مدار كون المسافر ناويا للاستيطان في هذا المنزل بحسب وضعه الفعلي و إن كان في سفره هذا مارّا به آنا ما. و بالجملة الإتمام يدور مدار كون المكان الممرور به وطنا اتخاذيا له فعلا، و هو أمر متقوم بالقصد.

قلت: كون القصد معتبر في الاستيطان ممنوع، فإنّ الوطن كما عرفت سابقا

ص: 208

عبارة عن محل الإقامة و المقرّ الفعلي، من دون أن يؤخذ فيه قصد الوطنية أو قصد البقاء فيه دائما، و قد عرفت تفسير الوطن و الإيطان في كلمات أهل اللغة بالإقامة.

و يشهد لذلك أيضا شعر رؤبة الذي حكاه عنه في الصحاح، بل و استعمال لفظي الوطن و الموطن في مرابض الغنم، إذ الظاهر عدم كونها معنى آخر للّفظين، بل الموضوع له فيهما هو محل الإقامة سواء كان للإنسان أم لغيره. بل قوله عليه السلام في رواية ابن بزيغ في تفسير الاستيطان: «أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر» أيضا يظهر منه أن المراد بالاستيطان نفس الإقامة، فإنّه بعد ما قال الإمام عليه السلام: «إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه» سأله الراوي عن الاستيطان، فأجابه الإمام بذلك، و الظاهر أن تفسير الاستيطان هو من قوله: «يقيم»، إذ ما ذكر قبله هو بعينه ما ذكر قبل قوله: «يستوطنه» في بادئ الأمر. فمعنى الاستيطان حينئذ هو نفس الإقامة، و ليس في الرواية اسم من القصد و النية، بل يمكن أن يقال: إنّ كون الاستيطان بمعنى الإقامة كان أمرا واضحا للرواة، لكونه من المفاهيم العرفية، و لأجل ذلك علّق الحكم في الروايات الأخر على الاستيطان من غير أن يذكر له تفسير مع كونها بصدد البيان، بل في صدر رواية ابن بزيع أيضا علّق الحكم على الاستيطان بنحو الإطلاق، بحيث لو لم يسأل الراوي عن مفهومه لم يكن الإمام عليه السلام مبينا له كما في سائر الأخبار.

و بالجملة مفهوم الاستيطان مفهوم مبين عرفي و ليس القصد مأخوذا فيه قطعا، و لعل سؤال ابن بزيع أيضا لم يكن عن ماهية الاستيطان و إن وقع بلفظة «ما» بل عن مقدار الإقامة الذي يعتبر في وجوب الإتمام بعد علمه إجمالا بكونه بمعنى الإقامة، فالجواب بحسب الحقيقة هو قوله: «ستة أشهر».

و الحاصل أن تتبع كتب اللغة و استعمالات العرب يرشدنا إلى أنّ الوطن و اشتقاقاته مما لم يعتبر في مفهومها قصد العنوان أو قصد الدوام حتى يكون الوطنية من العناوين القصدية الحاصلة بالإنشاء عن قصد، بل هو عبارة عن محلّ الإقامة

ص: 209

و المقرّ الفعلي للشخص بحسب طبعه و وضعه الفعلي، و قد أوضحنا ذلك في صدر المبحث. نعم، ربما يتبادر بحسب عرف العجم من تلك الألفاظ مفاهيم أخر، كمسقط الرأس و محلّ إقامة الآباء و الأمّهات أو ما اتخذ مقرّا بالقصد أو نحو ذلك، و لكن الاعتبار باللغة و عرف العرب كما لا يخفى وجهه.

و كيف كان فيمكن القول باستفادة ما نسب إلى المشهور من رواية ابن بزيع بعد تعذر حمل المضارع فيها على الحال و الاستقبال و الاستمرار، فيكون الفعل فيها منسلخا عن الزمان و يكون المراد أن إقامة ستة أشهر في موضع بفعليتها و خارجيتها تؤثر في وجوب الإتمام بالمرور عليه، فتدبّر جيّدا.

و ينبغي التنبيه على أمرين:

الأوّل: أن قوام ما سمّوه وطنا شرعيا بأمرين:

1- أن يكون له في الموضع الممرور به ملك ثابت من ضيعة أو دار، بل و لو كان نخلة واحدة كما في رواية عمّار، بل اكتفى بعضهم بنصف النخلة، سواء كان الملك قابلًا للسكنى كالدار أم لا كالنخلة.

2- أن يكون الموضع مما استوطنه ستة أشهر و لو متفرقة حال كونه مالكا فيه.

و استفادوا الشرط الأوّل من رواية عمّار، و الثاني من رواية ابن بزيع، و التعميم لصورتي التوالي و التفرق من إطلاق قوله: «يقيم فيه ستة أشهر».

و ليس في كلامهم تقييد الإقامة بكونها بقصد الاستيطان و اتخاذ المكان وطنا أو بقصد البقاء فيه دائما، كما أن الرواية أيضا خالية عن أمثال هذه القيود. و الاستيطان المذكور فيها ليس إلّا بمعنى نفس الإقامة، و لذا فسره بقوله: «يقيم».

الثاني: لا يخفى أنّ المذكور في كلامهم أن مرور المسافر بالموضع الذي له فيه ملك و قد استوطنه ستة أشهر مما لا يوجب الإتمام، من دون أن يطلقوا عليه لفظ الوطن الشرعي، و إنّما حدث هذا الاصطلاح على ألسنة متأخري المتأخرين، و قد عرفت أنه

ص: 210

مع قطع النظر عن رواية ابن بزيع أيضا ليس حكم انقطاع السفر دائرا مدار صدق الوطن عرفا، بل المرور بالمقرّ الفعلي مما يخرج الإنسان من كونه مسافرا حقيقة، سواء ساعد العرف و اللغة على إطلاق لفظ الوطن عليه أم لا. و بالجملة المرور بالمقرّ الفعلي يقطع السفر حقيقة، و المرور بالموضع الذي له فيه ملك و قد أقام فيه ستة أشهر أيضا يقطعه حكما عند من يقول به، و ليس الحكم أبدا دائرا مدار عنوان الوطن و ليس في كلمات الأصحاب أيضا اسم منه. و التعبير به و كذا تفسيره و تقسيمه إلى الشرعي و العرفي ثمّ الثاني إلى الأصلي و المستجدّ أمور حدثت بين متأخري المتأخرين، فتتبع.

هذا كلّه على فرض حمل رواية ابن بزيع على ما هو ظاهر الفقيه، أو على ما نسب إلى المشهور.

و أما الثالث: أعني حمل الرواية على تحديد الوطن العرفي و المقرّ الفعلي للشخص بحسب طبعه كما فسرناه سابقا فغاية تقريبه أن يقال: إنّ روايات علي بن يقطين و الحلبي و ابن بزيع كلّها بصدد البيان، و قد علّق وجوب الإتمام فيها على الاستيطان و التوطن، من غير أن يتصدى الإمام عليه السلام بنفسه لتفسير الاستيطان، و لا ريب أنه كان يتبادر إلى أذهان السائلين من هذا اللفظ مفهومه العرفي. فلو كان مراده عليه السلام معنى آخر لكان الاكتفاء بذكر الاستيطان من غير بيان المراد منه إغراء بالجهل، فيكشف بذلك أن المراد به مفهومه العرفي. و هذا البيان يجري حتى في رواية ابن بزيع أيضا، حيث علّق الإمام عليه السلام فيها الإتمام على أن يكون له في الضيعة منزل يستوطنه، و اكتفى بذلك مع كونه في مقام البيان، بحيث لو لم يسأل السائل عن مفهوم الاستيطان لم يتعرض هو بنفسه لتفسيره كما في سائر الأخبار. و لو كان مراده عليه السلام غير المفهوم العرفي لكان عليه بيانه ابتداء. و احتمال كون المفهوم الشرعي للوطن أمرا معروفا عند السائلين بحيث لم يكن محتاجا إلى البيان في غاية الضعف.

و بالجملة تعليق الحكم في الأخبار السابقة على الاستيطان و عدم التعرض

ص: 211

لتفسيره مع كونها في مقام البيان مما يقرّب إلى الذهن أن المراد به مفهومه العرفي، و يحمل قوله في رواية ابن بزيع: «يقيم فيه ستة أشهر» على الاعتياد و الاستمرار بحيث يتحقق الصدق العرفي.

فإن قلت: صدق مفهوم الوطن عرفا لا يتوقف على الإقامة في كلّ سنة ستة أشهر، و لا على كون الشخص مالكا في الموضع، فما وجه التحديد بالستة أشهر و تعليق الحكم في رواية عمّار على المالكية؟

قلت: أما ذكر الستة أشهر فمن باب المثال، أو من جهة أن الغالب فيمن له وطنان أن يقيم في كلّ منهما ستة أشهر من كلّ سنة، و المفروض في أخبار المرور بالضيعة أنّ للشخص وطنا آخر غير الضيعة و قد سافر منه و مرّ في الأثناء إلى ضيعته، ففرض استيطانه في الضيعة يساوق كونه ذا وطنين. و الحاصل أن ظهور قوله: «ستة أشهر» في دخالة خصوصية الستة يعارض ظهور قوله: «يستوطنه» في كون الاعتبار بالاستيطان العرفي. و في مقام تعارض ظهور المفسر و المفسر و إن كان مقتضى القاعدة تقديم ظهور المفسر بالكسر لكن هذا فيما إذا لم يكن ظهور المفسر أقوى، و فيما نحن فيه ظهوره في إرادة المفهوم العرفي في غاية القوة، فيجب رفع اليد عن ظهور المفسر بالكسر و حمله على كونه من باب المثال أو الغلبة.

و أمّا المالكية فمحمولة على الغلبة أيضا، حيث إنّ اتخاذ بلد مخصوص وطنا و اختياره من بين البلاد لذلك إنّما يتحقق غالبا بسبب وجود علاقة ملكية للشخص في هذا البلد.

هذا كلّه مضافا إلى أنه لمّا كان الوطن الأصلي لمن مرّ في أثناء سفره على ضيعته غير هذا الموضع الممرور به، كما أشرنا إليه آنفا، كان تعليق الإمام عليه السلام حكم الإتمام على الاستيطان في الضيعة موردا لاستبعاد السائل و استغرابه، لعدم تصوره كون الضيعة وطنا عرفيا لهذا المسافر مع فرض كونه متوطنا في بلد آخر، و لأجل

ص: 212

ذلك سأل الإمام عليه السلام عن الاستيطان، فأجابه الإمام عليه السلام بذكر أظهر أفراد الوطن المستجدّ، و هو الموضع الذي يكون للشخص فيه علاقة ملكية و يقيم فيه في كل سنة ستة أشهر، ليكون أبلغ في دفع استغرابه و استبعاده، و إلّا فالوطن العرفي يتحقق بأقلّ من ذلك أيضا، إذ يمكن أن يتصور للشخص أزيد من وطنين، و إنما يتصور ذلك إذا لم نعتبر في صدقه عرفا إقامة ستة أشهر في كلّ سنة.

فإن قلت: لو كان المراد من قوله عليه السلام: «يستوطنه» مفهومه العرفي و كان هذا متبادرا إلى ذهن السائل لم يتصدّ للسؤال عن الاستيطان، فيدلّ سؤاله عنه على كونه عالما بثبوت الوطن الشرعي إجمالا فسأل عن حدّه.

قلت: لعلّ وجه سؤاله ما أشير إليه آنفا من استغرابه لكون الضيعة وطنا له مع كونه متوطنا في بلد آخر، أو احتماله لأن يكون للشارع وضع جديد للاستيطان بأن يكون الوطن بنظر الشرع أوسع مما يراد منه عرفا، و يكون جواب الإمام عليه السلام متضمنا لبيان أظهر أفراد الوطن المستجدّ الذي هو من أفراد الوطن العرفي.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في مقام تطبيق الأخبار على الوطن العرفي.

ما هو محطّ النظر في الأخبار و تقريب «الوطن الشرعي»

أقول: الظاهر أن ما ذكر لا يلائم ما هو محط النظر في هذه الأخبار سؤالا و جوابا، و اللازم في مقام الاستفادة من أخبار كلّ باب ملاحظة خصوصيات الأسئلة الواقعة فيها و الظروف التي صدرت فيها هذا الأخبار، و لا يخفى أن كون المرور بالمقرّ الفعلي و الوطن العرفي موجبا للإتمام لم يكن أمرا مبحوثا عنه في عصر الأئمة عليهم السلام بل هو أمر واضح لا ينبغي البحث عنه، لما عرفت من أن تعليق الحكم بالقصر على السفر و الضرب في الأرض يدلّ بنفسه على انقطاع السفر حقيقة بالمرور بالمقرّ الفعلي و محلّ الإقامة. فالروايات الواردة في المسألة لا ترتبط بمسألة المرور بالمقرّ الفعلي الذي

ص: 213

ربّما يسمى في أعصارنا بالوطن المستجدّ في مقابل الأصلي، بل الذي كان مبحوثا عنه في عصرهم عليهم السلام كما يظهر للمتتبع هو مسألة مرور المسافر أثناء سفره بضيعة له أو غيرها من الأملاك، فكان يفتي بعضهم و منهم الشافعي في أحد قوليه بوجوب الإتمام على من مرّ بملكه، و آخرون بوجوب القصر. و منشأ توهّم الإتمام ما قد اختلج في أذهانهم من كون الحكمة لوجوب القصر كون السفر موجبا للمشقة المقتضية للتسهيل، و وصول المسافر إلى محل له فيه علاقة ملكية مما يوجب زوال بعض المشقة، فناسب الإتمام. و بالجملة كأنّ المارّ بملكه يكون برزخا بين الحاضر و المسافر، فألحقه بعضهم بالحاضر و آخرون بالمسافر، و بعد ما كانت المسألة مبحوثا عنها بين فقهاء العامّة صار أصحابنا الإمامية أيضا بصدد استفسار الأئمة عليهم السلام عن حكمها، فأجابوا تارة بالإتمام، و أخرى بالقصر، و ثالثة بالتفصيل بين صورة الاستيطان و غيرها.

فمفروض السائلين في الأخبار هو المسألة المبحوث عنها بين العامّة، أعني مرور المسافر أثناء سفره بضيعته أو غيرها من أملاكه، لا المقرّ الفعلي الذي لا ريب في خروج المسافر بسبب المرور به من كونه مسافرا حقيقة. و الظاهر أن تفصيل الإمام عليه السلام بين صورة الاستيطان و غيرها أيضا إنّما يكون بعد انحفاظ أصل موضوع البحث و السؤال، فلا يمكن حمل الاستيطان في الأخبار على الوطن العرفي بمفاده عند العجم. كيف! و إلّا يلزم أن يكون الاستثناء في قوله عليه السلام: «إلّا أن يكون له فيها منزل يستوطنه» بنحو الانقطاع، إذا المفروض في السؤال كما عرفت عدم كون الضيعة وطنا عرفيا.

و مما يؤيد ما ذكرناه أن الغالب و المتعارف بين مالكي القرى و الضياع عدم إقامتهم في ضياعهم المتباعدة عن الأمصار بمقدار يصدق عليها الوطن العرفي العجمي، بل يمرّون بها لضبط المحصولات أو التنزه مثلا و لا سيما مثل ابن يقطين و ابن بزيع المتمكنين الذين كثرت ضياعهما، فيكون حمل الاستيطان في هذه

ص: 214

الأخبار على مفهومه العرفي العرفي عند العجم حملا له على الأفراد النادرة.

و يشهد لذلك أيضا أنّ الوطن العرفي باصطلاح العجم وصف للبلد الذي يسكن فيه الشخص، و لا يوصف به المنزل، مع أن الاستيطان في الأخبار قد أضيف إلى نفس المنزل، فيعلم بذلك أن المقصود في الأخبار المفصّلة ليس بيان قاطعية الوطن العرفي العجمي الذي لا ريب في قاطعيته بل لا ينبغي البحث عنها، بل المقصود فيها بيان التفصيل في المسألة التي تداول البحث عنها بينهم مع فرض انحفاظ موضوع البحث، و الاستيطان المذكور فيها و لا سيما باعتبار إضافته إلى نفس المنزل لا يراد به الّا السكون و الإقامة، فيصير محصل الروايات أنّ المارّ بالضيعة يجب عليه أن يقصّر فيها إلّا أن يكون له فيها منزل يسكنه، فإن المارّين بضياعهم على قسمين: قسم منهم لا يهى ء لنفسه في ضيعته منزلا يسكنه إذا مرّ بها بل ينزل في منازل رعاياه، و قسم منهم يهيأ لنفسه في الضيعة و القرية منزلا و يعدّ فيه أسباب التعيش لينزل فيه إذا مرّ بقريته لقضاء حوائجه من ضبط المحصولات و التنزه و نحوهما و لكنه مع ذلك لا يكون إقامته في القرية بنحو يصدق عليها أنها مقرّ إقامته و أنها وطن له بمفاده عند العجم حتى يكون وصوله إلى القرية موجبا لخروجه من كونه مسافرا عرفا. و الإمام عليه السلام حكم بوجوب الإتمام على القسم الثاني، أعني من كان له فيها منزل يسكنه إذا مرّ بها، و بين مقدار السكون الكافي في الحكم بالإتمام في رواية ابن بزيع بكونه ستة أشهر. و التعبير و إن كان بلفظ المضارع لكن الواجب حمله على أصل التحقق المنطبق على المضي قهرا، لما عرفت من عدم جواز الحمل على الحال أو الاستقبال أو الاستمرار، و ليس الحكم بوجوب الإتمام في المقام بسبب صيرورة القرية وطنا عرفيا أو شرعيا، لما عرفت من أن الحكم ليس معلقا على الوطنية بل الحكم بالإتمام هنا من باب التخصيص و يكون خروجه من أدلّة القصر خروجا تعبديا، و لا بعد في ذلك بعد ما نهض عليه الأدلّة، فتدبّر.

ص: 215

تنبيه و فذلكة لما سبق

قال العلّامة في القواعد عند ذكر شرائط القصر: «الثالث: استمرار القصد، فلو نوى الإقامة في الأثناء عشرة أيام أتمّ و إن بقي العزم، و كذا لو كان له في الأثناء ملك قد استوطنه ستة أشهر متوالية أو متفرقة، و لا يشترط استيطان الملك بل البلد الذي هو فيه، و لا كون الملك صالحا للسكنى بل لو كان له مزرعة أتمّ (إلى أن قال:) فلو اتخذ بلدا دار إقامته كان حكمه حكم الملك.» (1)

أقول: قد ذكر الأصحاب طرّا من قواطع السفر العزم على إقامة العشرة و البقاء ثلاثين يوما مترددا. و ذكر الشيخ في المبسوط في عدادها مرور المسافر أثناء سفره بملكه الذي استوطنه ستة أشهر، و تبعه ابن إدريس و بعض آخر، إلى أن اشتهر الإفتاء به من زمن المحقق «قده» كما عرفت. و أمّا ما ذكره العلّامة أخيرا من كون المرور بدار الإقامة قاطعاً فلا يوجد في كلام من سبقه حتى المحقق، و ليس وجه عدم ذكر الأصحاب لذلك عدم تسليمهم لقاطعيته، بل لوضوح الحكم عندهم و غناه عن الذكر، حيث إنّ كلامهم كان في حكم المسافر الضارب في الأرض، و المرور بدار الإقامة و المقرّ الفعلي مما يخرج الشخص من كونه مسافرا حقيقة. و بالجملة محطّ نظر الأصحاب بيان القواطع التي توجب الإتمام مع انحفاظ موضوع القصر، أعني السفر، فعدّوا منها العزم على إقامة العشرة و إقامة ثلاثين مترددا و المرور بالملك الذي استوطنه ستة أشهر، و قاطعية الأمور الثلاثة عندهم قاطعية تعبدية لا حقيقية، و لم يذكروا المرور بدار الإقامة التي تسمى في عرفنا بالوطن لوضوح كونه قاطعاً للسفر حقيقة و عدم انحفاظ موضوع القصر معه. و لعلّ ذكر العلّامة له كان لبعض الشبهات التي وقعت في زمانه كما يأتي نظيرها عن صاحب المستند. و قد عرفت أنّ


1- القواعد 1- 50.

ص: 216

الأخبار السابقة أيضا ليست بصدد بيان قاطعية الوطن العرفي، لعدم كونها مبحوثا عنها، بل عدم قابليتها للبحث، بل هي ناظرة إلى مسألة كانت مبحوثا عنها بين العامّة في أعصار الأئمة عليهم السلام، و هي مسألة قاطعية المرور بالملك، فتوهم بعضهم و منهم الشافعي في أحد قوليه كونه قاطعاً لحكم السفر من جهة أنّ القصر إنّما شرّع لدفع مشقة السفر، و المسافر ما دام يضرب في الأرض أو يقيم قليلا في منزل لاستراحة مختصرة يشقّ عليه الإتمام، و أمّا إذا وصل إلى منزل له فيه علاقة ملكية فينزل تعبه، لكونه برزخا بين السفر و الحضر، بل يقرب من الحضر غالبا إذا كان له فيه رعايا كثيرة يدفعون عنه مشقة السفر، و قد صارت هذه المسألة معركة للآراء حتى اطلع عليها أصحاب الأئمة عليهم السلام و سألوهم عنها فأجابوا تارة بالإتمام و أخرى بالقصر و ثالثة بالتفصيل بين صورة الاستيطان و غيرها، و فسر الاستيطان في رواية ابن بزيع بأن يكون له في ضيعته منزل يقيم فيه ستة أشهر، و ظاهرها و إن كان التوالي لكن أفتي أصحابنا المتأخرون بكفاية الستة أشهر و لو متفرقة، و لعلّ التعميم من جهة أنّ الموضوع هو الضيعة، و إقامة أرباب الضياع في ضياعهم ستة أشهر متوالية مما لا تتفق غالبا، إذ الغالب مسافرتهم إليها في السنة مرارا، تارة لتعيين وظائف الرعايا، و أخرى لضبط المحصولات، و ثالثة للتنزه مثلا، و كلّ سفر منهم لا يزد على أيّام، و لكنهم مع ذلك يختلفون: فقد لا يكون لهم فيها منزل مخصوص لورودهم فيه، و قد يكون لهم فيها منزل أعدّ لذلك، فحكم الأئمة عليهم السلام بالتقصير في الأوّل و بالإتمام في الثاني إذا كان إقامته في هذا المنزل بمقدار ستة أشهر، و قد عرفت أن الاستيطان في الروايات لا يحمل على الوطن العرفي المصطلح عليه في أزماننا، إذ هو عنوان ينتزع عن بلد الإقامة و لا يصح إطلاقه على المنزل، و ليس في أخبارنا اسم من هذا الاصطلاح العجمي، بل المذكور فيها عنوان الاستيطان مضافا إلى نفس المنزل، فيجب أن يراد به نفس السكون فيه، و المضارع في الأخبار يحمل على المضي لما عرفت، و الخروج من

ص: 217

حكم السفر عند المرور بهذا المنزل خروج تعبدي لا حقيقي، و بهذا البيان صار ما نسب إلى المشهور في هذا المقام قويا، فتدبّر جيدا. (1)


1- أقول: إطلاق الوطن على البلد قد ورد في سؤال علي بن يقطين بإحدى الروايات عنه، حيث قال «و له بالمصر دار و ليس المصر وطنه» (د- مما ذكر سابقا).

ص: 218

عدم اعتبار قصد الدوام في الاستيطان

ثم إنك قد عرفت سابقا أنّ المرور بمحلّ الإقامة الفعلية مما يخرج المسافر حقيقة من كونه مسافرا و يجعله حاضرا سواء كان وطنا أصليا أو مستجدا كما هو اصطلاح المتأخرين، و عرفت أيضا عدم اعتبار قصد الدوام في صيرورة بلد وطنا و مقرّا للشخص، بل قد لا يضرّ التوقيت أيضا.

و قد يشتبه الأمر في بعض المصاديق، و منها المجامع العلمية مثل قم و النجف و نحوهما بالنسبة إلى الطلّاب المجتمعة فيها التحصيل العلم، و ربّما يطول مدة إقامة بعضهم فيها، فيهيؤون فيها لأنفسهم أسباب التعيش و وسائل الإقامة من شراء الدار أو استيجارها و تهيئة الفروش و الظروف و نحوها، فصاروا بحيث يعد البلد مقرّا فعليا لهم و يكون بقاؤهم فيه بالطبع و الخروج بالقسر، و يرون الخروج منه سفرا و الوصول إليه حضورا في المقر و المسكن، مع أنهم لم يقصدوا البقاء فيه دائما بل يغفل بعضهم عن ذلك و يقصد بعضهم الهجرة منه بعد حصول الاستغناء العلمي.

و حينئذ فهل يترتب على هذا البلد بالنسبة إليهم آثار الوطن العرفي من انقطاع السفر حقيقة بصرف مرورهم به أو لا؟

لا يبعد القول بالانقطاع، بداهة أن مثل قوله تعالى وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ الآية، لا يشمل هذا القبيل من الأشخاص بعد وصولهم إلى مقرّهم. فإذا كان أحد من طلّاب النجف مثلا يسافر كلّ جمعة إلى كربلاء للزيارة و يعود فورا إلى النجف و يأوي مأواه و يشتغل بشغله من التحصيل و التدريس فهل يساعد العرف على إطلاق عنوان المسافر عليه بعد ما وصل إلى النجف و استقر في مسكنه كما يساعد على إطلاقه عليه حين الذهاب و الإياب و حين كونه في كربلاء؟ لا إشكال في عدم مساعدة العرف على ذلك بعد ما اتخذ هذا الشخص بلدة النجف و لو في مدة

ص: 219

عشرين سنة مثلا مقرّا لنفسه و أهله و اشترى فيه الدار و هيأ أسباب التعيش بحيث يكون خروجه منه أمرا طارئا و يكون بحسب طبعه و وضعه الفعلي و لو إلى زمن الفراغ من التحصيل مائلا إليه يرجع اليه متى ارتفع القواسر و الطوارئ، فتدبّر.

الفصل الثاني: في بيان قاطعية الإقامة بقسميها
اشارة

لا خلاف بين أصحابنا الإمامية في أنّ المسافر إذا عزم على إقامة عشرة أيّام في مكان زال عنه حكم السفر و وجب عليه الإتمام. و كذلك إذا بقي فيه ثلاثين يوما مترددا أتم فيما بعدها و لو كانت صلاة واحدة، و قال أبو حنيفة: إنّه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتمّ، و قال الشافعي: إنه يتمّ إن نوى مقام أربعة أيام سوى يوم دخوله و خروجه، و به قال مالك و أحمد أيضا. و قال ربيعة: إن نوى مقام يوم أتمّ، و قالت عائشة: إنّه متى وضع رحله أتمّ أيّ موضع كان. (1)

ثم لا يخفى أنّ مسألة قاطعية الإقامة بقسميها من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام في الجملة و استفاضت فيها الأخبار. و قد ذكرها في الوسائل في الباب الخامس عشر. و المذكور فيه عشرون حديثا لا دلالة لثانيها فيبقى تسعة عشر: ثمانية منها تعرضت لحكم الإقامة بقسميها، و تسعة منها مخصوصة بمسألة العزم على إقامة العشرة، و اثنان منها يختصان بمسألة إقامة الشهر. و الثمانية المشتركة بين المسألتين ترجع إلى ستة، حيث إنّ الثالث و الثالث عشر يرجعان إلى واحدة، و كذا الثاني عشر و السادس عشر.

فلنذكر بعض أخبار الباب و عليك بالرجوع إلى البقية:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن يعقوب بن


1- راجع الخلاف 1- 573، المسألة 326 من كتاب الصلاة، و بداية المجتهد 1- 145.

ص: 220

شعيب، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «إذا عزم الرجل أن يقيم عشرا فعليه إتمام الصلاة، و إن كان في شكّ لا يدري ما يقيم، فيقول: اليوم أو غدا، فليقصر ما بينه و بين شهر، فإن أقام بذلك البلد أكثر من شهر فليتمّ الصلاة.» (1)

2- ما رواه بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد الحنّاط، عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث، قال: «إن شئت فانو المقام عشرا و أتمّ، و إن لم تنو المقام فقصّر ما بينك و بين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة.» و تمام الحديث المذكور في الباب الثامن عشر. (2)

3- ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن حمّاد بن عثمان، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: أ رأيت من قدم بلدة، إلى متى ينبغي له أن يكون مقصّرا و متى ينبغي له أن يتمّ؟ فقال: «إذا دخلت أرضا فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيام فأتم الصلاة و إن لم تدر ما مقامك بها، تقول: غدا أخرج أو بعد غد، فقصّر ما بينك و بين أن يمضي شهر، فإذا تمّ لك شهر فأتمّ الصلاة و إن أردت أن تخرج من ساعتك.» و رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، و عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّٰه، عن زرارة. (3)

و الظاهر أن في سند الرواية سقطا فإنّ أحمد بن محمّد بن عيسى لا يروي عن حماد بلا واسطة.

4- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن السندي، عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألته عن المسافر يقدم الأرض؟


1- الوسائل 5- 527 (ط. أخرى 8- 502)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13.
2- المصدر السابق 5- 525 و 532 (ط. أخرى 8- 499 و 508) و الباب، الحديث 5، و الباب 18 منها، الحديث 1.
3- المصدر السابق 5- 526 (ط. أخرى 8- 500)، الباب 15 منها، الحديث 9.

ص: 221

فقال: «إن حدثته نفسه أن يقيم عشرا فليتمّ، و إن قال: اليوم أخرج أو غدا أخرج و لا يدري، فليقصّر ما بينه و بين شهر، فإن مضى شهر فليتمّ، و لا يتمّ في أقلّ من عشرة إلّا بمكّة و المدينة و إن أقام بمكّة و المدينة خمسا فليتمّ.» (1)

5- ما رواه بإسناده عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب، قال: سأل محمد بن مسلم أبا عبد الله عليه السلام و أنا أسمع عن المسافر إن حدّث نفسه بإقامة عشرة أيّام؟ قال: «فليتم الصلاة، فإن لم يدر ما يقيم، يوما أو أكثر، فليعدّ ثلاثين يوما ثمّ ليتمّ و إن كان أقام يوما أو صلاة واحدة.» فقال له محمد بن مسلم:

بلغني أنّك قلت خمسا؟ قال: «قد قلت ذلك.» قال أبو أيوب فقلت أنا: جعلت فداك، يكون أقلّ من خمسة أيّام؟ قال: «لا» و رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم. (2)

و لا يخفى أن ذكر الثلاثين لا يوجد إلّا في هذه الرواية، و أمّا باقي الروايات فذكر فيها لفظ الشهر حتى في رواية محمد بن مسلم السابقة المظنون اتحادها مع هذه الرواية. و ما تضمنته الرواية من حكم الخمسة يحمل على التقية، كما قيل، لقربه من مذهب مالك و الشافعي، أو على الإقامة في مكة و المدينة، كما في رواية محمد بن مسلم السابقة عليها، و الثابت فيهما عندنا و إن كان جواز الإتمام مطلقا لكن التعليق على الخمسة لعله لمراعاة التقية أيضا. و كيف كان فالحكم بقاطعية إقامة الخمسة خلاف إجماع الإمامية، فيجب طرحه أو تأويله. (3)

و قد عرفت أنّ قاطعية الإقامة بقسميها من الأصول المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد، و أودعها الأصحاب في كتبهم المعدة لنقل المسائل المأثورة، و تكرر منا مرارا أنّ مسائل الفقه على قسمين: قسم منها أصول مأثورة عنهم عليهم السلام و تلقاها الأصحاب


1- المصدر السابق 5- 527 (ط. أخرى 8- 502) و الباب، الحديث 16.
2- المصدر السابق 5- 527 (ط. أخرى 8- 501) و الباب، الحديث 12.
3- نعم، عن ابن الجنيد أنّه اكتفى بإقامة الخمسة، فراجع المختلف- 164 (ط. أخرى 2- 536).

ص: 222

يدا بيد و أودعوها في كتبهم المعدة لنقلها كالمقنع و الهداية و النهاية و المراسم و نحوها، و قسم منها مسائل تفريعية استنبطها الأصحاب من تلك الأصول بإعمال الاجتهاد و النظر، و من هذا القبيل تشريح موضوعات الأحكام المأثورة و بيان حدودها.

و لا إشكال في وجوب الأخذ بالقسم الأوّل و إن لم يوجد على وفقها رواية في الجوامع التي بأيدينا، فيكفي فيها اشتهارها بين الأصحاب فضلا عن الإجماع.

و أما القسم الثاني فلا يفيد فيها الإجماع فضلا عن الشهرة.

و مسألة قاطعية الإقامة بقسميها من قبيل القسم الأوّل، فلا يبقى فيها ريب و إن لو يوجد على وفقها رواية، كيف! و قد عرفت استفاضة الروايات فيها.

و أما بيان معنى الإقامة و حدودها فمن قبيل القسم الثاني، فيجب فيه إعمال النظر و البحث.

و لا يخفى أن المراد بالإقامة في مسألة إقامة العشرة و مسألة إقامة الشهر أمر واحد، و ما هو المعني بها في إحداهما هو المقصود في الأخرى، فما يكون العزم عليه عشرا موجبا للإتمام يكون نفس تحققه خارجا بمقدار ثلاثين يوما أيضا موجبا له.

و على هذا فتحديد الإقامة في مقام يكفي عن تحديدها في المقام الآخر. فنقول:

تحديد الإقامة و خصوصياتها في مسائل
اشارة

البحث في تحديد الإقامة و خصوصياتها و لواحقها إنّما يتمّ بعقد مسائل:

هل تكفي الإقامة في البادية؟

المسألة الأولى: هل يجب أن تكون الإقامة في بلدة، أو قرية أو خيم متقاربة تشبه البلدة، أو يكفي في الإتمام عزمها أو تحققها و لو كانت في بادية؟

الظاهر هو الثاني، للعلم بعدم دخالة خصوصية البلدة و نحوها، مضافا إلى إطلاق

ص: 223

بعض الأخبار. و تخصيصها بالبلدة و استفادة حكم البادية بالإجماع بلا وجه بعد إطلاق كثير منها و العلم بعدم دخالة خصوصية البلدة المذكورة في بعضها.

هل يعتبر في الإقامة كونها في محل واحد؟

المسألة الثانية: هل الوحدة معتبرة في محلّ الإقامة، أو يكفي عزمها أو تحققها في مجموع البلدتين أو البلاد المتقاربة كبغداد و الكاظمين مثلا؟

لا شكّ في أنّ المستفاد من الأخبار و الفتاوى اعتبار الواحدة بحيث بعد بنظر العرف محلا واحدا. و يشهد بذلك قوله عليه السلام في رواية زرارة: «إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام».

اعتبار عدم قصد الخروج من البلد

المسألة الثالثة: هل الاعتبار في وحدة المحلّ باتصال الجدران مثلا، حتى يعتبر فيمن أقام في البداية أن لا يتحرك في أطراف خيمته أيضا و لو قليلة، و يجوز للمقيم في بلدة كبيرة أن يسير في جميع محلاتها و إن كانت في الكبر بحيث يصدق على من سار من محلة منها إلى الأخرى عنوان المسافر، أو الاعتبار بالمنزل الذي سكن فيه، فيعتبر أن لا يخرج منه و سواء كان في البادية أو في البلد، أو الاعتبار بحدّ الترخص، فيضرّ الخروج منه و لو إلى التوابع المتصلة و لا يضرّ السير في أطراف محلّ الإقامة بلدا كان أو بادية ما لم يخرج من حدّ الترخص، أو الاعتبار بالبلد و توابعه المتصلة كالبساتين و المقابر و نحوها، أو الاعتبار بعدم الخروج من حدّ البلد بمقدار الأربعة فيضرّ الخروج بهذا المقدار و إن لم يوجب القصر في حقه فعلا كما إذا لم يرجع ليومه بناء على اعتباره، أو الاعتبار بعدم إيجابه للقصر فعلا فلا يضرّ الخروج ما لم يتحقق السفر الموجب للقصر؟

ص: 224

في المسألة وجوه. و قد نسب إلى الفاضل الفتوني كون الاعتبار بسور البلد، (1) و إلى الشهيدين و جماعة أنّ الاعتبار بحدّ الترخص (2) و لعلّهم استفادوا ذلك من الأخبار الحاكمة بوجوب القصر بعد الخروج من حدّ الترخص و ثبوت الإتمام على المسافر بعد ما وصل في رجوعه إليه، بتقريب أنّ هذا الحكم ليس تعبدا محضا، بل من جهة أن الخروج من البلد لا يصدق عرفا ما لم يخف عن السمع و البصر آثاره، و أن الوصول إلى هذا الحد وصول إلى البلد عرفا. فالسائر في أطراف البلد لا يخرج من كونه مقيما فيه ما لم يخف عنه آثاره من الجدران و الأذان، فتأمّل.

و كيف كان فالأقوى أنّ المسافر إذا خرج من البلد و من توابعه المتصلة التي يعدّ كونه فيها كونا في نفس البلد و صار بحيث لا يصدق عليه حين خروجه أنّه في هذا البد أضرّ ذلك بإقامته في هذا البلد و إن تحقق منه ذلك في زمن قليل و حينئذ فإذا كان من أوّل الأمر قاصدا لذلك كما هو مفروض الكلام في هذه المسألة لم يتحقق منه الإقامة المعتبرة في انقطاع حكم السفر أصلا، و أما الخروج من المنزل إلى سائر نقاط البلد بل إلى التوابع المتصلة به فلا يضر بصدق الإقامة قطعا.

و بعبارة أخرى: الأقوى في معنى الإقامة هو ما قوّيناه سابقا و علقناه على العروة، حيث قلنا: «إنّ إقامة المسافر يوما أو أيّاما في منزل عبارة في العرف عن بقائه فيه متعطلا عما هو شغل المسافرين في كلّ يوم من طيّ مرحلة قصيرة أو طويلة، لا جعله ذاك المنزل محلّ استراحته و نومه عند فراغه من شغل المسافرة في يومه.» (3)


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 496. و الفتوني هو الشيخ محمد مهدي بن محمد، من أساتيد السيّد محمد مهدي بحر العلوم «قدهما». راجع الفوائد الرضوية- 673، و معارف الرجال 3- 79.
2- قال في مفتاح الكرامة- 3- 496-: الذي صرّح به الشهيدان في البيان- 160 (ط. أخرى 8- 266)، و نتائج الأفكار- و الظاهر أنّه المشهور- جواز التردد في حدود البلد و أطرافها ما لم يصل إلى محلّ الترخص.
3- راجع الثاني من قواطع السفر في فصل القواطع من العروة، المسألة 8. و التعليقة عند قوله:

ص: 225

و إن شئت توضيح ذلك فنقول: إنّك إذا نظرت إلى وضع المسافرات التي كانت تتحقق في زمن صدور الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ظهر لك أنّه كان من عادة المسافرين تقسيم كل يوم و ليلة و صرف مقدار منهما في الضرب في الأرض و الباقي منهما في الإقامة في مكان للاستراحة و تجديد القوى، و كان يختلف ذلك باختلاف الفصول و المسافرين و الطرق و المراكب، فكانوا في بعض الفصول يسيرون في النهار و يقيمون في الليل، و في بعضها بالعكس، و في بعض بالتلفيق، و كان مقدار سير بعضهم في مجموع اليوم و الليلة ثمانية فراسخ، و مقدار سير بعضهم خمسة فراسخ أو أربعة أو ثلاثة أو أقل حسب اختلاف الأشخاص و الأحوال و الطرق و المراكب و نحو ذلك، و كان يعدّ بنظر العرف مجموع الضرب و الإقامة الموقتة الحاصلة لتجديد القوى سفرا. فإذا قيل لهؤلاء المسافرين: إنّ العزم على إقامة العشرة أو إقامة الشهر مترددا، بحيث يقول المسافر: غدا أخرج أو بعد غد، يوجبان الإتمام كان يتبادر إلى أذهانهم من لفظ الإقامة المعنى المقابل للسير في الأرض، و كانوا يستفيدون من كلام الإمام عليه السلام أن المسافر الذي كان بحسب طبعه يسير بعضا من اليوم و الليلة و يقيم بعضا آخر إذا عرض له طارئ و قاسر خارجي فلم يتحقق منه السير في مقدار ثلاثين يوما مثلا فصرف مجموع هذا المقدار في الإقامة لجهة من الجهات وجب على هذا المسافر الإتمام بعد ما تحقق إقامة الشهر. و بعبارة أخرى: المتبادر إلى أذهان العرف من لفظ إقامة الشهر ترك شغل السير و الضرب في الأرض و التعطل عنه، بحيث يصرف جميع مدة الشهر في الإقامة و البقاء في مكان، فيرادف لفظ الإقامة قول العجم:

«لنگ كردن».

و الحاصل أن المستفاد من أخبار المسألة و لا سيما بقرينة قوله: «غدا أخرج أو بعد غد» هو إن المسافر الذي كان يتحقق منه الإقامة في كلّ يوم للاستراحة و تجديد القوي إذا حصل له شاغل خارجي فألجأه إلى أن يعزم على إقامة العشرة أو طالت

ص: 226

مدة إقامته بنفسها في منزل من منازل السفر إلى أن صارت بمقدار ثلاثين يوما وجب عليه الإتمام. و على هذا فينافي مفهوم الإقامة كل ما أطلق عليه السير و الضرب في الأرض مما هو شغل المسافرين في أسفارهم.

و لا يتوهم أنّ الاعتبار بتعطله عن إدامة السفر الذي أقام في أثنائه، فلا يضرّ بالإقامة إنشاء سفر جديد إذا لم يكن بمقدار السفر الشرعي و قصر زمانه بحيث رجع فورا.

و ذلك لوضوح أنّ الحكم القصر لم يعلق على السفر الشخصي بل على جنس السفر، و المتبادر من الإقامة التي تقابل السفر هو التعلل عن جنس السفر و الضرب في الأرض. و على هذا فيضرّ بها الخروج و لو بمقدار فرسخين مثلا و إن رجع فورا، بل الفرسخ الواحد أيضا يضرّ، إذ المعتاد بين بعض المسافرين أيضا طي فرسخ أو فرسخين في بعض الأيّام.

نعم، لا يضرّ بها الخروج إلى التوابع المتصلة التي يعدّ الكون و البقاء فيها كونا و بقاء في نفس المتبوع عرفا، و ذلك كالمزارع، و البساتين، و المناظر الطبيعية الموجودة في فناء البلد، و المشاهد، و المزارات الموجودة حوله، و إن خرج ذلك من حدّ الترخص ما لم يصدق عليه الخروج من البلد الذي هو محل الإقامة، أو من الموضع الذي أقام فيه في البادية، فلا يضرّ في البادية أيضا الخروج إلى حدود محل الإقامة و أطرافه ما لم يصدق عليه عنوان السفر و الضرب في الأرض. و لو فرض بلدة كبيرة بحيث صدق على الخروج من جانب منها إلى جانب آخر عنوان المسافرة و احتاج هذا الخروج إلى تهيئة أسباب السفر، مثل الأسفار المتحققة في خارج البلد، أضرّ هذا النحو من الخروج أيضا بصدق الإقامة التي عرفت أنّ العجم يعبر عنها ب «لنگ كردن».

هذا ما عندنا في تعريف الإقامة.

و أما القوم فالمستفاد من كلماتهم أنّهم جعلوا الإقامة عبارة عن اختيار مكان

ص: 227

مخصوص للاستراحة و البيتوتة فيه ليلا. فمن هيّأ لنفسه منزلا و أعد فيه أسبابا ليستريح فيه و يبيت فاتفق بقاؤه ثلاثين ليلة في هذا المنزل صدق على هذا الشخص أنّه أقام في هذا المنزل ثلاثين يوما و إن كان يخرج في الأيّام أو في بعضها إلى ما دون المسافة و لو بمقدار شبر مثلا لقضاء بعض الحوائج إذا كان يرجع إلى منزله ليلا للاستراحة و البيتوتة.

و يرد عليهم أنّه إذا كان الملاك في صدق عنوان الإقامة كون مكان مخصوص محلا لاستراحة و محطّا لرحله فأيّ فرق بين أن يسافر في أثنائها فيما دون المسافة الشرعية و بين أن يسافر بمقدار المسافة؟ فإذا فرضنا مسافرين وردا بلدا و جعلاه محطا لرحلهما في مدة شهر و كان يخرج واحد منهما في كلّ يوم مقدار ثلاثة فراسخ و تسعة أعشار الفرسخ، و الآخر إلى رأس الأربعة أو أزيد، و يرجعان معا في الليالي إلى منزلهما فبأيّ ملاك يطلق المقيم على الأوّل دون الثاني؟

لا يقال: السفر الشرعي يوجب القصر فيقطع الإقامة.

فإنّه يقال: المفروض ثبوت القصر في الثلاثين بنفس السفر الأوّل، و إنّما الكلام في بيان ما به يتحقق إقامة الثلاثين حتى يجب الإتمام بعد مضيها، و المفروض على مذاقكم عدم أخذ التعطل عن المسير في مفهومها بل هي عبارة عن جعل مكان مخصوص محلا للاستراحة و البيتوتة و إن حصل المسير في بعض الأيّام أو في جميعها و على هذا فلا يبقى فرق بين الخروج إلى ما دون المسافة و إلى أزيد منها و لا سيما إذا رجع فورا.

و الحاصل أن الفرق بين كلامنا و كلامهم هو أنّ إقامة الشهر مثلا عندنا عبارة عن صيرورة المسافر في هذه المدة بحيث يصرف زمن سيره أيضا في الإقامة مضافا إلى صرف زمان الإقامة فيها، فيكون الفرق بين هذا المسافر و بين غيره من المسافرين أن غيره يصرف بعض اليوم و الليلة في المسير و بعضهما في الإقامة، على اختلاف

ص: 228

أحوالهم كما عرفت، و أمّا هذا المسافر فيصرف جميع اليوم و الليلة في الإقامة إلى ثلاثين يوما، فلا يصدر عنه في هذه المدة مقدار السير الذي يحصل من المسافرين في كلّ يوم من الفرسخ و الفرسخين و الأزيد.

و أما على مذاق القوم فهي عبارة عن جعل المسافر محل استراحته و بيتوتته في مدة الثلاثين مكانا واحدا و إن حصل منه السير و الضرب في الأرض في أثنائها، فيكون الفرق بين هذا المسافر و بين غيره أنّ غيره يقيم في كلّ يوم للاستراحة في محلّ غير المحلّ الذي أقام فيه في الأمس، و هذا المسافر يقيم في مدة الثلاثين في محل واحد و إن اشتركا معا في حصول السفر منهما في هذه المدة، و قد عرفت أنّ المتبادر من الروايات و من إطلاق لفظ الإقامة بنظر العرف هو ما ذكرناه في تحديدها و لا سيما بقرينة قوله: «غدا أخرج أو بعد غد»، فتدبّر.

فإن قلت: سلّمنا أنّ الإقامة عبارة عن التعطل عن شغل المسافرة رأسا لا جعل المكان محلا للاستراحة فقط، و لكن الحكم لما كان معلقا على إقامة الشهر مثلا فما هو المضرّ بصدق التعطل فيه وجود سفر من الصباح إلى المساء مثلا في أثنائه، و أمّا وجود سفر قصير في زمان قصير فلا يضر بصدق التعطل في هذه المدة، لاستهلاك زمان السفر بالنسبة إلى هذه المدة.

قلت: التمكن من طيّ فرسخين أو ثلاثة مثلا في مدّة قصيرة بسبب الوسائل النقلية التي بأيدينا من السيارات و الطائرات لا يوجب تغيير الحكم، بل طيّ هذا المقدار من المسافة إن أضرّ بصدق الإقامة أضرّ مطلقا و إن كان في ربع ساعة مثلا، و إن لم يضر بصدقها وجب الحكم بعدم الإضرار و إن طالت المدة. فالتفكيك بين طيّه في زمان قصير بالوسائل النقلية السريعة و بين طيّه في زمان طويل مما لا يناسب الذوق الفقهي.

كيف! و لو كان الأمر كذلك لزم تأسيس فقه جديد في باب صلاة المسافر، فإنّ

ص: 229

مقدار المسافة الشرعية أعني الثمانية كانت في صدر الإسلام شاغلة لليوم و كان طيها مستلزما لصرف زمان طويل و موجبا لمشقة شديدة، مع أن طيّها بالوسائل الفعلية ربّما يكون في نصف ساعة من دون مشقة. فلو بني الأمر على مقتضيات الزمان الفعلي لزم تغيير الحدود المعينة في باب السفر و تعيين المسافة بمقدار يشغل اليوم فعلا كمائة فرسخ مثلا، و لا يلتزم بذلك أحد.

فيظهر بذلك أنّ الاعتبار في هذه الأمور ليس بما يقتضيه وضع زماننا، بل يجب على كلّ أحد أن يفرض نفسه في العصر الذي صدر فيه الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام، و من المعلوم أنّ طيّ الفرسخين مثلا في تلك الأعصار كان يتوقف على تهيئة أسباب السفر و حمل الزاد و صرف زمان معتد به، و كان هذا المعنى عندهم مباينا لمفهوم الإقامة التي أخذ فيها التعطل عن السفر، و إن كان طيّ هذا المقدار في أعصارنا أمرا عاديا غير مستلزم لتهيئة الأسباب أو لصرف زمان معتد به.

و بالجملة في المفاهيم و التحديدات الواردة في هذا الباب، بل في جميع أبواب الفقه، يجب أن نفرض أنفسنا في عصر صدور الأخبار، فما هو المتبادر بحسب وضع ذلك العصر فهو الذي يجب أن نحمل عليه المفاهيم و التحديدات الواردة فيها، فافهم.

و قد تخلص مما ذكرناه أنّ المسافر إذا خرج من محل الإقامة بمقدار لم يصدق عليه حين خروجه أنّه كائن في محلّ إقامته أضرّ ذلك بإقامته في هذا المحلّ، سواء كان خروجه بمقدار المسافة الشرعية أم لا، و سواء رجع لليلة أم لا، و سواء طالت مدة الخروج أم قصرت جدّا. و السرّ في ذلك أنّ الخروج بهذا المقدار بأنحائه ينافي صدق التعطل الذي هو مفاد الإقامة. و أمّا الخروج بمقدار لا ينافي صدق التعطل في بلد مثلا بأن يصدق عليه حين الخروج أيضا أنّه كائن في هذا البلد كالتوابع المتصلة المعدودة جزء فلا يضرّ بصدق الإقامة، سواء بلغ حد الترخص أم لا، بل و إن تجاوز عنه. نعم،

ص: 230

يمكن أن يقال: إنّ التوابع المتصلة المعدودة جزء من المحلّ تختلف سعة و ضيقا بحسب أوضاع الأزمنة و الأمكنة، فإنّ بعض أطراف البلد يكون بحيث إذ لوحظ بالنسبة إلى الأزمنة السالفة لكان الانتقال إليه متوقفا على تهيئة أسباب السفر و لكن الوسائل السريعة أوجبت عدة من أجزاء البلد و من محلاته، فالملاك أن يصير بحيث يصدق عرفا على الكائن فيه أنّه كائن في هذا البلد. هذا، و لكن الالتزام بهذا المعنى أيضا مشكل، فتدبّر.

ثم إنّه ربما يستدلّ لعدم كون الخروج من محل الإقامة مضرّا بما رواه الشيخ بإسناده عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «من قدم قبل التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصلاة، و هو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتمّ الصلاة، و عليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر.» (1)

و بما رواه بإسناده عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن أهل مكة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ «قال: نعم، و المقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم.» (2)

و بما رواه أيضا بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن علي بن مهزيار، عن محمد بن إبراهيم الحضيني، قال: استأمرت أبا جعفر عليه السلام في الإتمام و التقصير؟ قال: «إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيّام و أتمّ الصلاة.» قلت:

إنّي أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة أيام؟ قال: «انو مقام عشرة أيّام و أتمّ الصلاة.» (3)


1- الوسائل 5- 499 (ط. أخرى 8- 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- المصدر السابق 5- 527 (ط. أخرى 8- 501)، الباب 15 منها، الحديث 11.
3- المصدر السابق 5- 546 (ط. أخرى 8- 528)، الباب 25 منها، الحديث 15.

ص: 231

و لا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الروايات في غاية الضعف، فتدبّر.

هذا كله فيما إذا كان من أوّل الأمر قاصدا للخروج من محلّ الإقامة، و أمّا إذا تحققت الإقامة ثم نوى الخروج إلى ما دون المسافة فسيأتي بيان حكمه في مسألة أخرى، فانتظر.

هل يكفي في الإقامة اليوم الملفّق؟

المسألة الرابعة: هل المعتبر في اليوم في باب الإقامة بقسميها هو اليوم التامّ، أو يكفي الملفّق؟ فيه وجهان. ربما يقوى في النظر الوجه الأوّل، و لكن لا لما ذكرناه بعضهم من ظهور اليوم في اليوم التامّ و أن النصفين من يومين لا يسمى يوما، إذ يرد عليه- كما قيل- أن ما ذكرت و إن كان تصديقا للحقيقة إلّا أنّه تكذيب للعرف، حيث يفهمون من إقامة العشرة إقامة مقدارها. بل الوجه في ذلك ما ذكرناه آنفا في بيان معني الإقامة، حيث عرفت أنّه لما كان بناء المسافرين في تلك الأعصار على تقسيم كلّ يوم و ليلة و صرف مقدار منهما في المسير و مقدار منهما في الإقامة في منزل ما للاستراحة و تجديد القوى، فلا محالة كان المنسبق إلى أذهانهم من إقامة العشرة و الشهر تعطل المسافر في هذه المدّة عن شغل المسافرة بالكلية و صرفه مقدار السير من كلّ يوم أيضا في التعطل و الإقامة مضافا إلى صرف مقدار الإقامة فيها، فيكون التفاوت بينه و بين غيره من المسافرين أنّ زمن سيره أيضا يصرف في هذه المدّة في التعطل و الإقامة، بعد اشتراكه معهم في صرف زمن الإقامة فيها. و بالجملة محطّ النظر في باب إقامة العشرة و الشهر إنّما هو حصول التعطل في ساعات السير، و إلّا فساعات الإقامة باقية على حالها من كونها مصروفة فيها.

و حينئذ فإذا فرض ورود المسافر في منزل في الظهر من أوّل الشهر مثلا، و كان من قصده البقاء فيه إلى ظهر اليوم الحادي عشر ثمّ الرحيل من هذا المنزل، لم يتحقق

ص: 232

منه قصد التعطل عن شغل المسافرة عشرة أيام، بل قصد التعطل في تسعة، فإنّ يوم الورود و يوم الخروج قد صرف مقدار سير كلّ منهما في مصرفه أعني السير، و أما مقدار الإقامة منهما فهو و إن كان مصروفا في الإقامة في هذا المنزل لكنك عرفت أنّ الاعتبار في صدق إقامة العشرة أو الشهر إنّما يكون بحصول التعطل في ساعات السير من هذه المدة بعد فرض كون ساعات التعطل مصروفة في مصرفها، فالنظر إنّما يكون بساعات السير لا ساعات التعطل.

و الحاصل أن إقامة العشرة مثلا إنّما تصدق إذا لم يصرف ساعات السير في مدة العشرة في مصرفها، و هذا إنّما يتحقق في العشرة التامة، و أما اليوم الذي وقع في أثنائه الورود أو الخروج فقد صرف مقدار منه في السير، فلا يصدق التعطل عن السير في هذا اليوم، و مقتضى ذلك عدم احتساب يومي الورود و الخروج. هذا.

و لكن يمكن أن يقال بكفاية التلفيق أيضا مع ذلك، بتقريب أنّ صدق الإقامة عشرة أيام مثلا و إن كان بلحاظ التعطل عن السير في ساعاته، لما مرّ من أنّ التعطل في ساعات الإقامة مشترك فيه بين جميع المسافرين، لكن العرف يفرق بين ما إذا صرفت ساعات الإقامة في مصرفها أثناء السير بحيث تخلل بينها المسير، و بين ما إذا صرفت في مصرفها في محل إقامة العشرة بأن اتصلت الإقامة في ساعاتها بالإقامة في ساعات السير. إذ في هذه الصورة يحتسب العرف جميعا تعطلا واحدا يكون بدؤه أوّل ساعة الورود و منتهاه آخر ساعات البقاء، فيصدق على المجموع إقامة العشرة إذا كان بمقدارها، فافهم.

حكم الليلة الأولى و الأخيرة

المسألة الخامسة: لا إشكال في دخول الليالي المتوسطة، لما عرفت من اعتبار التوالي في الإقامة، و إنّما الإشكال في دخول الليلة الأولى و الأخيرة.

ص: 233

اختار في العروة عدم دخولهما، فاكتفى بإقامة عشرة أيّام و تسع ليال. (1)

و لعلّ وجهه صدق اليوم عرفا على نفيس النهار من دون أن يكون لليل دخل في صدقه. (2)

نعم، في لفظ اليوم الوارد في تحديد أقلّ الحيض و أكثره يحتمل جدا دخول الليلة في مفهومه، إذ الظاهر أنّ التحديد في باب الحيض ليس تعبدا محضا، بل هو من باب الكشف عما يقتضيه طبيعة النساء من قذف الدم في هذه المدّة، و لا ريب أنّ طباعهن لا تختلف بحسب اختلاف بدؤ خروج الدم حتى يعتبر الأيام بلياليها إن كان بدؤ الخروج أوّل الليل، و الأيّام بالليالي المتوسطة فقط إن كان بدؤه أوّل الفجر، بداهة أنّ مدة قذف الدم لا تختلف طولا و قصرا بحسب اختلاف المبدأ.

ثم إنّ المعتبر في المقام هل هو يوم الصوم حتى يعتبر من الفجر أو اليوم العرفي حتى يعتبر من طلوع الشمس؟ في المسألة وجهان، فتدبّر.

حكم إقامة التابع و المكره

المسألة السادسة: لا يعتبر في العزم على إقامة العشرة أن يكون ذلك بحسب اختياره و ميلة الطبيعي، فإن كان تابعا كالعبد مثلا و كان بانيا على المتابعة و علم عزم المتبوع على الإقامة كفى ذلك في وجوب الإتمام عليه، بل يكفي العزم الحاصل قهرا للمكره و المجبور على الإقامة إذ علما و استيقنا بقاء الإكراه و الجبر إلى العشرة.

و بالجملة الاعتبار باليقين و الجزم لا بالإرادة الناشئة من الميل الطبيعي.


1- راجع العروة الوثقى 2- 144، فصل قواطع السفر، الثاني من القواطع، المسألة 7.
2- لا يخفى أنّ مقتضى ما ذكره الأستاذ مدّ ظلّه العالي سابقا في بيان معنى الإقامة دخول الليلة الأولى أيضا، إذ المنقسم إلى مقدار السير و التعلل هو مجموع النهار و الليل لا بياض النهار فقط، و المفروض أن المعتبر في إقامة العشرة صرف زمان السير من كل يوم و ليلة في الإقامة مضافا إلى صرف زمان الإقامة فيها، فتدبّر. ح ع- م.

ص: 234

حكم إقامة الصبي

المسألة السابعة: لا يعتبر في عزم الإقامة كونه مكلّفا حين العزم، فلو عزم عليها قبل البلوغ ثم بلغ في الأثناء يتمّ و إن لم يعزم بعد البلوغ على إقامة العشرة من حينه.

و مثله المجنون إذا تحقق منه العزم. و وجه ذلك واضح.

هل يعتبر العزم على العنوان أو الواقع؟

المسألة الثامنة: هل يعتبر في العزم على الإقامة العزم على عنوان إقامة العشرة، أو يكفي العزم على ما هو بالحمل الشائع مصداق لها و إن لم يعلم حين العزم كونه مصداقا لها؟ في المسألة وجهان. يظهر من صاحب العروة اختيار الثاني، حيث عنون فيها مسألتين تتفرعان على ذلك:

الأولى: أنّ الزوجة و العبد إذا قصدا المقام بمقدار ما قصده الزوج و السيّد، و المفروض أنّهما قصدا العشرة، لا يبعد كفايته في تحقق الإقامة بالنسبة إليهما و إن لم يعلما حين القصد أنّ مقصد الزوج و السيّد هو العشرة. نعم، قبل العلم بذلك عليهما التقصير، و يجب عليهما التمام بعد الاطلاع. و إن لم يبق إلّا يومان أو ثلاثة فالظاهر وجوب الإعادة أو القضاء بالنسبة إلى ما مضى. و كذا الحال إذا قصدا المقام بمقدار ما قصدوه رفقاؤه و كان مقصدهم العشرة. إلخ.

الثانية: إذا قصد المقام إلى آخر الشهر مثلا و كان عشرة كفى و إن لم يكن عالما به حين القصد، بل و إن كان عالما بالخلاف. إلخ. (1)

و استشكل بعض المحشين في المسألة الأولى دون الثانية، مع أنّ الظاهر اتحادهما


1- راجع العروة 2- 146، فصل قواطع السفر، المسألتين 13 و 14. و المستشكل هو آية اللّٰه العظمى السيّد أبو الحسن الأصفهاني «قده».

ص: 235

بحسب المبنى و الملاك، إذ الاعتبار في قصد الإقامة إن كان بقصد العنوان لزم الحكم بعدم تحقق قصد الإقامة في كلتيهما، و إن كان بقصد ما هو مصداق لهذا العنوان بالحمل الشائع و إن لم يعلم بانطباقه عليه لزم الحكم بالتحقيق فيهما. و كيف كان فالتفكيك بين المسألتين بلا وجه.

اللهم إلّا أن يفرّق بين المسألتين بأن متعلق القصد في الثانية عبارة عما هو مصداق بالذات لإقامة العشرة، إذا الفرض تعلقه بالإقامة في زمان محدود و الفرض كونه عشرة أيّام في الواقع. و بعبارة أخرى: يكون المتعلق للقصد محدودا بالحدود الزمانية و المفروض كون الزمان عشرة في الواقع فيحصل القاطع، و هذا بخلاف المسألة الأولى، فإن القصد فيها لم يتعلق بالإقامة في زمان محدود معين بالحدود الزمانية، بل التحديد فيه بحدود خارجة من حقيقة الزمان كإقامة الزوج و السيّد و الرفقة و نحوها، فالقصد كأنه تعلق أوّلا و بالذات بتبعية الزوج و السيّد و نحوهما لا بالإقامة في مقدار من الزمان، فتدبّر.

و نظير هاتين المسألتين يتصور في باب قصد المسافة أيضا، فنظير المسألة الأولى ما إذا قصدت الزوجة مثلا متابعة زوجة في طيّ كلّ ما قصده من المسافة مع كونها جاهلة بما قصدها. و نظير المسألة الثانية ما إذا قصد المسافر المسافة المعينة الواقعة بين بلده و البلد الكذائي مع كونه جاهلا بمقدارها. و كلا البابين من واد واحد فما قيل في هذا الباب يجب أن يقال في ذلك الباب. هذا.

و لكن المترائى من أخبار الباب أن المعتبر تعلق القصد و اليقين بعنوان إقامة العشرة، كما هو الظاهر من قوله في رواية زرارة: «إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام.» و قصد البقاء بمقدار ما قصده الزوج أو إلى آخر الشهر ليس قصدا لإقامة العشرة بل قصدا لعنوان آخر تصادف مع إقامة العشرة خارجا. و بعبارة أخرى: القصد و اليقين و نحوهما من الصفات النفسانية إنّما تتعلق بمفاهيم ثابتة في الذهن متعينة فيه

ص: 236

منحازة عن غيرها، غاية الأمر أنها قد تتحد بحسب الوجود الخارجي مع عناوين أخر، و لكن لا يصير هذا الاتحاد الخارجي سببا لتعلق القصد أو نحوه بتلك العناوين الأخر، فقصد البقاء إلى آخر الشهر مثلا قصد لعنوان مشخص في الذهن مباين لعنوان إقامة العشرة مفهوما و إن كان ربما يتحدان خارجا. فليس عنوان إقامة العشرة في هذا المثال متعلقا للقصد أصلا، و إذا لم يتحقق قصد إقامة العشرة في هذا المثال لم يتحقق في الأمثلة الأخر بطريق أولى.

فتخلص ممّا ذكرناه أن الواجب في باب قصد المسافة و قصد الإقامة كليهما قصد العنوان، فتدبّر.

ثم إنّه بناء على ما اختاره في العروة من كفاية القصد الإجمالي كان اللازم في الأمثلة السابقة الحكم بوجوب الاحتياط أو الفحص، بأن تسأل الزوجة مثلا عن قصد زوجه، إذ تحتمل في بادئ الأمر أن يكون قصدها لمتابعة الزوج قصدا لإقامة العشرة فيحصل لها العلم الإجمالي بوجوب القصر أو الإتمام و مقتضاه الاحتياط أو الفحص.

و لو لم يمكن الفحص، كما إذا قصد الإقامة إلى آخر الشهر مثلا في مفازة لا يوجد فيها أحد يسأله عن مقداره، تعين الاحتياط. و على هذا فحكمه «قده» بوجوب التقصير على الزوجة و العبد قبل العلم في غير محلّه، اللهم إلّا أن يتمسك باستصحاب القصر لو لم يشترط جريانه بالفحص. ثم على فرض جريانه يكون حكمه «قده» بوجوب الإعادة أو القضاء بالنسبة إلى ما مضى بعد انكشاف الحال مبنيا على عدم إجزاء امتثال الأمر الظاهري، فافهم.

هل يعتبر في إقامة الشهر إقامة الثلاثين؟

المسألة التاسعة: قد عرفت أنّ من القواطع إقامة الشهر أو ثلاثين يوما مترددا، و هذا إجمالا مما لا إشكال فيه، و إنّما الإشكال في أنّ الاعتبار هل يكون بمقدار الشهر

ص: 237

دائما حتى يترتب عليه كفاية مقدار تسعة و عشرين يوما و إن فرض كون ما بين الهلالين أكثر، فإنّه أقلّ ما يصدق عليه اسم الشهر، أو بمقدار الثلاثين دائما حتى يجب فيما إذا أقام من الهلال إلى الهلال و كان بمقدار تسعة و عشرين يوما أن يضاف إليه يوم آخر، أو يفصّل بين ما إذا كان مقامه من أول الشهر و بين ما إذا كان من أثنائه، ففي الأوّل يكفي من الهلال إلى الهلال كيف ما كان و في الثاني يعتبر أن يكون بمقدار الثلاثين و إن فرض كون هذا الشهر الذي ورد في أثنائه تسعة و عشرين؟

في المسألة وجوه. و أمّا احتمال أن يكون لخصوص الهلال دخل في ذلك حتى يقال بأن المعتبر في حق من ورد أثناء الشهر إقامة خمسة و أربعين يوما مثلا فاحتمال ضعيف و إن كان ربما يستظهر ذلك من لفظ الشهر بتقريب أنّ الظاهر منه الشهر التام فلا يكفي الملفق.

و لا يخفى أن المذكور في جميع أخبار المسألة هو لفظ الشهر، إلّا في رواية محمد بن مسلم بأحد النقلين، حيث ذكر فيها لفظ الثلاثين. فإنّ المروي عن ابن مسلم في هذا الباب روايتان كما عرفت: إحداهما ما رواه هو بنفسه، و ثانيتهما ما رواه أبو أيوب الخزّاز. قال: سأل محمد بن مسلم أبا عبد اللّٰه عليه السلام و أنا أسمع.

و الروايتان متقاربتان مضمونا، و المظنون اتحادهما. و المذكور في الأولى لفظ الشهر و في ما رواه أبو أيوب لفظ الثلاثين.

و كيف كان ففي المسألة وجوه كما عرفت. و قد صرّح العلّامة في التذكرة (1) بكون الاعتبار بالثلاثين. و ما يمكن أن يستدل به لذلك وجوه:

الأوّل: أن لفظ الشهر الوارد في أكثر الأخبار مجمل، لتردد مفهومه بين أن يراد به ما بين الهلالين و أن يراد به الثلاثون يوما، و رواية أبي أيوب يرفع الإجمال و يبين


1- راجع التذكرة 1- 190 (ط. أخرى 4- 389) في صلاة القصر، الشرط الثالث من شرائط القصر.

ص: 238

المراد، فيجب الأخذ بها.

الثاني: أنّ الشهر مطلق له فردان، و إطلاقه و إن كان يقتضي جواز الاكتفاء بالأقلّ لكن رواية أبي أيّوب بمنزلة المقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد.

الثالث: أن الغالب في الشهر كونه ثلاثين فيحمل عليه حملا للمطلق على الأفراد الغالبة. و لأجل ذلك أيضا ينصرف إطلاق الشهر في المحاورات العرفية إلى الثلاثين.

الرابع: أنّ كون مبدأ ورود المسافر أوّل الشهر و مبدأ خروجه آخره من الاتفاقات النادرة، فإنّ الغالب كون الورود في أثناء الشهر، و لا ريب أنّ الوظيفة حينئذ هي الإتمام بعد عد الثلاثين قطعا، فيجب حمل الشهر في الأخبار على الثلاثين و إلّا لزم حمله على الأفراد النادرة، و بعبارة أخرى: لما لاحظ الإمام عليه السلام أنّ الغالب ورود المسافرين في أثناء الشهر و أن الشهر يحسب عندهم من الأثناء ثلاثين يوما قطعا صار هذا سببا لتعبيره عليه السلام عن الثلاثين بلفظ الشهر، فيكون الاعتبار بالثلاثين دائما.

الخامس: و هو عمدة الوجوه أن يقال: إنّ الاعتبار لو كان بالشهر كيفما اتفق لزم اختلاف مصحح الإتمام في الطول و القصر بحسب اختلاف زمان الورود، فيكون المصحح له في بعض الأوقات تسعة و عشرين و في بعضها ثلاثين حسب اختلاف الأوضاع الفلكية و كيفية سير القمر و نسبته مع الشمس، مع أنه من المستبعد اختلاف موضوع الحكم سعة و ضيقا باختلاف الأوضاع الفلكية، إذ الظاهر أن الحكم بالإتمام بعد المدة المعينة مستند إلى طول مدة الإقامة و أن طولها بمقدار مخصوص أوجب زوال حكم السفر، فيبعد أن يختلف ذلك باختلاف الأوضاع الفلكية و يكون في وقت طول تسعة و عشرين يوما مصححا للإتمام و في وقت آخر طول ثلاثين.

و لا يتوهم ورود النقض على ذلك بمثل عدة الوفاة، حيث حدّدت بأربعة أشهر و عشر مع أن الملاك فيها أيضا طول المدة، إذ الظاهر أن جعلها و تشريعها إنّما يكون

ص: 239

لاحترام الزوج و حفظ حريمه، و لا يخفى أن مضيّ الشهر بما هو شهر له موضوعية بنظر العرف في حصول الاحترام، فلا يكون حفظ الاحترام الحاصل بمضي أربعة أشهر و عشر بأقلّ عندهم مما يحصل بمضي مأة و ثلاثين يوما و لو فرض نقصان الشهور، فتأمل.

و أما التفصيل بين كون الورود في أوّل الشهر و كونه في الأثناء، فيكون الاعتبار في الأوّل بما بين الهلالين كيفما كان و في الثاني بالثلاثين فقط، فوجهه أن يقال: إنّ المذكور في أخبار المسألة هو لفظ الشهر، و مفهومه مبيّن عند العرف، أعني ما بين الهلالين كيفما اتفق، فيجب الأخذ به. و رواية الثلاثين لم تثبت حتى يقيد بها الأخبار الأخر، لما عرفت من الظنّ باتحادها مع ما رواه محمد بن مسلم بنفسه، و المذكور فيه لفظ الشهر، فلعل التعبير بالثلاثين كان من نفس أبي أيوب. و كان غلبة ورود المسافرين في أثناء الشهر و كون الثلاثين أظهر فردي الشهر سببا لتعبيره بذلك، و النقل بالمعنى كان أمرا شائعا بين الرواة. أو يقال: إنّ الاعتبار لعلّه كان بالشهر كيفما كان، و لكن صار هذه الأظهرية و تلك الغلبة سببين لتعبير الإمام عليه السلام عن الشهر بلفظ الثلاثين، و القيد الوارد مورد الغالب لا يقيد به الإطلاقات، فيكون الاعتبار بالشهر الوارد في أكثر الروايات.

هذا إذا كان الورود في أوّل الشهر.

و أمّا إذا كان في الأثناء فلا يمكن القول بدخالة ما بين الهلالين، و إلّا لزم كون الاعتبار في بعض الصور بإقامة أربعين أو خمسين مثلا، فلا محيص عن التلفيق حينئذ، و لا ريب أن الملفّق يجب أن يحسب ثلاثين.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ المرجع في عدد التلفيق عدد أيّام شهر الورود، فلو كان عددها تسعة و عشرين و كان الورود بعد مضيّ تسعة أيّام حصل الشهر الملفق عرفا بانقضاء تسعة أيام من الشهر القابل، فتدبّر.

ص: 240

و بالجملة في المسألة وجوه. و لو بقي الشك فيها فمقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط في اليوم الثلاثين، اللهم إلّا أن يتمسك بعمومات أدلّة القصر بناء على التمسك بها في الشبهات المفهومية، و على فرض القول بعدم التمسك بها يرجع إلى استصحاب حكم القصر لو قلنا بجريانه في أمثال هذا المقام، إذ لأحد أن يناقش في ذلك بأنّ وجوب القصر في الأيّام المتعددة ليس تكليفا واحدا، بل وجوب القصر في كلّ صلاة تكليف مستقل، فليس لنا متيقن واحد شك في بقائه حتى يستصحب، فافهم. (1)

لا يعتبر في إقامة الثلاثين مضيّها بنحو الترديد

المسألة العاشرة: لا يعتبر في قاطعية إقامة الثلاثين مضيّها بنحو الترديد و إن دل عليه بعض العبائر بل ربما يستفاد أيضا من قوله عليه السلام: «و إن لم تدر ما مقامك بها، تقول: غدا أخرج أو بعد غد.»، بل الملاك تحقق إقامة الثلاثين كيفما اتفقت إذا لم يحصل منه العزم على إقامة العشرة، فلو بقي ثلاثين يوما مع الغفلة أو عزم على إقامة التسعة مثلا و بعد انقضائها عزم على إقامة تسعة أخرى و هكذا إلى أن حصل منه الإقامة بمقدار الثلاثين يوما أتمّ بعده و إن بقي بمقدار صلاة المسافر واحدة. و هذا واضح لا سترة فيه. (2)


1- و هل يجري استصحاب بقاء الشهر و عدم تحقق القاطع؟ فيه إشكال، إذ الفرض أنّ الشبهة هنا مفهومية فليس الشك حقيقة شكا في بقاء وجود شي ء أو عدمه، بل في أنّ المراد به هذا أو ذاك و يكون على أحد المعنيين متيقن البقاء و على الآخر متيقن الارتفاع. فالاستصحاب في المقام نظير استصحاب اليوم مع الشك في كون ارتفاعه باستتار القرص أو بزوال الحمرة، و قد حقق في محلّه عدم جريانه. ح ع- م.
2- و يدلّ عليه أيضا بعض أخبار المسألة، كقوله عليه السلام في رواية أبي بصير: «و إن كنت تريد أن تقيم أقلّ من عشرة أيّام فأفطر ما بينك و ما بين شهر.» و في رواية معاوية بن وهب:

ص: 241

خروج المقيم و المارّ بالوطن موضوعي أو حكمي؟

المسألة الحادية عشرة: من المسائل المهمة أنّ خروج المقيم بقسميها و كذا خروج من مرّ بوطنه الشرعي على القول به خروج حكمي أو موضوعي.

و يترتب على الأوّل أن وظيفتهما الإتمام في الوطن و محل الإقامة من دون أن يكون المرور بالوطن أو الإقامة سببا لانقطاع سفرهما، فيضمّ ما قبل الوطن و محلّ الإقامة بما بعدهما إذا كان المجموع بقدر المسافة و إن لم يكن كلّ واحد منهما منفردا بقدرها.

و يترتب على الثاني انقطاع السفر، فيلحظ كلّ من الطرفين مستقلا.

و لا يخفى عدم جريان هذا النزاع في الوطن العرفي و إن توهّم، إذ المرور به قاطع للسفر حقيقة من دون احتياج إلى تعبد شرعي، لما عرفت في محلّه من أنّ التغرب و البعد عن المقرّ الفعلي مأخوذان في مفهوم السفر، فالمرور بالوطن العرفي يجعل السفر سفرين حقيقة، إذ لا يصدق على الإنسان حين كونه في مقره و وطنه و لو آنا ما عنوان المسافر إلّا بنحو من العناية.

و أما البقاء ثلاثين يوما مترددا فيجري فيه النزاع. و عدم تعرض الأصحاب له في هذه المسألة من جهة أنهم عنونوا المسألة في باب شرائط القصر لا في باب قواطع السفر بعد تحققه، و لا يتمشى البحث عن إقامة الثلاثين في ذلك الباب.

بيان ذلك: أنك قد عرفت سابقا أن إقامة العشرة و المرور بالوطن يمكن أن يبحث عنهما في مقامين:

الأوّل: في مقام تحديد السفر الموجب للقصر، حيث إنه يشترط في ثبوت القصر أن يكون من أوّل الأمر ناويا لمسافة لا يقطعها عزم الإقامة أو المرور بالوطن. فلو عزم على مسافة ناويا للإقامة أو المرور بالوطن في أثنائها قبل بلوغ الثمانية لم يثبت القصر أصلا.

الثاني: في مقام بيان ما يقطع السفر و يزيل حكمه بعد تحققه.

ص: 242

و البحث في المقام الأوّل يرتبط بباب شرائط القصر، و لا يتمشى البحث بهذا النحو في إقامة الثلاثين مترددا، إذ لا يعقل العزم أو لا على الإقامة في الأثناء مترددا.

و حيث إن الأصحاب عنونوا المسألة في المقام الأوّل اقتصروا فيها على ذكر الوطن و إقامة العشرة، و لم يذكروا إقامة الثلاثين مترددا، و إلّا فملاك البحث في القواطع الثلاث واحد. فما عن المحقق البغدادي (1) من الفرق بين إقامة الثلاثين و بين شقيقيه و القول بكون القاطعية في إقامة الثلاثين حكمية فقط معتذرا بعدم ذكر الأصحاب لها في قواطع السفر، في غير محلّه.

و كيف كان فمحط النظر في هذه المسألة هو أنّ قاطعية الأمور المذكورة قاطعية حكمية فقط حتى يترتب عليها وجوب القصر في الطرفين إذا كان مجموعهما بقدر المسافة، أو موضوعية حتى يترتب عليها انقطاع السفر الذي هو الموضوع للقصر و يلحظ كل من الطرفين مستقلا.

و اعلم أنّه و إن ادعى بعضهم الإجماع أو عدم الخلاف (2) في كون الخروج موضوعيا لكن الإجماع في مثل هذه المسألة غير مفيد، لعدم كونها من المسائل المأثورة و المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد، بل هي من المسائل التفريعية الاستنباطية. (3)

نعم، أصل ثبوت الإتمام في الوطن و محل الإقامة بقسميها من المسائل الأصلية المتلقاة عنهم عليهم السلام، و لأجل ذلك لم يتعرض الشيخ «قده» لمسألتنا هذه في كتاب نهاية الذي ألّفه على طريقة القدماء من أصحابنا لنقل خصوص المسائل الأصلية


1- حكاه عنه في الجواهر 14- 243، في الشرط الثالث من شروط القصر. و المراد به ظاهرا هو المحقق المقدّس، السيّد محسن بن الحسن الأعرجي الكاظمي البغدادي المتوفى 1227 ه.
2- راجع الرياض 4- 415، في الشرط الثاني من شروط القصر، و المدارك 4- 441، في الشرط الثالث منها.
3- قد مرّ توضيح ذلك في أوائل البحث عن صلاة الجمعة، فراجع. (ص 18 و ما بعدها).

ص: 243

المتلقاة عنهم عليهم السلام، و تعرض لها في مبسوطه (1) الذي ألّفه على طريقة المتأخرين من خلط التفريعات الاستنباطية بالأصول المتلقاة. نعم، ببالي أنّ ابن البرّاج أيضا تعرض للمسألة في المهذّب. (2)

و كيف كان فالمسألة من التفريعات التي يجب فيها إعمال الاجتهاد. و لا يخفى أنّ إثبات القاطعية الموضوعية لا يخلو عن إشكال، و لذا استشكل فيها بعض المتأخرين، منهم صاحب المستند، بل أراد «قده» إجراء الإشكال في الوطن العرفي أيضا، و لكنك عرفت عدم جريانه فيه. فلنذكر كلامه «قده» في المستند ثم نشرع في تحقيق المسألة.

قال في المستند ما حاصله: «أنه يشترط في شرعية التقصير أن لا يقصد الدخول في وطن له في أثناء المسافة، و لا يعزم على إقامة العشر في موضع في أثنائها. فلو قصد أحد الأمرين لم يجز له القصر في الطريق و كذا في نفس الوطن أو ذلك الموضع و لا فيما بعد ذلك الموضع ما لم ينو مسافة جديدة بعده، و لا يكفي في القصر انضمام ما بقي من المسافة بعد الانقطاع إليها قبله بلا خلاف في الجميع، كما صرّح به غير واحد، بل بالإجماع كما نقله جماعة.

و استدل له بالأخبار المستفيضة المصرحة بانقطاع السفر بوصول أحد الموضعين و وجوب الإتمام فيه.

و هو غير واف بتمام المدعى، لأنّه لا يثبت إلّا وجوب الإتمام في نفس أحد الموضعين، أمّا قبله و بعده فلا.

و لذا استدلّ لهما بعضهم بالإجماعات المنقولة، و بأنّ ما دلّ على القصر في المسافة يدلّ عليه إذا كانت المسافة سفرا واحدا و هي هنا تسار في سفرين،


1- راجع المبسوط 1- 137، كتاب صلاة المسافر.
2- راجع المهذّب 1- 107، باب صلاة المسافر.

ص: 244

و باستصحاب وجوب التمام الثابت في البلد في الأوّل و في أحد الموضعين في الثاني مدعيا أنّه ليس في إطلاق ما دلّ على وجوب القصر في المسافة عموم يشمل نحو هذه المسافة المنقطعة بالتمام في أثنائها لاختصاصه بحكم التبادر بغيرها.

أقول: يضعّف الأوّل بعدم حجية الإجماع المنقول. و الثاني بمنع تعدد السفر عرفا، فإنّه لا وجه لكون المسافة المتخللة في أثنائها إقامة تسعة أيام و نصف سفرا واحدا و إقامة عشرة أيّام سفرين عرفا. و كذا لا يفرق العرف بين ما إذا مرّ بمنزلة الذي يتوطنه، لا سيّما إذا مرّ راكبا، لا سيّما عن حواليه، و بين ما إذا لم يمرّ. و الثالث بعدم إمكان منع شمول أكثر أخبار التقصير لمثل ذلك بل الظاهر شمول الأكثر. و تسليم شمولها للمقيم في الأثناء تسعة أيام و منعه للمقيم عشرة لا وجه له.» (1)

و قال في مصباح الفقيه بعد نقل عبارة المستند ما محصله: «أنّ هذا البيان لا يجري في الوطن العرفي، إذ السفر بحسب اللغة و العرف ضدّ الحضر، و الغيبوبة عن الوطن مأخوذة في مفهومه، فهو ما دام فيه لا يندرج في قوله تعالى وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ. و المرور به يجعل السفر سفرين حقيقة. (إلى أن قال:) و أمّا الوطن الشرعي إن سلّمناه فهو بمنزلته تعبدا. و أمّا إقامة العشرة فهو أيضا كذلك، كما يدلّ عليه صحيحة زرارة على أبي جعفر عليه السلام، قال: «من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة، و هو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتمّ الصلاة، و عليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر.» و يؤيده أيضا صحيحة صفوان، عن إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن أهل مكة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ قال: «نعم، و المقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم.» و لعلّ اعتبار الإقامة إلى شهر في تنزيله منزلتهم في هذا الحكم و عدم الاقتصار بقدومه قبل التروية بعشرة أيام كما في الصحيحة الأولى بلحاظ


1- مستند الشيعة 1- 564، في الشرط الثالث من شروط القصر.

ص: 245

اشتراطه بإقامة جديدة بعد انصرافهم للزيارة». (1)

أقول: ما هو المهم في المقام ملاحظة أن أخبار الإقامة و المرور بالضيعة هل تكون بصدد بيان ما هو الوظيفة في الموضع فقط، أو بصدد بيان قاطعيتهما للسفر؟ و أن أخبار المسافة هل تشمل بإطلاقها لمثل هذا المسافة التي تخلل بينها الحكم بوجوب الإتمام أو لا؟ و لو فرض إطلاقها لمثل هذه المسافة فلا يكفي مثل روايتي زرارة و إسحاق بن عمّار لتقييدها.

فالكلام يقع في مقامين: الأوّل في أن أخبار المسافة هل تشمل بإطلاقها للمسافة التي تخلل في أثنائها إقامة العشرة أو الشهر أو المرور بالضيعة، أو لا؟ و أنهما يوجبان الإتمام في الموضع فقط، أو يوجبان انقطاع السفر و لو تعبدا؟ الثاني في أنّه على فرض شمول أخبار المسافة لمثل هذه المسافة فلا تصلح الروايتان لتقييدها.

أما المقام الأوّل فملخّص الكلام فيه أنّ محطّ النظر في أخبار الإقامة و نحوها هو بيان انقطاع السفر موضوعا، بحيث يصير الطرفان سفرين و لو تعبدا، فلا يشمل الأخبار الواردة في تحديد المسافة لهذه المسافة التي تخلل في أثنائها أحد القواطع.

و الاطلاع على ذلك يتوقف على التتبع العميق و الإحاطة بالظروف التي صدر فيها أخبار المسافة و روايات باب الإقامة و نحوها، و الاطلاع على الأمور المركوزة في أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام من جهة أنسبهم بفتاوى فقهاء العامة و ما كان مبحوثا عنه بينهم. و قد عرفت منا مرارا أنّ الاطلاع على مثل هذه الأمور له دخل تامّ في استنباط الأحكام الشرعية من الروايات الصادرة عنهم عليهم السلام الملقاة إلى أصحابهم.

و تفصيل المقام هو أنّ حكم القصر في الآية الشريفة و الروايات قد علّق على السفر و الضرب في الأرض، فمحط النظر فيها بيان حكم من يسير فيها، و لكن لمّا


1- مصباح الفقيه- 735 (كتاب الصلاة) في الشرط الثالث من شروط القصر. و الحديثان قد مضيا عن الوسائل 5- 499 و 527 (ط. أخرى 8- 464 و 501)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3، و الباب 15 منها، الحديث 11.

ص: 246

كان المتعارف في الأسفار تخلل وقوفات يسيرة في أثنائها لتجديد القوى و الاستراحة صارت هذه الوقوفات المتخللة بين كل سفر بمنزلة الجزء له عرفا و كان الحكم الثابت للسفر ثابتا لها أيضا بنظر العرف.

هذا إذا كانت مدّة تلك الوقوفات قصيرة و كان المقصود بها تجديد القوى لإدامة السير فقط، و أمّا إذا طالت مدّة الوقوف فلا يتبادر إلى أذهان العرف كونه جزء من السفر و كون حكم السفر مترتبا عليه، بحيث لو لم يكن أخبار الإقامة أيضا لم يفهم المخاطبون بآية القصر ثبوت حكم القصر بالنسبة إلى هذا القسم من الوقوفات الطويلة و كان ثبوته بالنسبة إليها مستبعدا عندهم، لعدم عدهم إياها من أجزاء السفر.

و لأجل هذا المعنى تشتت آراء أهل الرأي في تلك الأعصار في بيان حدّ الوقوف الذي ينصرف عنه إطلاق آية القصر و رواياته، و حدّه كلّ منهم بحدّ مخصوص بحسب مناسبة خاصة. فعن عائشة أنّها قالت بثبوت القصر للمسافر ما لم يحطّ رحله عن مركبة، و حدّه الشافعي بأربعة أيام سوى يومي الورود و الخروج، و أبو حنيفة بخمسة عشر يوما (1). و بالجملة كلّ منهم بعد استبعاد بقاء حكم السفر عند طول مدة الوقوف اتخذ في بيان حدّه مشربا خاصا، و كان هذا المقدار من الوقوف بنظرهم قاطعاً للسفر و موجبا لزوال اسمه، بحيث يتوقف ثبوت القصر على إنشاء سفر جديد حتى يصير به ثانيا مصداقا للآية الشريفة.

فهذا المعنى كان مركوزا في أذهان الفقهاء المعاصرين لأئمتنا عليهم السلام، و كان أصحابنا الإمامية أيضا ينبسق إلى أذهانهم هذا المعنى و لا سيما بعد اختلاطهم بهؤلاء الفقهاء، و لكنهم لما كانوا متعبدين بفتاوى الأئمة عليهم السلام راجعوهم و سألوهم عن حدّ الإقامة التي شأنها قطع موضوع السفر بعد كون أصل هذا المعنى مركوزا في


1- راجع التذكرة 1- 190 (ط. أخرى 4- 383)، في الشرط الثالث من شروط القصر، المسألة 630، و المغني 2- 132.

ص: 247

أذهانهم، ففصّل الأئمة عليهم السلام بين صورة العزم و عدمه، من جهة أنّ العزم يوجب فراغ خاطر المسافر و انصرافه عن الضرب في الأرض بالكلية، بحيث ينشى ء بعد مضي مدّة إقامته سفرا جديدا. و هذا بخلاف المتردد، فإنّه لتردده و قوله: «غدا أخرج أو بعد غد» كأنّه لم يخرج بعد من كونه مسافرا إلّا إذا طال مدّة وقوفه جدا. و بعد ما بيّن الأئمة عليهم السلام هذا المعنى انسبق إلى أذهان السائلين انقطاع السفر السابق بالكلية بعد بلوغ مدة الوقوف إلى هذا المقدار الذي ذكره الإمام عليه السلام، إذ كان أصل هذا المعنى، أعنى كون مقدار من الوقوف بحيث يوجب قطع السفر السابق، مركوزا في أذهانهم، و سؤالهم كان عن حدّه بعد كون أصله مفروغا عنه.

فبهذا البيان ربما يقطع الفقيه المتتبع المطلع على ارتكازات المخاطبين و على الظروف التي صدرت فيها الأخبار أنّ مقصود الأئمة عليهم السلام كان بيان حدّ الإقامة التي توجب قطع السفر السابق و زوال حكمه بالكلية. و على هذا يصير كل من طرفي الإقامة موضوعا مستقلا لأخبار المسافة و لا ينضمّ اللاحق إلى السابق، فافهم و اغتنم.

و أما المقام الثاني فملخّص الكلام فيه أنه لو سلّم عدم دلالة أخبار الإقامة على انقطاع السفر و شمول روايات المسافة أيضا لمثل هذه المسافة التي تخلل في أثنائها الإقامة و نحوها فلا محيص عن الأخذ بمفادها و القول بثبوت القصر في الطرفين، و لا يكفي روايتا زرارة و إسحاق بن عمّار المذكورتان في كلام الهمداني «قده» لتقييدها.

أمّا رواية زرارة فلأنّه إن أريد إثبات ذلك منها بسبب تفريعه عليه السلام ثبوت التقصير في سفر عرفات على كون المقيم بمكة بمنزلة أهلها، ففيه: أنّ هذا التفريع لا يمكن أن يؤخذ بظاهره، بداهة عدم تفرّع القصر في سفر عرفات على كون المقيم بمنزلة الأهل و كون الإقامة قاطعة للسفر موضوعا، إذ القصر ثابت في سفر عرفات على أيّ حال، سواء كان المقيم بمكة بمنزلة أهلها أم لم يكن، غاية الأمر أنّه على الأوّل يستند إلى

ص: 248

نفس السفر إلى عرفات ذهابا و إيابا، و على الثاني يستند إلى السفر الامتدادي كما لا يخفى. فلعلّ التفريع في الحديث بلحاظ الحكم بالإتمام بعد الرجوع إلى مكة لزيارة البيت و بعد الرجوع إلى منى، و إنّما ذكر السفر إلى عرفات توطئة لبيان حكم الرجوع. هذا إذا سلم كون سفر عرفات بقدر المسافة، و أما إذا لم نسلّم ذلك أو قلنا باعتبار الرجوع ليومه في السفر التلفيقي فالرواية على خلاف مطلوب المستدل أدلّ، لدلالتها حينئذ على عدم قاطعية الإقامة و انضمام الطرفين كما لا يخفى.

و إن أريد إثبات ذلك منها بعموم المنزلة الذي يستفاد من الحديث، حيث يشمل حكم القاطعية أيضا، ففيه: أنّ عموم المنزلة في المقام غير معمول به، إذ مقتضاه كون الرجوع إلى محلّ الإقامة موجبا للإتمام بلا احتياج إلى إقامة جديدة، كما هو المستفاد أيضا من التفريع الثاني في الحديث، و هذا مما لم يفت به أحد. و إذا صارت فقرة من الحديث غير معمول بها سقطت عن الحجية رأسا، إذ عمدة الدليل عليها بناء العقلاء و ليس بناؤهم على التبعيض في الحجية.

و بهذا البيان أيضا يظهر الإشكال في الاستدلال برواية إسحاق بن عمّار.

و لا يخفى أنّ كلام الهمداني «قده» بعد نقل هذه الرواية كلام مجمل لم يتحصل لنا منه معنى محصّل، فتدبّر. (1)


1- أقول: ليس في رواية إسحاق بن عمّار كون إقامة الشهر قبل سفر عرفات، فلعلّ المراد منها أنّ من رجع من عرفات إذا أقام بمكة شهرا صار بمنزلة أهلها في وجوب الإتمام عليه ما دام فيها. و وجه الاقتصار على ذكر إقامة الشهر دون العزم على إقامة العشرة أنّ من قدم قبل التروية بعشرة فهو يعزم على الإقامة غالبا لندرة خروجه قبلها، و هذا بخلاف من أتمّ أعمال الحج، فإنّ العزم على الإقامة لا يتمشى منه غالبا، حيث إنّه يقصد العود إلى وطنه، فإن حصلت منه الإقامة حينئذ كانت بلا قصد. و يظهر من عبارة الهمداني «قده» أيضا أنّه حمل الإقامة في الحديث على الإقامة بعد أعمال الحج، و لا يخفى أنّ الرواية على ما ذكرناه في معناها تصير معمولا بها، غاية الأمر أنّه يجب أن يراد بالزيارة فيها الطواف الواقع بعد أعمال مني، أو يقال بعدم إضرار الخروج إلى منى في صدق الإقامة بمكة، فافهم. ح ع- م.

ص: 249

إذا عزم على الإقامة ثمّ بدا له أن لا يقيم

المسألة الثانية عشرة: إذا عزم على إقامة العشرة ثم بدا له أن لا يقيم فمقتضى صحيحة أبي ولّاد أنه يجب عليه الإتمام ما لم يخرج إن كان صلّى قبل البداء فريضة بتمام و إلّا رجع إلى القصر.

و اللازم أوّلا تحقق ما يقتضيه أدلة قاطعية الإقامة مع قطع النظر عن صحيحة أبي ولّاد، ثم الرجوع إلى بيان مفادها.

فنقول: هل يكون مفاد أخبار الإقامة قاطعية اليقين بإقامة العشرة، أو قاطعية العزم عليها و إن لم يوجد يقين؟

و على الأوّل فلا مجال لتوهم كون اليقين طريقيا، إذ عليه يرجع الأمر إلى كون القاطع نفس إقامة العشرة، مع أن قاطعية نفس الإقامة تتوقف على انتهائها إلى ثلاثين، فيتعين كون اليقين تمام الموضوع أو جزء منه.

و أما على الثاني فهل الموجب للإتمام بالنسبة إلى جميع الصلوات هو نفس تحقق العزم آنا ما، سواء تحقق في وقت الصلاة أم لا، و سواء بقي أم زال فورا، فبتحققه آنا ما يجب الإتمام ما لم يحصل الخروج، أو هو خصوص العزم الباقي إلى وقت تعلق التكليف بصلاة تامة مثلا، سواء زال بعده أم لا، و سواء صلّاها معه أم لا، أو خصوص العزم الباقي إلى هذا الوقت مع الإتيان بصلاة تامّة معه و إن زال بعده، أو المصحح للإتمام بالنسبة إلى كلّ صلاة هو خصوص العزم الباقي إلى آخر العشرة، بحيث يكون بقاء العزم في الأزمنة اللاحقة أيضا دخيلا في صحة الصلوات السابقة بنحو الشرط المتأخّر، أو المصحح للإتمام بالنسبة إلى كلّ صلاة هو بقاء العزم إلى زمن التكليف بها و امتثاله، سواء زال بعده أم لا، فلا يضرّ زواله بالنسبة إلى الصلوات السابقة و إن أزال حكم الإتمام بالنسبة إلى اللاحقة؟

ص: 250

في المسألة وجوه. و لا يخفى أنّ كلا منها محتمل، و إن كان الأظهر من وجوه العزم هو الوجه الأخير، لأنّ تعليق الحكم على موضوع ربما يستظهر منه بقاؤه ببقائه و زواله بزواله بحيث يدور الحكم معه حدوثا و بقاء.

فإن قلت: مقتضى توقف الإتمام في كلّ صلاة على تحقق العزم حينها أن يكون المسافر في وقت كلّ صلاة عازما على إقامة العشرة، فإنّها الموضوع للإتمام، مع أنّه في اليوم التاسع مثلا لا يعزم إلّا على إقامة يوم واحد متمم للعشرة السابقة.

قلت: لا نريد بتوقف الإتمام في كلّ صلاة على العزم حينها توقفه على عزم مستقل حادث، بل المراد أن العزم الأوّل بحدوثه علّة للإتمام في أوّل العشرة، و ببقائه في وقت كلّ صلاة علّة للإتمام في هذا الصلاة. فالشرط للصلوات اللاحقة هو نفس الوجودات البقائية للعزم الأوّل. و بعبارة أخرى: العزم على متمم العشرة المقصودة أوّلا، لا العزم على عشرة تامّة سوى الأولى.

و بالجملة لو لا صحيحة أبي ولّاد لتمشي في المسألة وجوه، و أظهرها الأخير، و لكن بعد ورودها يتعين العمل على وفقها، لكونها صحيحة معمولا بها بين الأصحاب. نعم، ربما يقع النزاع في التعدي عن مضمونها. فلنذكرها ثم نشرح مفادها، فنقول:

روى الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولّاد الحناط، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّ كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيّام فأتمّ الصلاة، ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها، فما ترى لي أتمّ أم أقصّر؟

فقال: «إن كنت حين دخلت المدينة صلّيت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصّر حتى تخرج منها، و إن كنت حين دخلتها على نيتك التمام [المقام- خ ل] فلم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار، إن شئت فانو المقام عشرا و أتمّ، و إن لم تنو المقام فقصّر ما بينك و بين

ص: 251

شهر، فإذا مضى لك شهر فأتمّ الصلاة.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن أبي ولّاد. (1)

و لا يخفى أن الظاهر من تقابل القصر و الإتمام في الحديث كون المراد من قوله عليه السلام: «فريضة واحدة بتمام» الرباعية التامّة، في مقابل المقصورة، لا الفريضة التامة الأجزاء في مقابل الفاسدة. فمفاد الرواية هو أنّ نفس تحقق العزم آنا ما لا يكفي في ثبوت الإتمام ما لم يخرج، بل الذي يوجب ذلك هو العزم الباقي إلى حين الإتيان برباعية تامّة، و هذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في أنه هل يقتصر على مورد الرواية، و هو الصلاة الفريضة التامّة، أو يتعدى عنها إلى كلّ ما يتوقف صحته على انقطاع السفر كالصوم و النافلة التي لا تشرع في السفر؟

فيه وجهان. من رجوعه إلى القياس، و من أنّ المتبادر من الرواية أنّ المصحّح للإتمام هو العزم الذي ترتب عليه الأثر المترقب منه إجمالا من ثبوت أحكام الحضر بشرط أن يترتب عليه الامتثال و لو دفعة واحدة. و ذكر الصلاة من باب المثال. فبإلقاء الخصوصية يتعدى منها إلى كلّ ما يكون وزانه وزان الصلاة الرباعية في كون صحته متوقفة على انقطاع السفر.

و بعبارة أخرى: المترائى من سؤال أبي ولّاد أنّ دخوله في المدينة لم يكن في شهر رمضان، فلم يكن مبتلى إلّا بالصلاة، و لذا قال: «أن أقيم بها عشرة أيّام فأتمّ الصلاة».

فأجابه الإمام عليه السلام في مورد سؤاله بأنّ الشرط في بقاء حكم العزم هو تأثيره في الجملة، و حيث إنّ محلّ ابتلاء السائل و مورد سؤاله كان حكم الصلاة اقتصر الإمام عليه السلام على ذكرها، و إلّا فالمستفاد من الجواب بمقتضى إلقاء الخصوصية عرفا هو أنّ الملاك في بقاء حكم العزم ليس بقاء العزم إلى آخر العشرة و لا وجوده آنا ما، بل


1- الوسائل 5- 532 (ط. أخرى 8- 508)، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1، عن التهذيب 3- 221 (ط. الحجرية 1- 185)، أبواب الزيادات من كتاب الصلاة، باب الصلاة في السفر.

ص: 252

تأثيره و لو مرة واحدة فيما يتوقف صحته عليه.

و بهذا البيان يدفع ما ربما يتوهم من أنّ إطلاق الفقرة الثانية من الحديث، أعني قوله: «و إن كنت حين دخلتها على نيتك التمام فلم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام.» ينفي جواز التعدي عن الصلاة الفريضة.

و وجه الدفع هو ما أشرنا إليه من أنّ سؤال أبي ولّاد سؤال شخصي، و يظهر من سؤاله عدم ابتلائه بالصوم و إلّا لذكره أيضا. فجواب الإمام عليه السلام في كلتا الفقرتين أيضا ناظر إلى مورد السؤال و ليس بصدد بيان النفي بالنسبة إلى الصوم و النافلة. هذا.

و لكن مساعدة العرف على إلقاء خصوصية الصلاتية و التعدي عنها مشكلة جدا بعد احتمال دخالتها في الحكم. فالمرجع ما يقتضيه القواعد، فإن رجّحنا من الوجوه السابقة كفاية العزم الباقي إلى أنّ يؤثر و لو مرّة واحدة في أيّ تكليف كان كان مقتضاه كفاية الصوم و نحوه أيضا، و إلّا كان المرجع إطلاقات أدلّة القصر، لعدم خروج المسافر بصرف العزم من كونه مسافرا حقيقة. و لو أبيت عن ذلك أيضا كان اللازم هو الاحتياط بالجمع.

و ربّما يقال أن مفهوم لفظ الفريضة المذكورة في الحديث يدلّ على عدم كفاية النافلة.

و يرد عليه أيضا ما عرفت من أنّ القضية شخصية، فلعلّ ابتلاء أبي ولّاد كان بخصوص الفريضة. فالحديث ناظر سؤالا و جوابا إلى بيان حكم الفريضة، من دون نظر إلى نفي النافلة، فتدبّر. (1)

هل الرباعية القضائية تكفي في استقرار حكم العزم؟

المسألة الثالثة عشرة: هل الرباعية الموجبة لاستقرار حكم العزم يجب أن تكون أدائية، أو تكفي القضائية أيضا؟


1- سيأتي في المسألة الرابعة عشرة ما يرتبط بهذه المسألة، فانتظر.

ص: 253

لا يخفى أنّ الظاهر صحيحة أبي ولّاد و ما ينصرف إليه إطلاقها هو اعتبار كون الإتيان بالرباعية مستندا إلى العزم، بحيث لولاه أتى بها قصرا.

و بعبارة أخرى: ظاهرها كما عرفت هو أنّ المصحّح للإتمام بالنسبة إلى الصلوات الآتية العزم المؤثر فعلا في إيجاب الإتمام مع ترتب الامتثال عليه، و على هذا فإذا كانت القضائية قضاء لرباعية فاتت منه في وطنه مثلا لم تكف فيما نحن فيه، إذ الإتمام فيها ليس من آثار العزم الفعلي، و لذا يتمها و إن لم يعزم أصلا، لكون القضاء تابعا للأداء.

نعم، إن عزم من أوّل وقت الصلاة على الإقامة و بقي العزم إلى آخر وقتها بحيث استقر وجوب الإتمام عليه و لكن لم يأت بهذه الصلاة في وقتها ثم قضاها خارج الوقت ثم زال عزمه فيمكن أن يقال إنّ الإتمام في هذه الصلاة مستند إلى العزم، إذ العزم الثابت في الوقت صار سببا لاستقرار وجوب الإتمام الموجب للقضاء تماما.

فالعزم قد أثّر في إيجاب الإتمام و ترتب عليه الامتثال أيضا، و مقتضى ما ذكر كفايته في بقاء حكم العزم ما لم يخرج. هذا.

و لكن التحقيق عدم كفاية ذلك أيضا لا المجرد الانصراف، كما ادعي (1) بل لأنّ الظاهر من الحديث لزوم كون الإتمام مستندا إلى العزم بلا واسطة، بحيث يصدق أنه يتمّ لكونه عازما على الإقامة، و الرباعية القضائية ليست كذلك، إذ بعد استقرار وجوب الإتمام في الوقت يجب قضاؤها تماما، سواء بقي عزمه أم لا، بل و لو أتى بها في حال السير و السفر.

و بالجملة المتبادر من الرواية أنّ الموضوع لبقاء الحكم الإتمام ليس نفس بقاء العزم إلى زمن تأثيره في الوجوب، بل الموضوع صدور الصلاة تماما من المكلف مستندا في عمله هذا إلى العزم، بحيث لو لم يكن عازما كان يقصّر، و الفريضة


1- راجع كتاب الصلاة لآية اللّٰه العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري «قده» ص 637، الفرع الثاني.

ص: 254

القضائية ليست كذلك، إذ بعد استقرار وجوب الإتمام يجب القضاء تماما و لو في حال السفر.

و بعبارة أخرى: إمّا أن يقال بكفاية استقرار الإتمام عليه و لو لم يمتثل، كما حكاه في الجواهر (1) عن غير واحد من الأصحاب، و إمّا أن يقال باعتبار صدور العمل عنه مستندا في عمله هذا إلى العزم، كما هو المتبادر من الحديث. و أمّا القول باعتبار صدور العمل خارجا و لو قضاء فلا مجال له، إذ الإتيان بالقضاء تماما ليس مستندا إلى العزم، و لذا يتمها و لو أتى بها في السفر، و المتبادر من الحديث كون الإتمام مستندا إلى العزم و النية.

هل البداء كاشف أو ناقل؟

المسألة الرابعة عشرة: إذا عزم على الإقامة ثم بدا له قبل أن يأتي برباعية تماما، فهل يكون البداء كاشفا أو ناقلا؟ و بعبارة أوضح: هل البداء يكشف عن عدم تحقق موضوع الإتمام من أوّل الأمر، أو يوجب تبدل الموضوع من حينه؟

فيه وجهان. ظاهر أخبار العزم هو الثاني، بداهة ظهورها في أن صرف تحقق العزم يكفي في جواز ترتيب آثار الحضور و إجزاء ما يرتب عليه.

و يتفرع على ذلك فروع: منها: صحة النوافل غير المشروعة في السفر إذا أتى بها بعد العزم ثم بدا له قبل أن يأتي برباعية تامة. و منها: صحة الصوم إذا صام ثم بدا له قبل أن يأتي برباعية عمدا أو لطروء النوم أو النسيان أو نحو ذلك. و منها: وجوب الإتيان بالقضاء تماما إذا مضى عليه الوقت عازما و لم يصلّ ثم بدا له، إذ القضاء تابع للأداء و مقتضى النقل كونه في الوقت مكلفا بالإتمام.

و ربما يستدل على النقل أيضا- مضافا إلى ما استظهرناه من أخبار العزم- بأن


1- راجع الجواهر 14- 324، ذيل الشرط السادس من شروط القصر.

ص: 255

الكشف يستلزم المحال.

بيان ذلك أنك إن سلّمت بأن وجود العزم خارجا يكفي في ترتب آثار الحضور فهو، و إن أبيت ذلك و قلت إنّ الموضوع لتلك الآثار هو العزم الباقي إلى أن يترتب عليه الإتيان برباعية تامّة- بتقريب أنّ هذا هو مقتضى الجمع بين أخبار العزم على الإقامة و بين صحيحة أبي ولّاد، فعدم الإتيان بالرباعية مع زوال العزم يكشف عن عدم تحقق الموضوع من أوّل الأمر- لزم من ذلك كون وجوب الإتمام في الرباعية الأولى أيضا مشروطا بتحققها في الخارج تماما، و هو فاسد بالبداهة لا لبطلان الشرط المتأخر، فإنّ بطلانه غير واضح، حيث إنّ المعتبر في الشرط هو التقدم طبعا لا زمانا، بل لأنّ شرط الوجوب متقدم عليه طبعا، و الإتيان بالواجب متأخر عن الوجوب كذلك، فلا يعقل جعل الإتيان بالواجب شرطا لوجوب نفسه. و بعبارة أخرى: شرط الوجوب ما جعل مفروض الوجود في رتبة سابقة عليه، و الواجب ما أريد بسبب الوجوب التحريك نحوه حتى يوجد، فلا محالة يتأخر عن الوجوب طبعا، فلو جعل الواجب بوجوده شرطا لوجوبه لزم تقدم الشي ء على نفسه طبعا و هو محال.

فبهذا البيان يظهر بطلان الكشف في المقام و صحة الأعمال المأتي بها قبل البداء و وجوب القضاء أيضا تماما إذا فات منه الصلاة التامة حال عزمه. نعم، بالنسبة إلى ما بعد البداء يكون الإتيان بالرباعية دخيلا في ترتب آثار الحضور، فالرباعية الأولى شرط لاستقرار حكم الإتمام بالنسبة إلى الصلوات الآتية لا بالنسبة إلى نفسها، فتدبّر.

و بهذا البيان أيضا ربما يقرب كفاية الإتيان بصوم تامّ أو بنافلة تامة من نوافل الرباعيات في استقرار حكم الإتمام و إن بدا له، بتقريب أن صحتهما تكشف عن صحة إقامته و انقطاع سفره بها، لما عرفت من أنّ الإقامة قاطعة لموضوع السفر فيكون عوده إلى التقصير متوقفا على سفر جديد، و الرجوع عن العزم ليس سفرا،

ص: 256

اللّٰهم إلّا أن يفرّق بين العزم على إقامة العشرة مع تحققها خارجا و بين ما إذا عزم عليها و صلّى رباعية مثلا ثم بدا له، فيقال إنّ الأوّل قاطع لموضوع السفر دون الثاني، إذ ما ذكرناه سابقا في بيان كون الإقامة قاطعية لموضوع السفر هو أن حقيقة السفر عبارة عن الضرب في الأرض، غاية الأمر أنّ الوقوفات المتخللة اليسيرة أيضا تعدّ من أجزاء السفر عرفا، و لكن الإقامة إذا طالت مدتها و خرجت من كونها فانية في جنب المدة المصروفة في السير لا يساعد العرف على عدّها من أجزاء السفر، و لأجل هذا الارتكاز تشتت آراء أهل الرأي في تحديد الإقامة الموجبة لانقطاع السفر و تمييزها مما يعد جزء منه، فاختار كلّ منهم مذهبا، و أصحابنا الإمامية بعد كون هذا المعنى مركوزا في أذهانهم و أنسهم بفتاوى أهل الرأي سألوا الأئمة عليهم السلام عن تحديدها، فأجابوهم بالتفصيل بين صورة العزم و غيرها، و قد تبادر إلى أذهان السائلين من تلك الأجوبة انقطاع السفر بهما موضوعا، حيث إن أصل قاطعية الإقامة للسفر كانت مفروغا عنها عندهم و إنّما كان نظرهم في الأسئلة إلى استفسار مقدارها. و كيف كان فالتحديد في الأخبار وقع بالعشرة و بالثلاثين، فلا يجري هذا البيان في مثل ما إذا عزم على إقامة العشرة ثم بدا له، فإنّ العرف لا يستبعد كون هذا المقدار من الإقامة جزء من السفر بل يساعد على عدّها جزء منه، فلا ينسبق من صحيحة أبي ولّاد الحاكمة بترتب آثار الإقامة التامة عليها أزيد من القاطعية الحكمية، فلا يكون العود إلى التقصير متوقفا على إنشاء سفر جديد. (1)

و بالجملة مقتضى ظواهر أخبار العزم على الإقامة كون الحكم بالإتمام دائرا مداره حدوثا و بقاء، خرج من ذلك صورة الإتيان برباعية تامّة، كما يقتضيه صحيحة أبي ولّاد، و لا دليل على إلحاق غيرها بها، فيقتصر عليها، فتدبّر.


1- لا يخفى أن مقتضى هذا البيان انضمام الطرفين في هذه الصورة و وجوب القصر فيهما و إن لم يكن كلّ واحد منهما بقدر المسافة، و الالتزام به مشكل. ح ع- م.

ص: 257

حكم خروج المقيم إلى دون المسافة

المسألة الخامسة عشرة: من المسائل التي استصعبها القوم و تشاجروا فيها مسألة خروج المقيم إلى ما دون المسافة بعد ما تحقق منه الإقامة، أو ما بحكمها كما إذا عزم عليها و أتى برباعية تامّة ثم بدا له. فإذا خرج من تحقق منه الإقامة أو ما بحكمها إلى ما دون المسافة ثم رجع إلى محلّ الإقامة فإن كان حين الخروج عازما على الرجوع و إقامة جديدة أتمّ ذاهبا و عائدا و في المقصد بلا إشكال (1) إلّا على القول بكون الإقامة قاطعة حكما فقط و قد مرّ إبطاله، و أمّا إذا كان حين الخروج من محل الإقامة عازما على الرجوع إليه، من دون أن يكون عازما على إقامة جديدة بل كان ناويا للعود إلى وطنه مثلا، فعن الشيخ و متابعيه (2) وجوب القصر بصرف الخروج ذاهبا و عائدا و في المقصد و في محلّ الإقامة و بعد الخروج منه ثانيا إلى أن يصل إلى وطنه مثلا، و عن الشهيد الأوّل و متابعيه (3) متابعة الشيخ في العود و محل الإقامة دون الذهاب فحكموا فيه بالإتمام. و أما حكم المقصد فلم يصرّح به في كلام الشهيد، و لكن يمكن أن يقال:

إنّ الالتزام بثبوت الإتمام في الذهاب يقتضي الالتزام بثبوته في المقصد بطريق أولى، إذ القصر يدور مدار تحقق السفر خارجا، و المفروض عدم كفاية المسافة الذهابية في ذلك، و الكون في المقصد أيضا ليس بنفسه سفرا، فيتوقف القصر على الشروع في العود.


1- قال في مفتاح الكرامة 3- 589: «قد حكى على الإتمام في الحالات الثلاثة الإجماع في «الروض»- 399، و «المقاصد العلية»، و عليه عامّة الأصحاب كما في «الغرية». و في «كشف الالتباس» أنّه لا شك و لا خلاف فيه. و في «مجمع البرهان» 3- 440 أنّ دليله واضح لا إشكال فيه.»
2- يأتي نقل كلام الشيخ. و راجع المهذّب- للقاضي ابن البراج. 1- 109، و السرائر 1- 345، و المنتهى 1- 398، الفرع العاشر.
3- راجع البيان- 160 (ط. أخرى- 266)، و جامع المقاصد 2- 515، و غيرهما مما هو مذكور في مفتاح الكرامة 3- 595.

ص: 258

و كيف كان فالظاهر تسالم الفقهاء طرّا من عصر الشيخ «قده» إلى عصر الشهيد الثاني «قده» على ثبوت القصر في العود و محلّ الإقامة مطلقا، و إنّما وقع النزاع بينهم في حكم الذهاب و المقصد، فحكم الشيخ و متابعوه بضمّهما إلى العود و ثبوت القصر فيهما أيضا، و الشهيد الأوّل و متابعوه بعدم ضمّهما إليه. و بالجملة كانت المسألة ذات قولين فقط إلى عصر الشهيد الثاني، و من عصره حدث قولان آخران يكون كلّ منهما تفصيلا بين صور الإياب بعد اختيار الإتمام في الذهاب و المقصد: أحدهما ما اختاره الشهيد، و ثانيهما ما اختاره كثير من متأخري المتأخرين، و سيجي ء تفصيلهما. هذا.

و لكن يجب أن يعلم أنّ المسألة مع هذا التسالم المشار إليه ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد، بل هي من المسائل التفريعية المستنبطة منها بإعمال الاجتهاد و النظر، و لذا لم تذكر في الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل الأصلية المأثورة، كالمقنعة و المقنع و الهداية و النهاية و أمثالها، و أوّل من تعرض لها هو الشيخ «قده» في مبسوطه الذي صرّح بكونه موضوعا لذكر المسائل التفريعية و استنباطها من الأصول المتلقاة رغما لأنوف المخالفين و إعلاما لهم بقدرة الخاصّة على استخراج الفروع من دون احتياج إلى العمل بالقياس و الاستحسان و نظائرهما. و قد مرّ منا مرارا أنّ الإجماع- فضلا عن الشهرة- ليس عندنا حجة في المسائل التفريعية المستخرجة بإعمال النظر، و إنّما الذي نعتمد عليه هو الإجماع بل الشهرة المتحققان في المسائل الأصلية المودّعة في الكتب المعدّة لنقل خصوص المسائل المأثورة المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد. (1) و على هذا فانتظار إتمام مسألتنا هذه بالإجماع أو الشهرة في غير محلّه. و لو فرض تحقق الاتفاق أيضا في المسألة على ثبوت القصر في العود مطلقا لم يكن ذلك من الإجماع المصطلح عليه الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام.

فاللازم إتمام المسألة على طبق ما يقتضيه القواعد. و لنذكر أوّلا كلام الشيخ في المبسوط ثم نعقّبه ببيان ما هو الحق في المقام:


1- إن شئت تفصيل المقام فارجع إلى أوائل البحث عن صلاة الجمعة. (ص 18 و ما بعدها).

ص: 259

قال في المبسوط: «إذا خرج حاجّا إلى مكّة و بينه و بينهما مسافة يقصّر فيها الصلاة و نوى أن يقيم بها عشرا قصّر في الطريق، فإذا وصل إليها أتمّ. فإن خرج إلى عرفة يريد قضاء نسكه، لا يريد مقام عشرة أيّام إذا رجع إلى مكّة، كان له القصر لأنّه نقض مقامه لسفر بينه و بين بلده يقصّر في مثله. و إن كان يريد إذا قضى نسكه مقام عشرة أيّام بمكّة أتمّ بمنى و عرفة و مكّة حتى يخرج من مكّة مسافرا فيقصّر.» (1)

أقول: لا يخفى أنّ حكمه «قده» بالقصر في سفر عرفات ليس لكونه بنفسه سفرا ملفّقا من الذهاب و الإياب، بل لكونه سفرا بينه و بين بلده، كما صرح به. فيكون السفر إلى عرفات عنده «قده» من أفراد ما نحن فيه. و أنت ترى أنّه «قده» لم يعتن في المسألة بصحيحة زرارة السابقة الحاكمة بكون المقيم بمكة بمنزلة أهلها مع كونها صحيحة و لم يعتمد عليها غيره من الأصحاب أيضا، فتصير معرضا عنها، و تسقط بذلك عن الحجية إذا عرفت هذا فنقول: يجب البحث عن المسألة في مقامين:

1- في بيان حكم الذهاب و المقصد، و أنّ الثابت فيهما هو القصر كما عليه الشيخ و المعظم، أو الإتمام كما عليه الشهيد الأوّل و متابعوه.

2- في بيان حكم العود، و الإشارة إلى اختلافات المتأخرين فيه بعد البناء على ثبوت الإتمام في الذهاب و المقصد.

أمّا المقام الأوّل فملخّص الكلام فيه أنّ من خرج من محل إقامته عازما على العود إليه بلا إقامة جديدة، صار بخروجه منه مسافرا عازما على المسافة الشرعية بلا قاطع. إذ المفروض أنّه قاصد للرجوع إلى بلده مثلا بلا إقامة جديدة في الأثناء، و الإقامة السابقة قد ارتفعت حقيقة و صار محلّها بالنسبة إليه مساويا لغيره من البلدان. و على هذا فمقتضى القاعدة ثبوت القصر له بمجرد خروجه إلى أن يحصل له إحدى القواطع. هذا.


1- المبسوط 1- 138، كتاب صلاة المسافر.

ص: 260

و لكن حكم الشهيد الأوّل و جماعة أخرى بثبوت الإتمام في الذهاب و المقصد، و عمدة مستندهم في ذلك ما ادّعوه من دلالة أخبار التلفيق و ظهور الإجماع على أنّ الذهاب لا يضمّ إلى الإياب و لا يحسب جزء من المسافة المعتبرة إلّا إذا كان بمقدار أربعة فراسخ، و المفروض في المقام كونه أقلّ من الأربعة.

و في هذا الاستدلال نظر، فإنّ أخبار التلفيق و معقد الإجماع على فرض ثبوته لا تشملان المقام.

و توضيح ذلك يتوقف على إشارة إجمالية إلى مفاد أخبار المسافة، فنقول:

قد عرفت سابقا أن أخبار المسافة ثلاث طوائف:

1- ما تدلّ على أنّ التقصير في بريدين: ثمانية فراسخ، و ظاهرها الثمانية الامتدادية الواقعة بين المبدأ و المقصد.

2- ما تدلّ على أنّ التقصير في بريد: أربعة فراسخ، و هي أيضا ظاهرة في الامتدادية 3- ما تدلّ أيضا على أنّ التقصير في بريد، غاية الأمر أنّه علل ثبوت القصر فيه بأنّه إذا رجع صار سفره بريدين: ثمانية فراسخ.

فالطائفتان الأخيرتان تشتركان في الدلالة على اعتبار كون البعد المكاني الحاصل بالسفر أربعة فراسخ، غاية الأمر أنّ الثالثة تدلّ على أنّ الموجب للقصر ليس نفس الأربعة بما هي هي، بل باعتبار صيرورتها بضمّ الرجوع ثمانية. فظهور كلتا الطائفتين في اعتبار كون البعد بين المبدأ و المقصد أربعة فراسخ مما لا يزاحمه شي ء، فيجب الأخذ به. و بهذا البيان قرّبنا سابقا اعتبار كون الذهاب في المسافة الملفقة بمقدار الأربعة. و إن شئت تفصيل ذلك فعليك بالمراجعة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المقام غير مرتبط بباب التلفيق و أخباره، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في التلفيق.

توضيح ذلك أنّ المستفاد من أخبار التلفيق هو أنّ خروج المسافر من مقرّه و حضره بمقدار الأربعة إنّما يوجب القصر باعتبار أنه لا محالة يرجع إلى حضره هذا، فيصير مقدار

ص: 261

سفره ثمانية: أربعة منها مصروفة في البعد من الحضر، و البقية مصروفة في الرجوع إليه.

فمحطّ نظر أخبار التلفيق هو صورة عزم المسافر على مسافة لا يكون جميعها مصروفة في البعد من الحضر، كما في الثمانية الممتدة، بل يكون بعضها مبعدا له عن الحضر و بعضها الآخر مقرّبا له إلى هذا الحضر بعينه.

و أمّا إذا كان عازما على مسافة لا تكون كذلك، بل تكون بحيث يصير المسافر بسبب الشروع في طيّها خارجا من الحضر و يخرج الحضر أيضا من كونه حضرا بصرف الخروج منه بحيث لا يعدّ الرجوع إليه بعد الخروج منه رجوعا إلى الحضر بل يصير نسبته إلى هذا المسافر كنسبة سائر البلدان المتوسطة بين الحضرين، فهذا النحو من المسافة ليست ملتئمة من الذهاب من الحضر و الإياب، إليه بنفسه، بل تكون ممتدة واقعة بين حضرين، فلا تشملها أخبار الذهاب و الإياب، بل تكون من مصاديق المسافة الامتدادية. بداهة أنّ السفر في الصورة المفروضة كلّه ذهاب واقع بين حضرين، و لا يخفى أنّ المقام من هذا القبيل.

فإذا عزم الإنسان على أن يخرج من وطنه إلى مقصد ثم يرجع إليه كان سفره هذا ملتئما من الذهاب و الإياب و مشمولا لأخبار التلفيق و اعتبر فيه مضافا إلى كون المجموع ثمانية كون الذهاب بنفسه أربعة.

و أمّا إذا خرج من وطنه معرضا عنه بحيث خرج من الوطنية بصرف الخروج منه، أو خرج من محل إقامته الذي يخرج قهرا من كونه حضرا بصرف الخروج منه و كان عازما على المسافرة إلى مقصد لا يعزم أن يقيم فيه ثم المسافرة منه إلى وطن آخر أو محلّ آخر يعزم على الإقامة فيه- غاية الأمر أنّ سفره هذا يكون بحيث يوجب المرور إلى الوطن الذي أعرض عنه أو محلّ الإقامة الذي خرج قهرا من كونه حضرا بصرف الخروج منه- فهذا الشخص يكون عازما على الخروج من حضر إلى حضر آخر، و جميع مسافته مسافة ذهابية واقعة بين حضرين، فلا يكون سفره هذا تلفيقيا مشمولا لأخبار التلفيق، بل يكون مشمولا للأخبار التي تدلّ على ثبوت

ص: 262

القصر إذا كان الذهاب بنفسه أو الإياب بنفسه ثمانية.

فإن قلت: أخبار الثمانية ظاهرة في الامتدادية، و المسافة فيما نحن فيه ليست امتدادية و إن لم تشملها أخبار التلفيق أيضا.

قلت: ليس معنى الامتداد هنا ما يكون بصورة الخط المستقيم أو ما يقرب منه، فإذا فرض عزم المسافر على طي ثمانية نصفها من الجنوب إلى الشمال و نصفها من المشرق إلى المغرب مثلا كان سفره امتداديا قطعا و يكون جميعه ذهابا. و كذا إذا خرج من وطنه بقصد المرور على مقصد ثم الخروج منه إلى مقصد آخر و كان يستلزم خروجه من المقصد الأوّل إلى الثاني القرب من حدّ ترخص الوطن. و كذا إذا قصد مسافة تكون بصورة الخطّ المنحني و إن كان كثير الانحناء، أو نحو ذلك من الفروض.

فالمراد بالمسافة الامتدادية ما تكون واقعة بين حضرين و ما بحكمهما في مقابل ما تكون ملتئمة من الذهاب من حضر و العود اليه بعينه.

و بالجملة لو كان لنا إجماع أو دليل دالّ على عنوان أن الذهاب لا ينضم إلى الإياب إلّا إذا كان أربعة لكان لما ذكره الشهيد و متابعوه وجه، و لكن لا دليل لنا على هذا العنوان، و إنّما استظهرنا من أخبار التلفيق اعتبار كون الذهاب أربعة في الثمانية الملفقة، و هي عبارة عن كون المسافة ملتئمة من الذهاب من حضر و الإياب إليه، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإنّ الشخص بخروجه من محلّ إقامته يصير مسافرا قاصدا للثمانية، و يخرج محل إقامته أيضا من الحضرية، فليس عوده إليه عودا إلى الحضر، و لا يخرجه المرور به من عنوان المسافرة ما لم يصل إلى المقصد النهائي الذي توطنه أو عزم على الإقامة فيه. فمسافة هذه تكون بأجمعها مسافة ذهابية واقعة بين محلّ الإقامة و بين المقصد النهائي، غاية الأمر كونها بنحو الاعوجاج.

و نظير المقام أيضا ما إذا خرج من دون العزم على الثمانية، و بعد طي ثمانية فراسخ مثلا بنحو التردد عزم على أن يذهب فرسخين ثم يعود إلى وطنه الذي أنشأ منه السفر مارا في عوده على المحلّ الذي عزم فيه، فتدبّر.

ص: 263

و يمكن أن يقرب عدم شمول أخبار التلفيق للمقام و شمول أخبار الامتداد له ببيان آخر (1)، و هو أنّ أخبار الثمانية الممتدة لا تدلّ على الثمانية بشرط لا، بل على الثمانية لا بشترط من حيث الزيادة و عدمها. فمفادها أنّ السفر المشتمل على ثمانية فراسخ امتدادية يوجب القصر. و حينئذ فإذا اخرج من محلّ الإقامة إلى المقصد و منه إلى وطنه مثلا مارّا فيه بمحلّ الإقامة، و كان بين المقصد و الوطن ثمانية، ثبت حكم القصر في الإياب قطعا كما سيأتي. و الظاهر ثبوته في الذهاب و المقصد أيضا، لأنّ سفره من محلّ الإقامة إلى المقصد ليس سفرا آخر منحازا من السفر الواقع بين المقصد و الوطن، بل هو متصل به و يكون المجموع سفرا واحدا اعوجاجيا. فهذا الشخص من حين خروجه من محلّ الإقامة يصير مسافرا، و يصدق عليه هذا العنوان ما لم يصل إلى وطنه، و لا يخرج بوصوله إلى المقصد من كونه مسافرا حتى يصير سفره سفرين. و إذا ثبت كون المجموع سفرا واحدا، و المفروض اشتماله على الثمانية الممتدة، ثبت فيه حكم القصر من أوّل السفر، إذ لا يمكن الالتزام بكون السفر الواحد الشخصي محكوما بإيجاب القصر في بعض نقاطه دون بعض. فالظاهر أنّ الحق في هذه المسألة مع الشيخ و أتباعه، فتدبّر جيّدا.

المقام الثاني في بيان حكم الإياب. قد عرفت أنّ الأصحاب إلى عصر الشهيد الثاني «قده» كانوا متسالمين على ثبوت القصر في الإياب مطلقا، و إنّما كان اختلافهم في حكم الذهاب و المقصد، و كانت المسألة ذات قولين، و لكنه حديث من عصر الشهيد الثاني قولان آخران في المسألة بالنسبة إلى الإياب:

الأوّل: ما اختاره الشهيد، حيث قال ما حاصله: أنّ المقصد الذي هو دون


1- لا يخفى وجود فرق ما بين هذا التقريب و التقريب السابق بحسب النتيجة، إذ مقتضى التقريب السابق وجوب القصر و إن لم يكن من المقصد إلى الوطن ثمانية إذا كان المجموع من الذهاب إلى المقصد و العود منه إلى الوطن بمقدارها، و أمّا بناء على هذا التقريب فيعتبر في القصر كون العود بنفسه مسافة، فتدبّر. ح ع- م.

ص: 264

المسافة إن كان في الجهة المقابلة للمقصد النهائي، أعني الوطن أو ما بحكمه أو كان قريبا منها و كان محلّ الإقامة واقعة بينهما بحيث يعدّ سفره من المقصد عودا منه إلى الوطن و ما بحكمه، وجب القصر في مجموع الإياب، و إن لم يكن كذلك، بل كان المقصد الذي خرج إليه من محلّ الإقامة في طريق الوطن أو قريبا من طريقه بحيث يصير بالخروج إلى هذا المقصد قريبا من وطنه و بالعود منه إلى محلّ الإقامة بعيدا عنه، فلا يقصّر حينئذ في العود إلى محلّ الإقامة، إذ لا يعدّ العود إليه في هذه الصورة عودا إلى الوطن لكونه مبعدا عنه. (1)

و يرد عليه أنّ هذا التفصيل مبني على كون المراد بالامتداد ما يكون بصورة الخطّ المستقيم أو ما يقرب منه، و قد عرفت فساده. فالمسافة و إن كانت اعوجاجية بحيث يكون بعضها إلى جهة المقصود و بعضها إلى الجهة المقابلة تكون امتدادية ما لم تلتئم من الذهاب من حضر و الإياب إليه بعينه. و بالجملة أخبار الثمانية لا تختص بخصوص ما يكون بصورة الخطّ المستقيم و ما يقرب منه، بل تشتمل جميع المسافات الواقعة بين حضرين أو ما بحكمهما.

الثاني: ما اختاره بعض متأخري المتأخرين (2) من التفصيل بين ما إذا أعرض عن محلّ الإقامة بالكلية و خرج منه برحله و متاعه و كان مروره به ثانيا من جهة أنه منزل من منازله في سفره الجديد، و بين ما إذا لم يعرض عنه بل كان رحله و متاعه باقيا فيه و له فيه بعد شأن أو شئون، غاية الأمر أنّه خرج منه إلى ما دون المسافة لغرض موقت و بعد حصول الغرض يعود إلى محل الإقامة بما أنّه مقرّه و منه ينشى ء السفر إلى بلده بعد ما فرغ من شئونه. ففي الصورة الأولى يقصّر في الإياب مطلقا، و أمّا في الثانية فلا يقصّر إلا بعد الخروج من محلّ الإقامة ثانيا، إذ لا يعدّ خروجه من محلّ الإقامة


1- راجع نتائج الأفكار (المطبوعة مع جملة من رسائل الشهيد) ص 174، و الروض- 399.
2- راجع الجواهر 14- 375.

ص: 265

أوّلا و عوده إليه جزء من سفره الذي قصد إنشاء بعد العود إلى محلّ إقامته. هذا.

و يرد عليه أنّ ما ذكروه مبني على كون المراد بالإقامة في موضع جعله محطّا للرحل و مكانا لبيتوتة، بحيث لا يضرّ بصدق الإقامة فيه الخروج منه إلى ما دون المسافة إذا كان رحله باقيا فيه و يعود فيه لنومه و استراحته، و قد عرفت سابقا فساد ذلك و أنّ المراد بالإقامة هو التعطل عن شغل المسافرة بالكلية، و يعبر عنها بالفارسية:

«لنگ كردن» (1). و حينئذ فإذا خرج من محلّ الإقامة خرج من كونه مقيما فيه، و صار المحلّ بالنسبة إليه كسائر الأمكنة الواقعة في طريق سيره و المفروض كونه حين خروجه من محلّ الإقامة عازما على طي ثمانية لا يحصل بينها إحدى القواطع، فيصير بخروجه منه خارجا من عنوان المقيم داخلا في عنوان المسافر القاصد للثمانية فيجب عليه القصر.

فتلخص مما ذكرناه أن الظاهر ثبوت القصر في الذهاب و المقصد و الإياب و محلّ الإقامة.

هذا كلّه إذا كان عازما على عدم إقامة جديدة في محل الإقامة أو في محلّ آخر قبل بلوغ الثمانية: و أما إذا كان مترددا في ذلك أو غافلا عنه فالمسألة مبنية على أنه هل يعتبر في ثبوت القصر كون الشخص عازما على مسافة غير مقطوعة بإحدى القواطع، أو يكفي فيه العزم على المسافة مع عدم العزم على إحدى القواطع فلا يضرّ بثبوت القصر التردد في وجود إحداها؟

و حيث لم نتعرض نحن لهذه المسألة سابقا نتعرض لها هنا، فنقول:

إذا عزم على ثمانية فراسخ، و كان يحتمل من الابتداء أن يعرض له في أثنائها العزم على إقامة العشرة، أو البقاء ثلاثين يوما مترددا، أو المرور بالوطن بأن كان


1- إن شئت توضيح المقام فارجع إلى المسألة الثالثة الباحثة عن حقيقة الإقامة و حكم من يقصد من أوّل الأمر الخروج من محلها إلى ما دون المسافة. (ص 223 و ما بعدها).

ص: 266

للمقصد طريقان يمرّ أحدهما به، فهل يضرّ ذلك بثبوت القصر أو لا؟ وجهان.

و ربما يقرّب الثاني بوجهين:

1- أنّ هذا الشخص عازم على السفر ثمانية فراسخ وجدانا، و لا مانع عن تأثيره في ثبوت القصر، إذ المانع عنه تحقق إحدى القواطع خارجا، حيث إنّ القاطعية من آثار الوجود الخارجي لكلّ منها، و لا أثر للتردد في تحققها، فيجب القصر.

2- أنه إذا عزم على الثمانية من غير احتمال لعروض القاطع ثم بعد طي أربعة منها مثلا اتفق له شغل يحتمل لأجله البقاء ثلاثين يوما مترددا فهل يمكن القول حينئذ بعوده إلى التمام بصرف طروء هذا الاحتمال؟ مع أن مقتضى القول بكون الاحتمال من أوّل الأمر مضرّا كون طروئه في الأثناء أيضا مضرّا، إذ العزم كيفما كان يجب أن يكون مستمرا إلى آخر الثمانية.

أقول: و فيما ذكر نظر، إذ الموضوع للقصر ليس مطلق العزم على الثمانية، بل العزم على سفر واحد يكون بهذا المقدار. و من يحتمل طروء إحدى القواطع في الأثناء و إن كان عازما على طي الثمانية لكنه لا يعزم على طيها في سفر واحد، إذ يحتمل أن يكون طيها في سفرين مستقلين تخلل بينهما إحدى القواطع، فليس عازما على ما هو موضوع القصر.

و السرّ في ذلك هو ما ذكرناه سابقا من صيرورة القاطع و لا سيما المرور بالوطن موجبا لانقطاع السفر اللاحق عن السابق بالكلية و صيرورتهما فردين للسفر حقيقة أو تعبدا.

فالحقّ كما عليه الأكثر من مقاربي عصرنا (1) أنّ المعتبر في القصر هو العزم على ثمانية غير منقطعة بإحدى القواطع، و مع الترديد لا يحصل هذا العزم، فتدبّر.


1- راجع المدارك 4- 481، و الذخيرة- 415، و العروة 2- 151، فصل قواطع السفر، الثاني من القواطع، الصورة الخامسة من المسألة 24.

ص: 267

الخامس: أن لا يكون السفر في معصية الله

اشارة

و من شروط القصر: أن لا يكون السفر في معصية اللّٰه. و هذا إجمالا مما لا خلاف فيه عندنا، فإنّه من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد، بحيث لو لم يصل إلينا في هذه المسألة نصّ ظاهر أيضا لاستكشفنا وجود النصّ عليها من تسالم الأصحاب و تعرضهم لها في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة. كيف! و قد ورد فيها نصوص مذكورة في كتب الحديث، فلنذكرها:

1- ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيّوب، عن عمّار بن مروان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سمعته يقول: «من سافر قصّر و أفطر، إلّا أن يكون رجلا سفره إلى صيد، أو في معصية اللّٰه أو رسولا لمن يعصي اللّٰه، أو في طلب عدو أو شحناء أو سعاية أو ضرر على قوم من المسلمين.» و رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب. و رواه الشيخ بإسناده عن الكليني. (1)

2- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين، عن الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، و ذلك بريدان، و هما ثمانية فراسخ. و من سافر قصّر الصلاة و أفطر، إلّا أن يكون رجلا مشيّعا (لسلطان جائر- الإستبصار)، أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصّر و لا يفطر.» (2)


1- الوسائل 5- 509 (ط. أخرى 8- 476)، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- المصدر السابق 5- 510 (ط. أخرى 8- 477) و الباب، الحديث 4، عن التهذيب 3- 207، و الاستبصار 1- 222.

ص: 268

3- ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه، قال: «سبعة لا يقصرون الصلاة (إلى أن قال:) و الرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، و المحارب الذي يقطع السبيل.» و رواه أيضا بسند آخر. و رواه الصدوق أيضا. (1)

4- ما رواه بإسناده عن الصفّار، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن هلال، عن أبي سعيد الخراساني، قال: دخل رجلان على أبي الحسن الرضا عليه السلام بخراسان فسألاه عن التقصير؟ فقال لأحدهما: «وجب عليك التقصير، لأنّك قصدتني»، و قال للآخر: «وجب عليك التمام، لأنّك قصدت السلطان.» (2)

5- ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشّاء، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لٰا عٰادٍ قال: «الباغي: باغي الصيد، و العادي: السارق. ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّ إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين، و ليس لهما أن يقصّر في الصلاة.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن محمّد. (3)

6- ما رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه (عن أبي عبد اللّٰه- الوسائل) قال: «لا يفطر الرجل في شهر رمضان إلّا في سبيل حق.» و رواه الصدوق أيضا مرسلا. (4)


1- المصدر السابق 5- 510 و 516 (ط. أخرى 8- 477 و 486)، الباب 8 منها، الحديث 5، و الباب 11، الحديث 9.
2- المصدر السابق 5- 510 (ط. أخرى 8- 478)، الباب 8، الحديث 6.
3- المصدر السابق 5- 509 (ط. أخرى 8- 476) و الباب، الحديث 2. و الآية مكرّرة في القرآن، منها ما في سورة البقرة (2)، رقمها 173.
4- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 1.

ص: 269

و يمكن أن يقال بعدم ارتباط هذه الرواية بباب السفر، بل يكون مفاده أن الرجل المسلم لا يفطر صومه الواجب إلّا بسبيل حق و مجوّز شرعي، فتأمّل.

و لا يخفى أنّ إبراهيم بن هاشم كان كوفيّا نزل بقم، و هو أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم. و ابن أبي عمير بغدادي من وجوه الشيعة من الطبقة السادسة.

و لم نجد له حديثا يرويه عن المعصوم عليه السلام بلا واسطة إلّا حديثا واحدا في الأمالي (1)، رواه عن أبي إبراهيم عليه السلام. و يحتمل عدم كون الراوي في هذا الحديث ابن أبي عمير المعروف، إذ الإمام عليه السلام خاطبه بقوله: «يا أبا أحمد»، و التعبير بالكنية كان للكبار، و ابن أبي عمير المعروف كان في عصر أبي إبراهيم عليه السلام من الصغار. و كيف كان فروايات ابن أبي عمير معتمد عليها عند الأصحاب و إن كانت مرسلة، و منها هذه الرواية.

فهذه ست روايات في باب سفر المعصية، فلنشرع في تنقيح موضوعها و بيان أقسامه و أحكامه: فنقول:

السفر قد يكون بنفسه معصية كما إذا تعلّق النهي بعنوان متقوّم بالسفر كالفرار من الزحف و تشييع السلطان الجائر و نحوهما، و قد لا يكون بنفسه معصية و لكن يكون المقصود منه غاية محرمة، بحيث يكون السفر في نظر هذا المسافر فانيا في هذه الغاية المحرمة منظورا إليه بالنظر الآلي، و ذلك كالسفر بقصد السرقة أو المحاربة أو نحوهما، فإنّ السفر في هذه الأمثلة و إن لم يكن بنفسه محرما لكن لمّا كان المقصود منه غاية محرمة و كان نظر المسافر إليه نظر إليه نظرا طريقيا بحيث يعدّ بنظر العرف شروعه فيه شروعا في المعصية ثبت لهذا السفر أيضا حكم سفر المعصية.

فهذان قسمان لسفر المعصية.


1- لم نظفر بالحديث في الأمالي، و لكنه موجود في «التوحيد» ص 76، باب التوحيد و نفي التشبيه، رقمه 32. و راجع مسند الإمام الكاظم عليه السلام 3- 503، كتاب الرواة عنه عليه السلام.

ص: 270

و استفادة حكم الثاني منهما من أخبار الباب بلا إشكال إذ الأمثلة المذكورة في رواية عمار بن مروان يلتقط منها العموم قطعا لكل ما يكون غايته محرمة، للقطع بعدم دخالة الخصوصيات المذكورة فيها، و العموم الملتقط بنحو القطع حجة جزما، و لعل مراد القدماء من الاستقراء الذي عدوه من الأدلة أيضا هذا المعنى.

و أما القسم الأوّل فربّما نوقش في شمول الأدلة له، كما نسب إلى الشهيد الثاني. (1)

و لكن المناقشة فيه في غير محلّها، إذ يصدق عليه أيضا أنه سفر في معصية اللّٰه، مضافا إلى أنّ مشيّع السلطان المذكور في خبر سماعة من مصاديق هذا القسم، و من المقطوع فيه عدم دخالة خصوصية ذلك بل يلتقط منه العموم.

و بالجملة وجوب الإتمام فيما إذا كان السفر بنفسه محرّما أو كانت غايته محرمة مما لا ريب فيه.

و أما إذا لم يكن كذلك و لكن كان مضادّا لواجب، كما إذا وجب على المكلف حضور الجمعة أو أداء الدين أو تعلم الواجبات الشرعية فسافر، فهل يقال بوجوب الإتمام و لو قيل بعدم اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضده من جهة أنّ استلزامه لترك الواجب يوجب اندراجه في المعصية عرفا و إن لم يكن بالدقة العقلية من المحرمات الشرعية، أو يقال إنّ الظاهر من قوله عليه السلام:

«في معصية اللّٰه» كونه بنفسه معصية أو واقعا في طريق المعصية بحيث يعدّ الشروع فيه شروعا فيها و أمّا إذا كان بنفسه بما هو هو مباحا و لم يكن واقعا في طريق المعصية أيضا فلا يصدق عليه بحسب نظر العرف «أنه في معصية اللّٰه» و إن قيل باقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن ضدّه بحسب الدقة العقلية، أو يقال بدوران المسألة


1- راجع الروض- 388، (ذيل الشرط الخامس من شروط القصر).

ص: 271

مدار مسألة الضدّ؟ في المسألة وجوه.

و الحق أن يقال: إنّه إن قصد بسفره الفرار من الواجب بحيث كان الفرار منه بمنزلة الغاية لسفره صدق على سفره أنه في معصية اللّٰه، إذ المعصية أعمّ من فعل الحرام و ترك الواجب، و المفروض كون ترك الواجب غاية لسفره، و أمّا إذا لم يقصد بسفره ذلك بل كان ملازما لترك الواجب من باب الاتفاق فلا وجه للحكم بحرمة سفره و وجوب الإتمام عليه، لعدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. و مثل ذلك ما إذا كان السفر بحسب الاتفاق ملازما لفعل الحرام من دون أن يكون بحسب القصد غاية له، إذ لا يصدق عليه حينئذ أنه في معصية اللّٰه تعالى.

و لو لم يكن السفر بما هو سفر محرّما و لكن اتحد معه أو لازمه عنوان آخر محرم، كما إذا كانت الجادّة ملكا للغير أو كان المركوب مغصوبا أو لبس ثوبا مغصوبا أو استصحب مال الغير بنحو يتحركان بحركته، فهل يتمّ أو يقصّر؟

وجهان.

و التزم في الجواهر (1) بالإتمام حتى فيما إذا كان نعل دابته أو رحلها مغصوبا.

و غاية ما يمكن أن يقال في تقريبه أمّا في المثال الأوّل فهو أن نفس حركة المسافر التي ينتزع عنها عنوان السفر تقع فيه مصداقا للتصرف في مال الغير، فيتحد عنوان السفر و العنوان المحرم وجودا و إن تخالفا مفهوما. و أمّا في الأمثلة الأخر فهو أن الحركة القائمة بنفس المسافر التي ينتزع عنها عنوان السفر و إن كانت بحسب الوجود مغايرة للحركة القائمة بالثوب أو المركوب أو نحوهما إلّا أنّ حركة المسافر لما كانت علة لحركة الثوب و نحوه و كان صدورهما عن المكلف بإصدار واحد صدق على سفره هذا بجهة انتسابه إليه أنه سفر في معصية اللّٰه، لكون إصداره بعينه إصدارا للمعصية التي هي عبارة عن حركة الثوب أو المركوب أو نحوهما.


1- راجع الجواهر 14- 260، (ذيل الشرط الرابع من شروط القصر).

ص: 272

أقول: يرد على ذلك أن حركة الثوب و نحوه و إن كانت معلولة لحركة المسافر و كان انتسابهما إليه بسبب إصدار واحد إلّا أن عنوان التصرف العدواني لا ينتزع عن حركة الثوب و نحوه بل عن تلبس الثوب و محاطيته له سواء صدر عنه الحركة الموجبة لحركة الثوب أم لا. و كذلك نفس ركوب الدابة ينتزع عنه كونه تصرفا فيها من غير دخل للحركة في ذلك. و توهّم كون الحركة تصرفا زائدا على التصرف البقائي الحاصل ببقاء الركوب أو التلبس، توهم فاسد، لاستلزامه كون المتحرك مرتكبا لمعصيتين، و هو كما ترى.

و يرد هذا الإشكال بعينه في الجادة المغصوبة أيضا، فإنّ الكائن في الأرض المغصوبة إنّما ينتزع العنوان المحرم من نفس كونه فيها بوجوده البقائي بلا دخل للحركة في ذلك. هذا.

و لكن الظاهر مع ذلك ثبوت الفرق بين هذا المثال و بين الأمثلة السابقة، من جهة أنّ الكون في المثال قد وجد بنفس الحركة القائمة بنفس المسافر و تكون هي بنفسها أيضا منشأ لانتزاع عنوان السفر، فاتّحد التصرف العدواني المحرّم مع عنوان السفر وجودا، و هذا بخلاف الأمثلة السابقة، فتدبّر.

و الظاهر أنه لا فرق في الجادة المغصوبة بين صورة الانحصار و غيرها، و إن كان المستفاد من حاشيتنا على العروة وجود الفرق بينهما.

و وجه الفرق أنّه في صورة عدم الانحصار ليس نفس السفر محرما و إنّما المحرم فرده الخاصّ.

و يرد عليه أنّه لا دخل لذلك في المقام، إذ الملاك اتحاد السفر وجودا مع العنوان المحرم حتى يصير السفر بوجوده مصداقا للمعصية، و في صورة عدم الانحصار أيضا حيث إنّ المسافر باختياره للطريق المغصوب أوجد سفره بنحو اتّحد مع المحرم وجودا و هوية صار سفره هذا مصداقا لقوله عليه السلام: «في معصية اللّٰه»، و إن كان يقدر أن

ص: 273

لا يوجده كذلك.

و قد تلخّص مما ذكرناه أنّ السفر إن كان بنفسه معصية للّٰه تعالى أو كانت غايته معصية وجودية كانت أو عدمية لم يوجب القصر، بخلاف ما إذا كان مقارنا للمعصية الوجودية أو العدمية فلا يضرّ ذلك بثبوت القصر، فافهم. (1)

و ها هنا سبع مسائل
حكم ما إذا كان بعض السفر معصية.

الأولى: إذا سافر لغاية مباحة ثم عدل في الأثناء إلى المعصية، أو سافر لغاية محرمة ثم عدل في الأثناء إلى الطاعة، فهل يثبت القصر في مجموع هذا السفر


1- و جملة الأقسام المتصورة أن السفر إمّا أن يكون بعنوانه محرّما كما إذا قال المولى لعبده:

ص: 274

أو الإتمام في مجموعه أو يتبعض؟

في المسألة وجوه. و الأقوى هو الأخير.

و يوجّه الأوّل بأنّ أدلّة القصر في السفر مطلقة، و غاية ما خرج منها صورة كون مجموع السفر معصية للّٰه تعالى، فيبقى غيرها داخلا تحت عمومات القصر.

و يوجه الثاني بأن مقتضى أخبار الباب كون موضوع القصر مقيدا بعدم كونه معصية للّٰه تعالى، و السفر المبعّض سفر واحد يصدق عليه عنوان العصيان و لو باعتبار جزئه. و إن شئت قلت: إنّ المستفاد من أخبار الباب أنّ القصر مشروط بكون السفر سائغا شرعا فلا يشمل المبعّض.

و يوجه الثالث بأنّ الظاهر من أخبار الباب تقسيم المسافر الذي يريد الصلاة أو الصوم إلى قسمين: 1- أن يكون سفره في معصية فيتمّ. 2- أن لا يكون كذلك فيقصّر. و المتبادر من هذا المعنى أنه يجب عليه ملاحظة حاله وقت الصلاة و الصيام، فإن كان عاصيا بسفره أتمّ و إلّا قصّر، ألا ترى أنّ ضمّ أدلة التقصير في السفر إلى الأدلّة الأوّلية يقتضي تقسيم المكلف المريد للصلاة مثلا إلى قسمين و أنه يجب عليه في وقت كلّ صلاة لحاظ حالته الفعلية، فإن كان في هذا الوقف في سفر قصّر، و إن كان في حضر أتمّ، فكذلك الأمر فيما نحن فيه. و بالجملة السفر المبعّض يتبعض بحسب الحكم أيضا.

ثم إنّ هذا القسم من السفر على أقسام: إذ قسمة الطاعة منه مع قطع النظر عن قسمة المعصية إمّا أن تكون بقدر المسافة الشرعية أو لا، و على الأوّل فإمّا أن تكون قسمة الطاعة في أوّل السفر أو في آخره أو في الطرفين.

فهذه أربعة أقسام:

الأوّل: أن لا يكون قسمة الطاعة منه بنفسها مسافة و لكن كان المجموع بقدرها.

و الوجوه المتصورة فيه كما أشرنا إليه ثلاثة:

ص: 275

الأوّل: أن يقال بثبوت القصر في المجموع، بتقريب أنّ غاية ما يستفاد من أخبار سفر المعصية- و لا سيما بقرينة الموارد المذكورة فيها من مشيّع السلطان و المحارب و نحوهما ممن يستبعد جدا حصول التبدل في عزائمهم- هو ثبوت الإتمام على من كان جميع سفره في معصية اللّٰه، فيبقى غيره مشمولا لإطلاقات أدلة القصر على المسافر الثاني: أن يقال بثبوت الإتمام في قسمة المعصية، و القصر في غيرها و إن لم يكن لنفسه مسافة.

أمّا الأول فلأنّ المستفاد من أخبار الباب بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ العاصي لكونه عاصيا و كون مسيره مسير باطل لا يستحق للإرفاق فلا يثبت له القصر الثابت لسائر المسافرين إرفاقا، و لا فرق بين كون السفر بأجمعه محرما و بين كونه ببعضه كذلك بعد ظهور الروايات في كون الملاك لعدم الترخص هو سوء نية الرجل. و بالجملة المستفاد من الأخبار دوران الترخيص وجودا و عدما مدار كون السفر في معصية أو لا في معصية.

و أمّا الثاني فلأنّ المستفاد من أخبار الباب ليس إلّا ثبوت التخصيص في ناحية الحكم و أن وظيفة المسافر تختلف بحسب حالاته، من دون أن يتحقق تقييد في ناحية الموضوع. و بعبارة أخرى: ليس موضوع القصر عبارة عن الثمانية التي لا تكون معصية حتى يخرج منه هذا الفرد بالكلية، بل الموضوع له بحسب الأدلّة هو الثمانية المقصودة و المفروض تحققها في المقام غاية الأمر أنّ المستفاد من أخبار المسألة عدم ثبوت الترخيص له في حال عصيانه، فيكون سفر هذا الشخص من مصاديق موضوع القصر و يوجب ثبوته له بالنسبة إلى غير حالة العصيان، فتدبّر.

الثالث: أن يقال بثبوت الإتمام في المجموع، أمّا في قسمة المعصية فلما عرفت.

و أمّا في قسمة الطاعة فلأنّ المفروض عدم كونها بنفسها مسافة، و تتميمها بقسمة

ص: 276

المعصية مناف لأخبار الباب، إذ المستفاد منها أن موضوع القصر هو المسير الحق و أن المسير الباطل لا يوجب القصر و لا يكون سببا له لا بنحو العلية التامة و لا بنحو الجزئية لها، فوجوده و عدمه سواء لا كرامة فيه أصلا. و بالجملة بعد ضمّ أخبار الباب إلى أخبار المسافة يتحصل من المجموع أنّ موضوع القصر ليس مطلق الثمانية، بل طي الثمانية بشرط أن لا يكون مسير باطل و أن يكون في سبيل حق و نحو ذلك من التعبيرات الواردة في الروايات.

فإن قلت: سلّمنا ظهور الأخبار في أنّ سفر المعصية لا يؤثّر في ثبوت القصر من جهة أنّ فاعله لا يستحق للإرفاق، لكن الظاهر منها أنه بنفسه لا يوجب القصر و لا يكون علة لثبوته، و أمّا كون وجوده كالعدم، بحيث لا يصير جزء للسبب أيضا، فلا يستفاد من الأخبار. فبضمّ قسمة المعصية إلى قسمة الطاعة يصير المجموع علة لثبوت القصر في حال الطاعة.

قلت: ليس قسمة المعصية بالنسبة إلى ثبوت القصر في حالها علّة تامة و بالنسبة إلى ثبوته في حال الطالعة جزء من العلة حتى يقال: إنّ ما دلّ عليه الأخبار نفي العلية التامة لا الناقصة، بل هي بالنسبة إلى ثبوت القصر في حالها أيضا جزء سبب، إذ الموضوع للقصر هو مجموع البريدين، فكلّ جزء فرضت منهما فنسبته إلى جميع الصلوات الواقعة حال طيّهما على حدّ سواء، بمعنى أن كلّ جزء من أجزاء البريدين جزء سبب لثبوت القصر بالنسبة إلى كلّ واحدة من الصلوات الواقعة في حال طيّهما. و على هذا فإذا سلّمت عدم تأثير قسمة المعصية في ثبوت القصر بالنسبة إلى حال المعصية فعليك أن تلتزم بعدم تأثيرها فيه أصلا، لما عرفت من أنّ دخالتها في الجميع إنّما تكون بنحو الجزئية للسبب، فتأمّل.

و لنا أن نقرّب الوجه الثالث ببيان آخر أيضا، و هو أن يقال: إنّ الصلاة بحسب طبعها و وضعها تامة، فلا يحتاج ثبوت الإتمام فيها إلى موجب، و إنّما القصر يتوقف

ص: 277

على علة تقتضيه و توجبه، و قد دلّت الأخبار على أن سفر الثمانية علة له ثم وردت أخبار أخر دالّة على أن حيثية العصيان تمنع السفر عن تأثيره في القصر الذي شرّع إرفاقا، فيثبت حكم الإتمام للعاصي لا من جهة كونه أثرا للعصيان بما هو عصيان بل من جهة كونه أصلا في الصلاة، فيثبت بعد ما لم يؤثر موجب القصر أثره.

و بالجملة مفاد أخبار الباب هو كون حيثية العصيان مانعة عن تأثير السفر في إيجاب القصر الذي شرّع للإرفاق، و مقتضى ذلك كون وجود السفر في هذا الحال كالعدم بالنسبة إلى هذا التأثير، سواء لوحظ بالنسبة إلى الصلوات الواقعة في زمانه أو بالنسبة إلى الصلوات الأخر، فافهم.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن قسمة الطاعة بنفسها مسافة، و قد عرفت أن الوجوه المحتملة فيه ثلاثة، و الأقوى هو الوجه الثالث.

القسم الثاني: أن يكون قسمة الطاعة بنفسها مسافة و يكون مجموعها في أوّل السفر. و الظاهر ثبوت القصر في قسمة الطاعة و الإتمام في قسمة المعصية، و وجههما واضح. (1)

و منه يظهر حكم القسم الثالث أيضا، أعني كون قسمة الطاعة بنفسها مسافة مع وقوعها في آخر السفر.

القسم الرابع: أن يكون قسمة الطاعة بنفسها مسافة و تكون واقعة في الطرفين.

و لا إشكال في ثبوت الإتمام في الوسط، و إنّما الإشكال في الطرفين إذا لم يكن كلّ


1- لا يخفى أنّ مقتضى اختياره (مدّ ظلّه) في القسم الأوّل ثبوت الإتمام مطلقا كون التقييد بعدم العصيان ملحوظا في ناحية موضوع القصر، أعني السفر، لا في جانب الحكم، فأخبار الباب ناظرة إلى أخبار المسافة، و تبيّن أنّ موضوع القصر هو المسافة التي لا يكون سيرها باطلا، و لازم ذلك ثبوت القصر في القسم الثاني حتى في قسمة المعصية، لأنّ موضوع القصر قد تحقق في بادئ الأمر، و بحصوله يثبت الحكم ما لم يحصل إحدى قواطع السفر، و المفروض أنّ حيثية العصيان لا تصرّف لها في ناحية الحكم، فتدبّر. ح ع- م.

ص: 278

واحد منهما مسافة و لكن كان المجموع بقدرها، فهل يضمّ الطرفان أو لا؟

نسب الأوّل إلى الشيخ و الصدوقين و جماعة، (1) و الثاني إلى العلامة في القواعد، (2) فاعتبر في ثبوت القصر كون الباقي بعد العود إلى الطاعة مسافة.

و يوجّه الأوّل أوّلا بأن إطلاق أخبار المسافة يشمل الثمانية المتصلة و المنفصلة.

و ثانيا بأن غاية ما يستفاد من الأخبار هو اعتبار وحدة السفر و اتصاله، بمعنى عدم تخلل ما يقطع السفر و يجعله سفرين كالمرور بالوطن و نحوه، و أمّا اتصال الثمانية بنحو الإطلاق فلا دليل على اعتباره، و المفروض في المقام أنّ طي الثمانية قد تحقق في سفر واحد، حيث إنّ قسمة المعصية المتخللة ليست خارجة من السفر، فمجموع الطرفين و الوسط سفر واحد حقيقة، غاية الأمر وقوع التخلل بين ما يوجب القصر منه بما ليس خارجا من جنسه، و لا دليل على كون ذلك مضرّا بعد إطلاق أخبار المسافة، فتدبّر.

و يوجّه الثاني بأن المتبادر من أخبار المسافة اعتبار كونها بنحو الاستمرار و الاتصال، و المفروض في المقام تخلل قسمة المعصية بينها و عدم كونها محكومة بأحكام السفر شرعا.

حكم تبدّل قصد المسافر

المسألة الثانية: إذا سافر بقصد الطاعة ثم عدل عنه إلى قصد المعصية في منزل من منازل السفر، أو سافر بقصد المعصية ثم عدل إلى قصد الطاعة كذلك، فهل يكون المنزل بحسب الحكم تابعا للسابق أو اللاحق؟

فيه وجهان: من أنّ النازل في منزل و إن لم يكن متصفا بالسير لكنه متصف


1- راجع النهاية- 124، و الفقيه 1- 452، و المعتبر 2- 472، و الذكرى- 260، (في الشرط الرابع من شروط القصر).
2- راجع القواعد 1- 50، (في الشرط الخامس).

ص: 279

بوصف السفر الذي هو عبارة أخرى عن البعد عن الوطن و لذا يحكم عليه بأحكام المسافر. و على هذا فإذا تبدّل قصده وجب عليه العمل بالوظيفة اللاحقة.

و من أنّ السفر حقيقة هو السير المبعد عن الوطن، و النازل في منزل للاستراحة لا يتصف بوصف المسافرة باعتبار كونه بالفعل مشغولا بإيجاد فعل السفر، و لا باعتبار السير اللاحق لعدم تلبسه به بعد، بل باعتباره كونه في السابق مشغولا بالسير المبعد عن الوطن و بقاء البعد الحاصل به. و على هذا فكما يكون انطباق هذا العنوان عليه فعلا بتبع السابق فكذلك يكون تابعا له بحسب الحكم. فمن كان في أوّل سفره بقصد الطاعة مثلا ثم تبدّل قصده في أحد المنازل لا يصدق عليه كونه مسافرا في معصية اللّٰه و كون مسيره مسير باطل ما لم يسافر من هذا المنزل و لم يخرج منه بالقصد الطارئ، فكيف يحكم عليه بحكم سفر المعصية. هذا.

و لكن يتوجه على هذا البيان ما أشير إليه من منع كون السفر عبارة عن خصوص السير في الأرض و كون إطلاقه على الإقامة بتبع السير السابق، بل الحقّ أنه عنوان ينطبق على مجموع السير و الإقامات المتخللة في أثنائه. فالشخص في حال الوقوف في أحد منازل السفر أيضا يصدق عليه عنوان المسافر حقيقة من دون نظر إلى السير السابق أو اللاحق، إذ الملاك في صدقه ليس إلّا البعد عن الوطن، و هو حاصل في حال الوقوفات المتخللة أيضا. و إذا صدق عليه في هذا الحال عنوان المسافر- و المفروض أيضا تبدّل قصده و تبدل العنوان أيضا بسبب تبدّله- صار بحسب الحكم تابعا للعنوان الطارئ من المطيع أو العاصي، فافهم.

و لقائل أن يقول بثبوت الإتمام في كلا الفرضين. و بيان ذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، و هي أنّ الأصل في الصلاة بحسب وضعها و طبعها هو الإتمام، و القصر يتوقف على مئونة زائدة و مقتض خارجي، و إتمام العاصي بالسفر أيضا ليس لجهة العصيان بأن يكون عنوان العصيان مقتضيا للإتمام، بل غاية ما في الباب أن طروء هذا العنوان

ص: 280

يمنع عن تأثير مقتضى القصر في مقتضاه، فإذا لم يؤثّر مقتضى القصر ثبت الإتمام الثابت بحسب الأصل الأولي. و بالجملة الإتمام ثابت في الصلاة بحسب طبعها ما لم يحصل موجب القصر و لم يؤثر أثره.

إذا عرفت هذا فنقول: أمّا العاصي بسفره إذا تبدّل قصده إلى الطاعة في المنزل فهو يتم، و لكن لا لما توهّم من أنّ صدق عنوان السفر على الإقامة المتخللة إنّما يكون بتبع السير السابق فتتبعه في الحكم أيضا، إذ يرد على هذا البيان أن تبدل القصد يوجب اختلاف الإقامة مع السير السابق بحسب العنوان، بل لأنّ هذا الشخص و إن زال عنه عنوان العصيان لكن الإتمام لم يكن باقتضاء هذا العنوان حتى يرتفع بارتفاعه، بل كان بحسب وضع الصلاة و طبعها بعد ما صار العصيان مانعا عن تأثير مقتضى القصر في مقتضاه. و بعد تبدل القصد و إن زال هذا المانع لكن المفروض زوال موجب القصر أيضا، فيثبت الإتمام الثابت بالأصل.

و إن شئت قلت: إنّه في حال السير وجد مقتضى القصر و لكن لم يؤثر أثره لوجود المانع، و في حال الإقامة و إن ارتفع المانع لكن لا يوجد المقتضي أيضا، لعدم تلبسه بعدم بسفر الطاعة، فيثبت الإتمام الثابت بحسب طبع الصلاة.

و أما المطيع بسفره إذا تبدّل قصده إلى المعصية في المنزل فهو أيضا يتمّ، إذ بتبدّل قصده يخرج المنزل من كونه تابعا للسابق، فيثبت الإتمام، لا أقول إنّ العصيان يقتضي الإتمام، بل أقول إنّ الإتمام ثابت بحسب طبع الصلاة ما لم يثبت موجب القصر، و المفروض في المقام عدم تلبسه بالسفر الموجب له، أو نقول: سلّمنا أنه في حال الإقامة أيضا متلبس بالسفر و يصدق عليه عنوان المسافر، و لكنه إذا كان طروء عنوان العصيان في حال السير يمنع عن تأثير السفر في القصر ففي حال الإقامة يكون مانعا بطريق أولى.

اللّٰهم إلّا أن يقال إنّ مقتضى هذا البيان ثبوت القصر في الفرض الأوّل، حيث

ص: 281

إنّك سلّمت كون المسافر في حال الإقامة أيضا متلبسا بالسفر، و المفروض في ذلك الفرض تبدل قصده من المعصية إلى الطاعة، فيثبت مقتضى القصر و يرتفع مانعه فيجب الحكم بثبوته، فتأمّل.

حكم حال الرجوع من سفر المعصية

المسألة الثالثة: إذا سافر لغاية محرمة فهل يقصّر في حال الرجوع منه كما اختاره في الجواهر (1)، أو يتمّ، أو يفصّل بين ما إذا تاب بعد ارتكاب المعصية و بين ما إذا لم يتب، أو يفصّل بين ما إذا انصرف من قصد المعصية قبل ارتكابها و بين غيره؟ في المسألة وجوه.

و يوجّه الأوّل بأن الإتمام كان دائرا مدار كون السفر بنفسه معصية أو كون غايته محرمة، و كلاهما منتفيان في حال الرجوع إلى الوطن مثلا. أمّا الأوّل فواضح، و أما الثاني فلأنّ غاية الشي ء لا تتقدم عليه خارجا، فالعصيان المتحقق في المقصد لا يعقل أن يكون غاية للرجوع. و بعبارة أخرى: موضوع الإتمام كون السفر بنفسه معصية أو كونه واقعا في طريق المعصية بحيث يعدّ الشروع فيه شروعا فيها، و كلاهما منتفيان في المقام.

و يوجّه الثاني بأنّ الرجوع و إن لم يكن بنفسه معصية و ليس أيضا واقعا في طريقها لكنه يعدّ عرفا من توابع الذهاب و ينسب غاية الذهاب إلى الرجوع أيضا، بمعنى أنّ مجموع الذهاب و الإياب يعدّ عرفا سفرا واحدا أوجده الشخص للغاية الحاصلة في منتهى الذهاب. ألا ترى أنّ المسافر إذا تحمّل مشاقّ كثيرة في إيابه نسبت عرفا إلى غاية الذهاب فيقال إنّ فلانا تحمّل مشاق كثيرة لغرض الحج مثلا. و السرّ في ذلك أن خروج الشخص من منزله بمنزلة الحركة القسرية، و كل حركة قسرية


1- راجع الجواهر 14- 261.

ص: 282

يتبعها لا محالة حركة طبيعية بعد زوال القاسر، و مجموع الحركتين ينسب عرفا إلى القاسر. فمن رمى حجرا إلى جانب السماء نسب إليه مجموع الحركتين: الارتفاعية و الانخفاضية عرفا و إن كانت الثانية بالدقة العقلية معلولة للقوة الطبيعية. و لذلك ترى أنه لو صار الحجر في حال انخفاضه سببا لإتلاف نفس أو شي ء آخر عدّ القاسر ضامنا مع أن الرجوع و الانخفاض كان بالقوة الطبيعة. و بالجملة من سافر لغاية محرّمة فبالدقة العقلية يكون ذهابه واقعا في طريق المعصية دون إيابه، و لكن العرف يعدّ مجموع الذهاب و الإياب سفرا واحدا فانيا في الغاية المحرمة، بحيث يعدّ الإياب أيضا معلولا لهذه الغاية، لكونه من ضروريات الذهاب و من توابعه، و لا يعدّ الإياب بنفسه سفرا مستقلا لغاية في نفسه حتى يختلف حكمه مع الذهاب، إذ لو لم يكن غاية الذهاب لم يوجد سفر أصلا، فوجود الإياب أيضا مستند إلى غاية الذهاب، فتدبر.

و يوجّه الثالث بأن الإياب يعدّ من توابع الذهاب- بتقريب مضى ذكره- ما لم يتخلل في البين توبة، و أمّا بعدها فيسقط من التبعية قطعا.

نظير ما ذكرناه في مسألة التوسط في الأرض المغصوبة بسوء الاختيار، حيث قلنا في تلك المسألة إنّ مجموع الحركات الدخولية و البقائية و الخروجية تصدر عصيانا للمولى، من جهة أنّ الشخص بدخوله في أرض الغير بسوء اختياره اختار الحركات البقائية و الخروجية أيضا، و لكنه إذا تاب و ندم على ما عمله خرج دخوله بتوابعه من كونه مبغوضا و معاقبا عليه، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما هو مقتضى إطلاقات التوبة، و المفروض أنّ الحركة الخروجية فعلا تكون مضطرا إليها، لتوقف التخلص من الحرام الزائد عليها، فلا تقع عصيانا للمولى أصلا. و بعبارة أخرى: إصدار المكلف لها و اختيارها كان بعين إصدار الحركة الدخولية، و المفروض زوال حكمها بالتوبة، و صدورها الفعلي أيضا مضطر إليه، فما سبق على التوبة يتلافى بها، و ما يوجد بعدها يكون بالاضطرار، فلا تقع عصيانا أصلا.

ص: 283

ففي المقام أيضا مجموع الذهاب و الإياب يعد سفرا واحدا ذا غاية واحدة محرمة، و لكن بعد ما تخللت التوبة صارت سببا لتلافي السابق، و إذا خرج السابق بسبب التوبة من كونه عصيانا فاللاحق الذي هو من توابعه يخرج من كونه كذلك بطريق أولى. بل الحكم فيما نحن فيه أوضح من تلك المسألة، حيث إنّ الحركة الخروجية في تلك المسألة كانت بنفسها محرمة غاية الأمر ارتفاع فعليتها بسبب الاضطرار، و هذا بخلاف الرجوع في المقام، فإنّه ليس بنفسه معصية و لا واقعا في طريقها غاية الأمر كونه من توابع الذهاب عرفا، فعصيانه إنّما هو من جهة تبعيته للذهاب، و المفروض ارتفاع عصيان الذهاب بالتوبة.

و مما ذكر في توجيه الوجوه الثلاثة يظهر تقريب الوجه الرابع أيضا. و الأظهر من هذه الوجوه الأربعة هو الوجه الثالث، فتدبّر، جيّدا.

إذا كانت غاية السفر ملفّقة

المسألة الرابعة: لو كانت غاية السفر ملفّقة من الطاعة و المعصية فإمّا إن يكون إحداهما مقصودة بالاستقلال و الأخرى مقصودة بالتبع، بحيث لا يستند السفر إليها، و إمّا أن يكون كل منهما جزء من العلة بحيث يستند السفر إليهما معا.

لا إشكال في الأوّل، إذا الحكم يدور مدار كون السفر في معصية أو لا، و صدق ذلك يدور مدار الغاية المستقلة.

و أمّا الثاني فربما يتوهم كونه مشمولا لعمومات أدلة القصر في البريدين، إذ غاية ما خرج منها صورة كون السفر في طريق المعصية بحيث يعدّ فانيا فيها، و هذا إنما يكون فيما إذا كانت الغاية منحصرة في المعصية. هذا.

و لكن الظاهر عندنا كونه مشمولا لأدلّة الإتمام في المقام، إذ يصدق عليه أنه مسير باطل و أن هذا المسافر لا يستحق الإرفاق و لا كرامة في سفره.

ص: 284

إذا نذر أن يتمّ الصلاة فسافر

المسألة الخامسة: قال في العروة (المسألة 39): «إذا نذر أن يتمّ الصلاة في يوم معين أو يصوم يوما معينا وجب عليه الإقامة. و لو سافر وجب عليه القصر على ما مرّ من أنّ السفر المستلزم لترك واجب لا يوجب التمام إلّا إذا كان بقصد التوصل إلى ترك الواجب، و الأحوط الجمع». (1)

أقول: ربما يستشكل على القول بصيرورة هذا السفر حراما باستلزام وجود الشي ء عدمه، و هو محال. و تقريبه بوجهين:

1- أن صيرورة السفر حراما تستلزم وجوب الإتمام، و وجوب الإتمام في المقام يستلزم عدم كونه معصية، إذ المفروض أنّه لا وجه لكونه معصية إلّا كونه مستلزما لترك الإتمام، فلزم من كونه معصية عدم كونه معصية.

2- أن ثبوت الإتمام في هذا السفر يستلزم عدم كونه معصية، و هو مستلزم لعدم ثبوت الإتمام، فلزم من ثبوت الإتمام عدم ثبوته. هذا.

و الحق أن يقال: إنّ النذر إمّا أن يتعلق بالإتمام بإطلاقه، و إمّا أن يتعلق بالإتمام المترتب على ترك السفر.

فعلى الأوّل يتوجه الإشكال بأنه يشترط في متعلق النذر كونه راجحا، و لا نسلّم كون الإتمام بإطلاقه أمرا راجحا.

و على الثاني فنقول: إن نذر الإتمام كذلك يرجع إلى نذر ترك السفر. و يرد عليه أوّلا أنه غير راجح، و ثانيا أنّه لو سلّم رجحانه فلا يرد محذور أصلا، فإنّ ترك السفر حينئذ يصير بالنذر واجبا، فيصير نقيضه أعني السفر بنفسه عصيانا له، لأنّ عصيان كل شي ء بإيجاد نقيضه، فيصير المقام من أمثلة ما يكون السفر بنفسه مصداقا


1- العروة الوثقى 2- 127، في الشرط الخامس من شروط القصر.

ص: 285

للمعصية، و وظيفة هذا الشخص هو الإتمام سافر أم لم يسافر.

ثم إنّه يستفاد من عبارة العروة في المقام كون عصيان السفر ناشئا من مضادّته للواجب فقط، مع أنه يمكن تقريب كونه معصية في المقام بوجهين آخرين:

الأوّل: أن يقال إنّ الواجب، أعني الإتمام، يتوقف على الإقامة، فترك الإقامة بنفسه عصيان للواجب لا من جهة القول بوجوب المقدمة بل من جهة أن الواجب يصير بترك المقدمة متعذر الحصول، فنفس أمرية عصيانه و تركه بنفس ترك المقدمة أعني ترك الإقامة، و هو عبارة أخرى عن السفر، فيصير السفر مصداقا للمعصية.

لا يقال: الإقامة و السفر ضدّان و ليس وجود أحد الضدّين عين ترك الآخر.

فإنّه يقال: نعم، هما مختلفان مفهوما و لكنهما يتحدان تحققا. و بعبارة أخرى:

في الضدّين اللذين لا ثالث لهما يكون نفس أمرية عدم أحدهما بعين وجود الآخر، و هذا المقدار يكفي في عدّ وجود هذا الضدّ عصيانا للضدّ الآخر، فتدبّر.

الثاني: أن يقال: إنّ المستفاد من الأدلة كون ترك السفر شرطا شرعيا للإتمام نظير شرطية الوضوء للصلاة، و معنى كون الشي ء شرطا للواجب بحسب الشرع كونه دخيلا في انطباق عنوان الواجب على معنونه، و على هذا فيصير السفر الذي هو نقيض للشرط عصيانا للواجب، حيث إنّ رفع الشرط هو بعينه رفع للمشروط به، فتأمّل.

ما هو المعتبر في العصيان؟

المسألة السادسة: إذا اعتقد حلية السفر أو قام الأصل على حليته، فسافر ثم بدا له كونه حراما في الواقع فالظاهر عدم الإشكال في كون الاعتبار بالاعتقاد و مقتضى الأصل لا الواقع، إذ الموضوع للإتمام كون السفر في معصية، و نفس الحرمة الواقعية

ص: 286

لا تكفي في انتزاع عنوان العصيان ما لم تتنجز، و المفروض في المقام عدم تنجزها.

و أما إذا اعتقد حرمة السفر أو اقتضى الأصل حرمته و كان حلالا في الواقع، فهل الاعتبار بالواقع أو بما اعتقده أو اقتضاه الأصل؟ فيه وجهان: من أنّ الظاهر من تعليق الحكم على موضوع كونه منوطا بوجوده الواقعي. و من أن المستفاد من أدلّة عدم الترخص في سفر المعصية بمناسبة الحكم و الموضوع هو أنّ سوء نية المسافر و سوء قصده أوجب عدم كونه مشمولا للحكم المشروع إرفاقا و عدم استحقاقه لهذا الإرفاق، فيكون الاعتبار بالحرمة في اعتقاد المسافر لا بالحرمة الواقعية.

حكم تبدّل قصد الصائم العاصي بسفره بعد الزوال

المسألة السابعة: إذا كان عاصيا بسفره فنوى الصوم، ثم تبدّل قصده إلى الطاعة، فإن كان قبل الزوال فلا ريب في وجوب الإفطار عليه، و أمّا إذا كان بعد الزوال فهل يصحّ صومه أو لا؟

الظاهر هو الصحة، فإنّ ما دلّ على صحة صوم المكلف إذا خرج من بيته بعد الزوال يدل بالفحوى و تنقيح المناط على الصحة في المقام أيضا، بداهة أنه ليس للخروج من المنزل بما هو هو دخل في الحكم، بل الملاك فيه تحقق موجب القصر بعد الزوال.

فإن قلت: مقتضى ما دلّ على عدم صحة الصوم من المسافر بطلان الصوم في المقام و فيمن سافر بعد الزوال، خرج منه الفرض الثاني بالدليل، فيبقى غيره تحت العمومات.

قلت: بعد العلم بعدم دخالة الخصوصية يحكم بمساواة المقام للخارج بعد الزوال، فكأن الدليل المخصص تعرض لمطلق من صام ثم عرض له موجب الإفطار بعد الزوال، فتأمّل.

ص: 287

تذنيب في حكم سفر الصيد
اشارة

سفر الصيد على ثلاثة أقسام:

1- أن يكون للتنزه و اللهو.

2- أن يكون للتجارة و تحصيل مال لا يحتاج إليه في إعاشته.

3- أن يكون لتحصيل مال ينفقه على نفسه و عياله.

و قد تطابقت النصوص و الفتاوى على عدم كون الأوّل موجبا للقصر لا في الصلاة و لا في الصوم. و إنّما الإشكال في أنه من أفراد سفر المعصية أو لا؟ و على الثاني فهل يتحد بحسب الملاك مع سفر المعصية، بمعنى أن المانع عن القصر في كليهما أمر واحد، أو يختصّ كلّ منهما بملاك يخصه؟

ربما يظهر من بعض العبائر كعبارة الشرائع (1) مثلا كونه من أفراد سفر المعصية.

و من لم يعدّه من أفراده أيضا ذكره في باب سفر المعصية. فيستفاد من ذلك عدم كونه عندهم مانعا مستقلا، بل المانع عن القصر عنوان جامع بينهما و لعلّه عبارة عن عنوان المسير الباطل المذكور في روايات الباب.

و كيف كان فسفر الصيد على ثلاثة أقسام، و البحث عنه يقع في مقامين:

1- في أن أيّا من أقسامه يوجب القصر، و أيّا منها لا يوجبه.

2- في بيان حكمه التكليفي من حيث الحرمة و الإباحة.

ما يوجب القصر من سفر الصيد و ما لا يوجبه
اشارة

أمّا المقام الأوّل فلا إشكال في أنّ القسم الأوّل لا يوجب القصر مطلقا، و أن القسم الثالث يوجبه كذلك، و إنّما وقع الخلاف في القسم الثاني، أعني ما كان للتجارة


1- راجع الشرائع 1- 134 (ط. أخرى- 102)، في الشرط الرابع من شروط القصر.

ص: 288

بالنسبة إلى الصلاة دون الصوم. فلنذكر بعض أخبار الباب ثم نشرع في تحقيق المسألة. فنقول:

طوائف أخبار المسألة و التحقيق فيها

الأخبار المتضمنة لحكم سفر الصيد ثلاث طوائف:

1- ما تدلّ على أن سفر الصيد لا يوجب القصر مطلقا.

2- ما تدل على كونه مشاركا لغيره في إيجاب القصر مطلقا.

3- ما تدل على التفصيل بين ما كان لقوته و قوت عياله و بين ما كان للهو أو لطلب الفضول. و هذه الطائفة شاهدة للجمع بين الأوليين.

أمّا الطائفة الأولى فقد مرّ بعضها في ضمن أخبار سفر المعصية، و منها أيضا: ما رواه في الخصال عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن موسى المروزي، عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام، قال: «قال رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله: أربعة يفسدن القلب و ينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر: اللهو، و البذاء، و إتيان باب السلطان، و طلب الصيد.» (1) (2)

و إطلاق النفاق هنا من جهة أن النفاق كالكفر مقول بالتشكيك، فكلّ ما حجب العبد عن ربه و شغله بغيره و لو آنا ما فهو سبب لوجود مرتبة من الكفر و النفاق، كما لا يخفى.

و أمّا الطائفة الثانية فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن عبد اللّٰه بن سنان، قال: سألت


1- الوسائل 5- 513 (ط. أخرى 8- 481)، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 9.
2- لا يخفى عدم دلالة الحديث على وجوب الإتمام في سفر الصيد إلّا أن يقال بدلالته على كونه من أفراد سفر المعصية، فيتمّ من تلك الجهة. ح ع- م.

ص: 289

أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يتصيد؟ فقال: «إن كان يدور حوله فلا يقصّر، و إن كان تجاوز الوقت فليقصّر.» و روى الصدوق بإسناده عن العيص بن القاسم أنه سأل الصادق عن الرجل يتصيد. و ذكر مثله. (1)

و سؤال الراوي مجمل، حيث لا يعلم جهة سؤاله، و جواب الإمام عليه السلام ليس تفصيلا في المسألة، بل يستفاد منه أن حيثية التصيد لا تغيّر حكم السفر، بل المتصيد مطلقا كغيره: إن كان يدور حول بلده، أي لم يكن سفره بقدر المسافة، فلا يقصّر، و إن كان تجاوز حدّ المسافة فليقصر. فكلمة الوقت هنا قد استعملت في الحدّ المكاني، و نظائره كثيرة في الروايات و المحاورات.

و منها أيضا: ما رواه الشيخ بإسناده عنه، عن العباس بن معروف، عن الحسن بن محبوب، عن بعض أصحابنا، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيّام. و إذا جاوز الثلاثة لزمه.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن أبي بصير. (2)

فإنّ الظاهر من هذا الحديث أيضا أنّ المتصيد مطلقا كغيره من المسافرين في أنّه إن جاوز حدّ المسافة لزمه القصر، غاية الأمر أن تحديد المسافة فيه وقع على طبق فتوى أبي حنيفة من التحديد بثلاث مراحل، رعاية للتقية، فتدبّر.

و أما الطائفة الثالثة المفصلة فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن الحسن بن علي، عن عباس بن عامر، عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عمن يخرج من أهله بالصقورة و البزاة و الكلاب، يتنزه الليلة و الليلتين و الثلاثة، هل يقصّر من صلاته أم لا يقصّر؟ قال: «إنّما خرج في


1- الوسائل 5- 511 و 512 (ط. أخرى 8- 479 و 481)، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الحديثان 2 و 8.
2- المصدر السابق 5- 511 (ط. أخرى 8- 479) و الباب، الحديث 3.

ص: 290

لهو، لا يقصّر.» قلت: الرجل يشيّع أخاه اليوم و اليومين في شهر رمضان؟ قال:

«يفطر و يقصّر، فإنّ ذلك حقّ عليه.» (1)

و منها أيضا: ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن ابن فضّال، عن ابن بكير، عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يخرج إلى الصيد أ يقصّر أو يتمّ؟ قال: «يتم، لأنّه ليس بمسير حق.» و رواه الكليني أيضا عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد. (2)

و أوضح أخبار هذه الطائفة ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن عمران بن محمد بن عمران القمّي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال:

قلت له: الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين (أو ثلاثة- الفقيه) أ يقصّر أو يتمّ؟

فقال: «إن خرج لقوته و قوت عياله فليفطر و ليقصّر، و إن خرج لطلب الفضول فلا، و لا كرامة.» و رواه الصدوق أيضا مرسلا. و رواه الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد. (3)

و إطلاق ذيل الحديث يشمل ما إذا كان التصيد بقصد التجارة إذا لم يحتج إليها في إعاشته. و مقتضى ذلك وجوب الإتمام عليه في صلاته و صومه، و لكنه بالنسبة إلى الصوم غير مفتى به. نعم، وقع الاختلاف بالنسبة إلى صلاته، كما سيأتي. و لأجل ذلك ربما يقال: إنّ المراد بطلب الفضول خصوص ما كان للهو، و لكنه بعيد كما لا يخفى.

و كيف كان فالطائفة الثالثة شاهدة للجمع بين الأوليين، و بها يرتفع التهافت بينهما.


1- المصدر السابق 5- 511 و 514 (ط. أخرى 8- 478 و 483)، الباب 9 منها، الحديث 1، و الباب 10، الحديث 4.
2- المصدر السابق 5- 511 (ط. أخرى 8- 479)، الباب 9، الحديث 4.
3- المصدر السابق 5- 512 (ط. أخرى 8- 480) و الباب، الحديث 5.

ص: 291

و أمّا ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد السيّاري، عن بعض أهل العسكر، قال: خرج عن أبي الحسن عليه السلام: «أنّ صاحب الصيد يقصّر ما دام على الجادّة، فإذا عدل عن الجادة أتمّ، فإذا رجع إليها قصّر» (1) فلا ينافي ما ذكرناه من التفصيل، لإمكان حمله على من سافر بغير قصد الصيد ثم عدل عن الجادّة بقصده.

و السيّاري ممن رموه بالضعف، لما نسب إليه من الغلو. هذا، و قد عرفت منّا سابقا أنّ كثيرا ممن نسب إليهم الغلوّ كان لهم عقائد صحيحة متقنة، غاية الأمر أن بعض الشيعة كانوا لقصورهم في بعض العقائد ربما يعدّون بعض العقائد الكاملة الصحيحة غلوّا و إفراطا، فلا يلتفت إلى كثير مما ينسب إلى الأصحاب من الغلوّ و الإفراط.

و بالجملة يتحصل من الجمع بين أخبار الباب أنّ سفر الصيد إن كان للهو و البطر لم يوجب القصر أصلا، لا في الصلاة و لا في الصوم، و إن كان للإعاشة أوجب القصر فيهما، و لا خلاف أيضا بين الأصحاب في ذلك و لا إشكال.

حكم سفر الصيد إذا كان للتجارة

و إنّما الإشكال فيما إذا كان للتجارة و تزييد المال، فإنّهم بعد ما اتفقوا على ثبوت الترخص له بالنسبة إلى صومه اختلفوا في وظيفته بالنسبة إلى صلاته:

فأفتى الشيخ في نهايته، و كذلك المفيد، و علي بن بابويه، و ابن البرّاج، و ابن إدريس، و ابن حمزة بوجوب الإتمام عليه في الصلاة و التقصير في الصوم. (2)

و في المبسوط: «و إن كان للتجارة دون الحاجة روى أصحابنا أنه يتمّ الصلاة


1- المصدر السابق و الصفحة و الباب، الحديث 6.
2- راجع النهاية- 122، و المقنعة- 349 (في باب حكم المسافرين في الصيام)، و المهذّب 1- 106، و الوسيلة- 109. و حكاه عن ابن بابويه في المختلف- 161 (ط. أخرى 2- 521).

ص: 292

و يفطر الصوم.» (1)

و في السرائر: «فأمّا إن كان الصيد للتجارة دون الحاجة للقوت روى أصحابنا بأجمعهم أنه يتمّ الصلاة و يفطر الصوم، و كلّ سفر أوجب التقصير في الصلاة أوجب التقصير في الصوم، و كلّ سفر أوجب التقصير في الصوم أوجب تقصير الصلاة إلّا هذه المسألة فحسب، للإجماع عليها». (2)

و خالف في ذلك المحقق و العلامة، و تبعهما أكثر المتأخرين، (3) فأفتوا بأنه يقصّر في صلاته و صومه معا:

قال في المعتبر: «و لو كان للتجارة قال الشيخ في النهاية و المبسوط: يتمّ صلاته و يفطر صومه. و تابعة جماعة من الأصحاب، و نحن نطالبه بدلالة الفرق و نقول: إن كان مباحا قصّر فيهما، و إن لم يكن أتم فيهما». (4)

أقول: لا يخفى أن فتوى هؤلاء الأعاظم و الأجلاء بالفرق بين الصلاة و الصوم، مع عدم استفادته من عموم قاعدة و عدم موافقته لاعتبار عقلي، مما يكشف قطعا عن وجود نصّ في المسألة و أصل إليهم، و قد أشير إليه في المبسوط و السرائر أيضا، بداهة أن هذه التفرقة لو كانت مما يمكن استنباطها من عموم أو إطلاق دليل أو كانت مما يساعده الاعتبارات العقلية و الاستحسانات الذوقية مثلا لأمكن القول بعدم كشفها عن وجود النصّ، و لكنه من الواضحات أنه لا يساعد اعتبار عقلي و لا قاعدة كلية على


1- المبسوط 1- 136، كتاب الصلاة المسافر.
2- السرائر 1- 327، باب صلاة المسافر. و المتن هنا يوافق الطبعة الحديثة، ففيها زيادة ليست في طبعته الحجرية ص 73، فلاحظ.
3- راجع المختصر النافع- 51، و المختلف- 161 (ط. أخرى 2- 522) و غيره من كتب العلّامة، و البيان- 157 (ط. أخرى- 263)، و الروض- 388، و جامع المقاصد 2- 514، و مجمع الفائدة 3- 386، و غيرها مما هو مذكور في مفتاح الكرامة 3- 580.
4- المعتبر 2- 471، في الشرط الثالث من شروط القصر.

ص: 293

التفكيك و التفرقة بين الصلاة و الصوم كما هو واضح لا يخفى. و بالجملة لا يبقى شك في أنّ فتوى هؤلاء الأعاظم في هذه المسألة المخالفة للاعتبارات و القواعد يكشف كشفا قطعيا عن وجود نصّ و أصل إليهم يدلّ عليها، و أنه كان حجة لديهم قابلًا للاعتماد عليه. فالإفتاء بخلافهم مشكل. كيف! و اعتمادنا في باب جرح الرواة و تعديلهم ليس إلّا على هؤلاء الأعاظم «قدهم» فكيف يمكن مخالفتهم في مثل هذه المسألة؟! ألا ترى أنّ ابن إدريس مع تصلبه في إنكار حجية خبر الواحد قد وافقهم في هذه المسألة و نسبها إلى الإجماع، فيستكشف بذلك وضوح الحكم لديهم بحيث لم يكن قابلًا للإنكار.

فإن قلت: لو كان في المسألة نصّ فلم لم يودعوها في جوامعهم؟

قلت: قد أشرنا مرارا إلى أن بناء مثل الكليني و الشيخ و الصدوق «قدهم» لم يكن على إيداع جميع ما وجدوه في الجوامع الأوّلية في جوامعهم التي بأيدينا، و لعلّ المتتبع في فقه الشيعة الإمامية يعثر على أكثر من خمسمائة مسألة أفتى فيها المشايخ طرّا بفتوى يستكشف بسببها وجود النصّ فيها مع عدم كونه مذكورا في جوامعهم التي ألّفوها لضبط الأحاديث.

و يشهد لذلك وجود أخبار كثيرة في جامع مع عدم ذكرها في جامع آخر. و لعلّ الوجه في ذلك أنّ بناءهم لم يكن على نقل جميع ما يجدونه في الجوامع الأوّلية، بل على نقل خصوص ما كان لهم طريق مسلسل إلى رواتها.

و بالجملة لا ينبغي لأحد أن يرتاب في أنّ الجوامع الأوّلية التي ألّفها الطبقة السادسة من أصحابنا كانت مشتملة على أخبار كثيرة لم يودعها المشايخ الثلاثة في الجوامع الأربعة التي بأيدينا. (1)


1- ربما يقال إنّ تسليم هذا المعنى يوجب سقوط أخبار الكتب الأربعة عن الحجية رأسا، كما لا يخفى وجهه.

ص: 294

و لا يخفى أن المحقق و العلامة «قدهما» أيضا قد عثرا على هذه النكتة، و لذلك تراهما في نظائرها هذه المسألة يعتمدان على فتوى الأقدمين و يستكشفان بذلك وجود النصّ. و على هذا فاعتراض المحقق في هذه المسألة على الشيخ بمطالبة الدليل في غير محلّه، إذ للشيخ أن يقول إنّ تأخر العصر حجب عنك الدليل، و لو كنت في عصرنا لاعترفت بما اعترفنا به من جهة وضوح المسألة لدى الأصحاب و روايتهم لها.

و لعل مخالفة المحقق و العلامة في هذه المسألة كانت من جهة مخالفتها للاعتبار، حيث إن مقتضى الاعتبار العقلي مساواة الصلاة و الصوم في الترخص و عدمه، أو من جهة مخالفتها للنصوص الدالة على تلازم التقصير و الإفطار، كقوله عليه السلام في صحيحة معاوية بن وهب: «إذا قصّرت أفطرت و إذا أفطرت قصّرت» (1). هذا.

و لكن يرد على ذلك أن الاعتبارات الظنية لا يستكشف بها الأحكام. و ما دلّ على التلازم بين الحكمين عامّ يمكن تخصيصه بالدليل، و قد عرفت أن فتوى الأقدمين في أمر يخالف القواعد و الاعتبارات مما يكشف عن وجود النصّ قطعا، مع أنّ أصحابنا كانوا من أهل النصّ و الرواية و لم يكونوا يعتمدون على القياسات و الاستحسانات أصلا.

فالقول بوجوب الإتمام في الصلاة و القصر في الصوم في هذه المسألة لا يخلو عن قوة. و لو بني على الاحتياط بالجمع فمورده الصلاة دون الصوم، لاتفاق الجميع على ثبوت التقصير فيه.

هذا كله ما يتعلق بالمقام الأوّل. أعني وظيفة الصائد بالنسبة إلى صلاته و صومه.

بيان حكمه التكليفي

و أمّا المقام الثاني، أعني بيان حكم التصيد من حيث الحرمة و عدمها، فملخّص


1- الوسائل 5- 528 (ط. أخرى 8- 503)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 17.

ص: 295

الكلام فيه أنّه إن كان للإعاشة أو التجارة فلا إشكال في عدم حرمته. كيف! و لو كان التصيد للتجارة محرّما لما ثبت التقصير في صومه أيضا و قد عرفت أنّه متفق عليه.

و أما إذا كان بقصد اللهو و البطر، كما هو شأن المترفين و المتنعمين من أبناء الدنيا، فهل يكون محرّما و يكون ثبوت الإتمام فيه لذلك، أو لا يكون محرّما، و إنما يثبت الإتمام فيه لأجل تحقق جامع بين سفر المعصية و بين هذا القسم من سفر الصيد يكون هو الموضوع حقيقة لعدم الترخص؟

في المسألة وجهان: ربما يظهر من بعض العبائر حرمته، بل صرّح بها بعضهم، حيث عدوّه من أفراد سفر المعصية، و منهم المحقق في الشرائع. (1)

و ناقش في ذلك المقدس البغدادي «قده» (2)، و أنكره أشدّ الإنكار و قال على ما حكي عنه ما حاصله: «أنه في أي شي ء شككنا فلا نشك في جواز الصيد للتنزه، إذ لا فرق بينه و بين التنزه بالمناظر البهيجة و المراكب الحسنة و مجامع الأنس و نحوها مما قضت السيرة القطعية بإباحتها». (3)

و يمكن تأييده في ذلك بأنّ التصيد للهو و البطر كان أمرا معروفا بين المترفين متداولا بين المتنعمين من أبناء الدنيا حتى في أعصار الأئمة عليهم السلام و ما قبلها، فلو كان أمرا محرما لكان على الأئمة عليهم السلام إنكاره بأشدّ الإنكار و بيان حرمته لأصحابهم، و لو بيّنوها لوصل إلينا و صارت حرمته من الضروريات عند الشيعة و المتدينين، نظير حرمة الخمر و الزنا و نحوهما من المحرمات، فإنّ الأمور المبتلى بها المتداولة بين الناس لو كانت


1- راجع الشرائع 1- 134 (ط. أخرى- 102)، و القواعد 1- 50، و الذكرى- 260، و الروض- 388، و الذخيرة- 409، و غيرها.
2- هو من أعاظم المحققين، و كان معاصرا للمحقق القمي و مجازا من قبله. كذا قال الأستاذ مدّ ظلّه العالي. راجع روضات الجنات 6- 104، و مستدرك الوسائل 3- 399، الفائدة الثالثة من الخاتمة، و قد مرّ ذكره في ص 242، الهامش 1.
3- حكاه عنه في الجواهر 14- 265، في الشرط الرابع من شروط القصر.

ص: 296

محرمة لما خفيت حرمتها على المتدينين و كان أمرها واضحا بينهم، مع أن التصيد اللهوي ليس بهذه المثابة و إلّا لم يخف حرمته، و لم يقع فيها خلاف، و القدماء قبل المحقق و العلامة أيضا لا يستفاد من عباراتهم حرمته، بل يستفاد عدمها، فإنّ الشيخ مثلا ذكر في نهايته سفر الصيد في قبال سفر المعصية و لم يجعله من أفراده. (1) و في الخلاف أيضا عقد لهما مسألتين ذكر في إحداهما سفر المعصية و قال ما حاصله: أنّه لا يوجب القصر، و به قال الشافعي و مالك و أحمد و إسحاق. و قال قوم: سفر المعصية كسفر الطاعة في جواز التقصير، ذهب إليه الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه.

و ذكر في المسألة الأخرى سفر الصيد و قال: «إذا سافر للصيد بطرا أو لهوا لا يجوز له التقصير، و خالف جميع الفقهاء في ذلك». (2)

و كيف كان فلا يستفاد من عبائر القدماء أيضا حرمة الصيد اللهوي.

نعم، الفاضل الكامل عبد العزيز بن البراج قسم في مهذّبه السفر إلى أربعة أقسام:

واجب و مندوب و مباح و قبيح، و مثّل للقبيح بسفر المعصية و سفر الصيد. (3) هذا.

و لكن القبح أيضا أعمّ من الحرمة الشرعية.

و بالجملة ليس لنا دليل متقن يستفاد منه حرمة التنزه بالصيد. و لو كان محرّما لصار حرمته من الضروريات كنظائره من المحرمات المتداولة بين الناس. فمقتضى الإطلاقات الدالّة على جواز التصيد في غير حال الإحرام جوازه مطلقا و إن كان للتنزه و التفريح.

قال عزّ من قائل في سورة المائدة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعٰامِ إِلّٰا مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ.

و قال فيها أيضا وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا.


1- راجع النهاية- 122، باب الصلاة في السفر.
2- راجع الخلاف 1- 587، المسألة 349، و ص 588، المسألة 350.
3- راجع المهذّب 1- 106- 105، باب صلاة السفر.

ص: 297

و الأمر في الآية وقع عقيب الحظر، فيدلّ على حلّية مطلق الاصطياد.

و قال فيها أيضا أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً (1) (2) هذا مضافا إلى أنّ مقتضى الأصل أيضا الإباحة و الحلّية. فبذلك كلّه يؤيّد كلام المقدّس الكاظمي [البغدادي] «قده».

و أمّا القول بالحرمة فيمكن أن يستشهد له برواية حمّاد بن عثمان السابقة (الخامسة من أخبار سفر المعصية)، حيث إنّه عليه السلام جعل فيها باغي الصيد كالسارق في عدم حلية الميتة له و إن اضطر إلى أكلها، فيستفاد من جعله رديفا للسارق و حكمه بحرمة الميتة له و إن اضطر إلى أكلها أنّ فعله هذا يقع مبغوضا للمولى.

هذا و لكن العمل بمضمون الرواية مشكل، فإنّ حفظ النفس من أهمّ الواجبات، فكيف يمكن لفقيه أن يلتزم بحرمة أكل الميتة لمثل الصائد إذا توقف حفظ نفسه على أكلها؟! (3) و أما التعبيرات الواردة في غير رواية حماد: من قوله عليه السلام: «إنما خرج في لهو» و قوله: «لأنه ليس بمسير حق»، و قوله: «فإن التصيد مسير باطل» (4) فلا يستفاد منها الحرمة الشرعية، لكونها أعمّ من الحرمة.

و حرمة بعض أقسام اللهو و إن كانت قطعية لكن لا يمكن الالتزام بحرمة جميع


1- رقم الآيات: 1 و 2 و 96 من المائدة.
2- كون هذه الآيات بصدد بيان حلية التصيد بما هو هو حتى يتمسك بإطلاقها للمقام محلّ تأمل. ح ع- م.
3- الحرمة الشرعية بسبب كون الاضطرار بسوء الاختيار لا تنافي إلزام العقل بفعله إرشادا إلى أقلّ المحذورين، و قد التزموا بنظير ذلك في مسألة الخروج من الأرض المغصوبة إذا توسطها بسوء اختياره. ح ع- م.
4- راجع الوسائل 5- 512- 511 (ط. أخرى 8- 481- 479)، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، الأحاديث 1 و 4 و 7.

ص: 298

أقسامه، إذ المحرم من اللهو هو ما أوجب خروج الإنسان من حالته الطبيعية، بحيث يوجد له حالة سكر لا يبقى معها للعقل حكومة و سلطنة، كالألحان الموسيقية التي تخرج من استمعها من الموازين العقلية و تجعله مسلوب الاختيار في حركاته و سكناته فيتحرك و يترنم على طبق نغماتها و إن كان من أعقل الناس و أمتنهم.

و بالجملة المحرم منه ما يوجب خروج الإنسان من المتانة و الوقار قهرا و يوجد له سكرا روحيا يزول معه حكومة العقل بالكلية، و من الواضحات أنّ التصيد و إن كان بقصد التنزه ليس من هذا القبيل، فتدبّر.

ص: 299

السادس: الوصول إلى حدّ الترخّص

اشارة

و من شروط القصر الوصول إلى حد الترخّص في خروجه من البلد، و عدم الوصول إليه في رجوعه إلى البلد.

و اعتبار ذلك هو المشهور بين الأصحاب. نعم، نسب إلى علي بن بابويه القول بعدم اعتباره و ثبوت القصر بمجرد الخروج من المنزل، (1) و لكنه شاذّ لا يعبأ به.

تعيين حدّ الترخّص

و ذكر الأصحاب في تحديد حدّ الترخص أمرين: 1- أن يخفى عليه أذان البلد.

2- أن يتوارى عنه جدرانه.

و مستند هم للثاني صحيحة محمد بن مسلم التي رواها المشايخ الثلاثة.

و للأوّل أخبار مستفيضة أهمها صحيحة عبد اللّٰه بن سنان، فلنذكر الصحيحين ثم نشرع في تحقيق المسألة، فنقول:

روى الكليني عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

الرجل يريد السفر، متى يقصّر؟ قال: «إذا توارى من البيوت.» قال: قلت: الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول الشمس؟ قال: «إذا خرجت فصلّ ركعتين». قال الكليني: و روى الحسين بن سعيد. عن صفوان و فضالة، عن العلاء مثله. و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الكليني، و بإسناده عن الحسين بن سعيد. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن محمد بن مسلم. (2)


1- راجع المختلف- 163 (ط. أخرى 2- 534)، المسألة 392.
2- الوسائل 5- 505 (ط. أخرى 8- 470)، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

ص: 300

و روى الشيخ بإسناده عن الصفّار، عن عبد اللّٰه بن عامر، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن التقصير؟

قال: «إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ، و إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر، و إذا قدمت من سفرك فمثل ذلك.» (1)

و المراد بالبيوت في الرواية الأولى: المجتمع الذي توطن فيه هذا المسافر، من الخيم المجتمعة أو الدور المتلاصقة التي لا يطلق على هذا الشخص ما دام فيها عنوان المسافر و إن كان البلد المتحصل منها معظما. هذا.

و لا يخفى أنّ المذكور في الرواية الأولى يخالف ظاهرا لما ذكره الأصحاب، إذ المذكور في كلماتهم تواري الجدران من المسافر، و المذكور في الرواية تواري المسافر من البيوت، و المتبادر من تواريه من البيوت عدم رؤية البيوت إيّاه، لو فرض كونها مبصرة، أو عدم رؤية أهلها إيّاه، نظير قوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ. (2)

و بالجملة الحديث يدلّ على اعتبار غيبوبة المسافر عن البلد لا غيبوبة البلد عنه.

فإن قلت: لعلّهما متلازمتان خارجا، و كلام الأصحاب مبني على التعبير عن الشي ء بلازمه.

قلت: لا نسلّم تلازمهما، فإنّ تواري المسافر عن البيوت يحصل قبل تواري البيوت عنه، من جهة أن الجسم كلّما كان أصغر جثة و أقصر كان من الخفاء أقرب، فالمسافر لصغر جثته يتوارى من أهل البيوت قبل أن يتوارى البيوت منه. هذا.

و يمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بوجوه:

الأوّل أنّ اشتهار التعبير بتواري الجدران يكشف عن وجود نصّ و أصل يدلّ عليه، أو عن كون هذا النصّ الواصل على خلاف ما وصل إلينا متنا، و حينئذ فيكون الاعتبار بما اشتهر بين الأصحاب.


1- المصدر السابق 5- 506 (ط. أخرى 8- 472) و الباب، الحديث 3.
2- سورة يوسف (12)، الآية 82.

ص: 301

الثاني أنّ الملاك واقعا هو تواري المسافر من البلد و غيبوبته عنه كما في الرواية، و لكن الأصحاب إنّما عبّروا عنه بما عبّروا لما رأوا أنّ الرواية وردت في مقام التحديد و بيان أمارة يعتمد عليها المسافر في قصره و إتمامه، و ما يمكن أن يطلع عليه المسافر إنما هو خفاء البلد عليه، و أمّا خفاؤه على البلد فأمر لا يطلع عليه إلّا بمثل التلغراف و نحوه مثلا، فعبّروا عما هو الملاك واقعا بما يكون أمارة على تحققه قبلها، و يجوز جعل شي ء يحصل عقيب شي ء آخر أمارة على ذلك الشي ء. فمحط نظرهم هو أنه يجب القصر عند خفاء الجدران من جهة أنه يكشف عن تحقق ملاك القصر قبله. و نظير ذلك ما ذكروه من أنّ وصول الكواكب الطالعة في أوّل الغروب إلى دائرة نصف النهار أمارة على انتصاف الليل، مع أنه من الواضحات أنّ الليل الشرعي من المغرب إلى الفجر، فالانتصاف يحصل قبل وصول الكواكب إلى دائرة نصف النهار كما لا يخفى.

الثالث أن يقال: إنّا لا نسلّم أن تواري المسافر من البيوت يحصل قبل تواري البيوت منه، بل لعلهما متلازمان، فيجوز التعبير عن أحدهما بالآخر.

بيان ذلك: أن المراد بالبيوت إن كان هي البيوت المرتفعة المتداولة في زماننا المشتملة على طبقتين أو أزيد سلّمنا عدم التلازم بين خفائها على المسافر و خفاء المسافر عليها، و لكن الظاهر أن المراد منها ليس هذا القبيل من البيوت، بل المراد منها هي البيوت المتداولة في عصر صدور الرواية: من بيوت الأعراب و خيمهم التي لم يكن ارتفاعها أزيد من ارتفاع قامة الإنسان بكثير، فيتلازم خفاؤها المسبب عن البعد مع تواري المسافر عنها، إذ المؤثر في قبلية الخفاء و بعديته هو طول الارتفاع و قصره، و لا دخالة لعرض الشي ء في ذلك كما لا يخفى. و بالجملة خفاء البيوت أمارة تكشف عن حصول خفاء المسافر و ثبوت الترخص إمّا من حينه كما هو مقتضى هذا الوجه أو من قبله كما هو مقتضى الوجه الثاني، فتدبّر.

ص: 302

و ربما يقال أيضا في الجواب عن الإشكال: إنّ التواري من باب التفاعل الدالّ على المشاركة، فالمراد حصول الخفاء من الطرفين.

و فيه أن التفاعل إنّما يدلّ على المشاركة إذا عطف على فاعله بالواو كقولنا:

«تضارب زيد و عمرو»، لا مطلقا، فلا يدلّ التواري المذكور في الرواية على الاشتراك.

ثمّ إن الظاهر من الحديث أنّ الاعتبار بنفس البيوت لا بسور البلد، و بالبيوت المتعارفة لا كثيرة الارتفاع المتداولة في أعصارنا، و ببيوت البلد من القرية أو المصر أو الخيم المتلاصقة لا ببيوت المحلة و إن عظم البلد، ما لم يبلغ في الكبر حدّا يطلق على من خرج من محلة منها إلى محلة أخرى عنوان المسافر. و المراد بالتواري هو التواري الحاصل بسبب نفس البعد لا بسبب الجبال و الأشجار المحيطة بالبلد و ارتفاع الأرض و انخفاضها، و الاعتبار في العين بما توسط في الحدّة و الضعف. و هذا كلّه واضح لا سترة عليه.

هذا مما يتعلق بالحدّ الأوّل المذكور في رواية محمّد بن مسلم.

و أمّا خفاء الأذان فالظاهر أن المراد به خفاء ما تعارف من أذان المصر، الصادر عن مؤذن متوسط الصوت، في المأذنة المعدّة له، في الهواء المتوسط، لا كل أذان و لو كان في صحن المسجد مثلا. و إذا كبر المصر و تعدّد الأذان المتعارف فيه كان الاعتبار بما يكون في جهة طريق المسافر، كما أنّ الظاهر عدم دخل خصوصية الأذان بل هو بنظر العرف من باب المثال. فالملاك خفاء الأصوات المرتفعة في البلد أيّ صوت كان. و بذلك يظهر أنّ الاعتبار في خفاء الأذان بخفاء أصل الصوت، بحيث لا يسمع شيئا، لا عدم تمييز فصوله فقط و إنّ توهّم.

ثم إنّه لا ريب في عدم دخالة فعلية البيوت أو الأذان، بل المراد حصول البعد عن المقرّ الفعلي بمقدار يخفى عليه البيوت أو الأذان على فرض وجودهما. فالملاك هو مقدار البعد الملازم لهذين الحدّين، أو لأحدهما، على الخلاف الآتي.

ص: 303

تكميل رفع التهافت بين روايتي الخفاء و التواري

لا يخفى أن صحيحة محمّد بن مسلم تدلّ بمنطوقها على أن التواري من البيوت هو السبب الموجب للقصر، و بمفهومها على نفي سببية الغير، و صحيحة ابن سنان تدل بفقرتها الثانية على أن خفاء الأذان بنفسه سبب للقصر، و بفقرتها الأولى التي هي بمنزلة المفهوم للفقرة الثانية تدلّ على نفي سببية الغير.

و على هذا أشكل على القوم الجمع بين الصحيحتين:

فقيل بتقديم صحيحة ابن مسلم و طرح الأخرى، لكون نقل المشايخ الثلاثة سببا لرجحانها.

و قيل بالعكس، لاعتضاد صحيحة ابن سنان بالروايات الأخر الواردة بمضمونها.

و قيل بأنهما متكافئتان، فيتخيّر الفقيه في الأخذ بأيهما أراد، نظير سائر التخييرات الظاهرية المذكورة في الموارد المختلفة. (1) ثم يقع النزاع في أنّ التخيير ابتدائي أو استمراري.

هذا كله بناء على عدم تقديم الجمع العرفي على الترجيح أو التخيير، و أما بناء على تقديمه كما هو الأقوى فهل يتمشى الجمع العرفي في المقام أو لا؟

و على فرض التمشي فهل يجمع بينهما بالتخيير الواقعي بمعنى أن المكلف يتخير في جعل هذا حدّا أو ذلك، نظير التخيير في باب خصال الكفارة، أو بتقييد منطوق كل منهما بمنطوق الأخرى، فينتج عدم كفاية أحدهما في ثبوت الترخص ما لم يحصل الآخر، أو بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى، فينتج


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 545، و المختلف- 163 (ط. أخرى 2- 533)، المسألة 392.

ص: 304

كون كل واحد منهما سببا مستقلا للترخص؟

في المسألة وجوه.

و الحق أن يقال: إنّ كلا من الجمع و التخيير و الترجيح موقوف على التعارض، و أنّ لكم بإثباته في المقام، بل لنا أن نمنعه بأحد من الوجهين الآتيين:

الأوّل: أنّ التعارض متوقف على تسليم ما ذكروه من حصول خفاء الأذان قبل خفاء الجدران دائما، و نحن لا نسلّم ذلك، إذ لم يعلم بنحو الجزم أن المراد بالأذان أذان آخر البلد من ناحية المسافر، أو أذان وسط الشهر، أو غيرهما؟ ثم المعتبر هو الأذان في المأذنة المعدة له، أو مطلق الأذان؟ ثم إنّ الملاك هو خفاء نفس الصوت، أو عدم تمييز الفصول؟ ثم إنّ المؤذن يعتبر فيه أن يكون رفيع الصوت، أو لا؟ و لو قيل باعتبار التوسط في هذه الأمور فالأفراد المتوسطة أيضا مختلفة. ثم إنّ الاعتبار في الأمارة الثانية بتواري المسافر من البيوت كما هو مقتضى الرواية لا بتواريها منه، و لو سلّم فليس المراد بالبيوت: البيوت المتداولة في زماننا، بل البيوت التي تقرب في الطول طول قامة الإنسان أعنى بيوت الأعراب و القرى المتداولة في عصر صدور الرواية، و خفاؤها لا يتوقف على طي مسافة كثيرة، و لو سلّم فلا أقلّ من شمول إطلاق البيوت لمثل هذه البيوت أيضا.

و على هذا فبعد ما تفاوت أفراد الأذان تفاوتا فاحشا لعلّ ما أريد منها واقعا يلازم تواري المسافر من البيوت أو تواريها منه، أو لعلّ كلّا من الحدّين قد اعتبر بعرض عريض بحيث يلازم بعض مراتبه بعض مراتب الحدّ الآخر. و بالجملة ليس لكلّ من خفاء الأذان أو البيوت حدّ معين مشخص لا يحتمل الزيادة و النقصان حتى يحكم بالمقايسة بينهما أنّ أيّا منهما يحصل قبل بالآخر. و قد عرفت أيضا في مطاوي كلماتنا أنّ الاعتبار ليس بنفس الأمرين المذكورين و فعليتهما، بل جعل كلّ منهما كناية عن مقدار من البعد. فالرواية الأولى تدلّ على أنّ الملاك في ثبوت الترخص

ص: 305

حصول البعد بمقدار يخفى معه المسافر أو البيوت، و الرواية الثانية تدلّ على أنّ الملاك فيه حصول البعد بمقدار يخفى معه الأذان. و على ما ذكرناه من مراتب الحدّين فإثبات اختلاف هذين البعدين مشكل. و لعل المراد من الرواية الأولى خفاء نفس المسافر و جثته، و من الرواية الثانية خفاء أذان يفرض في آخر البلد في جهة طريق المسافر على المأذنة بصوت رفيع بحيث لا يسمع الصوت أصلا، و لعلّهما متقاربان أو متلازمان، فلا يثبت التعارض بين الروايتين حتى يجمع بينهما أو نختار الترجيح أو التخيير.

الوجه الثاني أنّ يقال: إنّ الخبرين ليسا في مقام بيان الموضوع الواقعي، بل لعلّ الموضوع الواقعي لثبوت الترخص بعد مخصوص واقعي يطلع عليه الشارع، و لكنه لما كان العلم به و الاطلاع عليه لغير الشارع أمرا مشكلا جعل لتشخيصه أمارتين ظاهرتين، فالحكم في كلّ من الروايتين حكم ظاهري يجوز للمكلف أن يعتمد عليه ما لم ينكشف الواقع، و النكتة في تعدد الأمارة تمكن بعض المسافرين من هذه الأمارة و تمكن بعضهم من الأخرى. و بالجملة الروايتان بصدد بيان الحكم الظاهري، فلا مجال لإعمال المعارضة بينهما.

هذا كلّه بناء على عدم تسليم التعارض. و لو سلّم فهل يقدم الجمع بينهما، أو الترجيح، أو التخيير؟

الظاهر أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، وفاقا للشيخ الأنصاري «قده» و من تبعه، (1) غاية الأمر وجوب تقييده بما إذا كان جمعا عرفيا. و بالجملة الجمع مقدم على شقيقيه.

هذا بناء على وجود ملاك الترجيح في المقام، و لكن لنا منعه، حيث إنّ الملاك في


1- راجع كتاب الصلاة للشيخ «قده»- 398، و شرح تبصرة المتعلّمين للشيخ ضياء الدين العراقي «قده» 2- 335 (ط. أخرى 2- 396).

ص: 306

ترجيح أحد الخبرين موافقة للشهرة أو الكتاب أو مخالفته للعامة، و الخبران في المقام متكافئان من هذه الجهات، إذ كلاهما مشهوران بين الأصحاب و قد أفتوا بمضمونهما بحيث يكشف بذلك صدورهما و جواز العمل بهما، و ليس في الكتاب اسم من حدّ ترخص البلد حتى يحكم بموافقة أحد الخبرين له أو بمخالفته، و الحكم باعتبار حدّ الترخص من متفردات الإمامية، و أما الجمهور فقد تسالموا تقريبا على ثبوت القصر بصرف الخروج من البلد (1)، فليس أحد الخبرين موافقا للعامة حتى يطرح لذلك.

فتعين الجمع أو التخيير الظاهري، و قد عرفت أن الجمع إذا كان جمعا عرفيا مقدم على التخيير، فيجب بيان طرق الجمع في المقام و قد عرفت أنها ثلاثة: 1- التخيير الواقعي، نظير خصال الكفارة. 2- تقييد المنطوقين. 3- تقييد المفهومين:

أمّا الأوّل فيرد عليه أنّ التخيير الواقعي إنّما يتصور في الحكم التكليفي كوجوب إحدى الخصال و وجوب إنقاذ أحد الغريقين مثلا، و أما في التحديدات فلا يعقل و لا يتصور، اللّهم إلّا إن يقال برجوع التخيير بين الحدين في المقام إلى تخير المكلف بين القصر و الإتمام في الصلوات التي يأتي بها بين الحدين. هذا. و لكن يرد عليه أيضا أنه ليس جمعا عرفيا، إذ المركوز في أذهان أصحابنا كان تعين القصر على المسافر في


1- قال ابن رشد في البداية- ج 1 ص 145- ما حاصله: «أن مالكا قال في الموطأ:

ص: 307

قبال الجمهور القائلين بالتخيير، و إنما أرادوا بسؤالهم السؤال عن الحدّ الذي يثبت عنده القصر بعد ما ارتكز في أذهانهم تعينه، فلو كان مراده عليه السلام ثبوته تخييرا لكان عليه بيانه، فتدبّر جيّدا.

و أمّا الثاني فيرد عليه أنّ التقييد إنما يتصور فيما إذا كان هنا لفظ دالّ على كون حيثية ما تمام الموضوع للحكم فأريد بدليل القيد بيان كونه جزء منه بمعنى دخالة كل من الحيثيتين في الموضوع، و ليس الأمر في المقام كذلك، إذ لا دخل لواحدة من حيثية خفاء الأذان و حيثية خفاء الجدران في موضوع القصر، لما عرفت من أنّ الاعتبار ليس بأنفسهما، بل كلّ منهما كناية عن مقدار البعد المعتبر، فلا مجال للإطلاق و التقييد في المقام.

فيتعين الوجه الثالث من وجوه الجمع، أعني تقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، و مقتضاه كفاية حصول كل واحد منهما في الحكم بثبوت القصر.

نعم، يرد على الوجهين الأخيرين من وجوه الجمع أن مرجعهما إلى الطرح، إذ الاحتياج إلى الجمع إنّما هو بعد فرض التعارض، و قد عرفت أن التعارض في المقام يتوقف على تسليم أن أحد الحدين كخفاء الأذان مثلا يحصل قبل الآخر، و حينئذ فإن قلنا بمقتضى الجمع الثاني و كون الاعتبار بحصول الحدين معا كان مقتضاه طرح رواية ابن سنان عملا، إذ الفرض حصول خفاء الأذان قبل خفاء البيوت دائما، و إن قلنا بمقتضى الجمع الثالث و كفاية أحدهما كان مقتضاه طرح رواية ابن مسلم عملا، إذ الفرض حصول خفاء البيوت بعد خفاء الأذان دائما.

فالأولى في المقام منع ثبوت المعارضة رأسا كما مرّ بيانه، و نحكم بكفاية أيّ من الأمرين حصل أوّلا كما عليه المشهور من القدماء، فتدبّر جيّدا.

ثم لا يخفى أنّ الهمداني «قده» بعد ما ذكر ابتناء فتوى المشهور على تخصيص مفهوم كل من الروايتين بسبب منطوق الآخر قال: «و اعترض على هذا الجمع

ص: 308

شيخنا المرتضى بما لفظه: و هذا الجمع حسن لو كان المقام مقام بيان السبب للتقصير فيحمل على تعدد السبب كما في نظائره، لكن المقام مقام بيان التحديد، و الحمل على تعدد الحدّ غير مستقيم بين الأقل و الأكثر، و لعله لذا عكس المتأخرون الجمع بين الصحيحتين فاعتبروا خفاء الأمرين.» انتهى. ثم قال في المصباح ما حاصله: «أنّ العادة قاضية بكون تواري الشخص من البيوت فضلا عن تواري جدران البلد عنه أخص من خفاء الأذان، و صحيحة محمد بن مسلم لا تدلّ على انتفاء التقصير عند انتفاء التواري إلّا بالمفهوم الذي غايته الظهور، فلا يصلح معارضا للصحيحة الثانية التي هي نصّ في إناطة الحكم وجودا و عدما بسماع الأذان و عدمه.

فمقتضى الجمع حمل صحيحة ابن مسلم على تحديد تقريبي ببيان الموضوع الذي يتحتم عنده التقصير من غير أن يقصد به الانتفاء عند الانتفاء، و الحد الحقيقي هو بلوغه إلى موضع لا يسمع فيه الأذان». (1)

أقول: يرد على الشيخ «قده» أنه كرّ على ما فرّ منه، فإنّه اعترض على المشهور بأن تعدد الحد غير مستقيم بين الأقل و الأكثر من جهة استلزامه طرح و الأكثر و كون التحديد به لغوا، مع أن القول باعتبار الأمرين أيضا يوجب طرح الأقل رأسا و كون ذكره لغوا. و قد عرفت أنّ الحق في المقام أن يقال بعدم ثبوت التعارض و التنافي بين الحدين حتى نتكلف للجمع بينهما، بل لعلهما يتلازمان غالبا، فجعل الشارع كلّ واحد منهما علامة و معرفا للبعد المخصوص، و للمكلف أن يعتمد على أي منهما حصل. ثم لو فرض التنافي و التعارض فكلام صاحب المصباح كلام متين، و لكن يجب أن يريد بالبيوت و التواري ما ذكرناه حتى يتقارب الحدّان و يكون تواري المسافر عن البيوت حدا تقريبا، فتدبّر.


1- راجع مصباح الفقيه- 751- 750 (كتاب الصلاة) في الشرط السادس من شروط القصر، و كتاب الصلاة للشيخ «قده»- 398.

ص: 309

و ها هنا ستّ مسائل
اعتبار حدّ الترخّص في طرف الرجوع

الأولى: لا إشكال في اعتبار حدّ الترخص في الخروج من الوطن كما عرفت، و هل يعتبر في الرجوع إليه، بأن يكون الوصول إليه موجبا للإتمام، أو لا يعتبر فيبقى حكم القصر إلى أن يصل إلى منزله؟

المشهور بين الأصحاب اعتباره، فيكون القصر و الإتمام دائرين مدار حدّ الترخص دخولا و خروجا.

و قد دلّ على حكم كلا الطرفين بالصراحة صحيحة ابن سنان السابقة.

و المذكور في صحيحة ابن مسلم و إن كان حكم الخروج فقط لكن العرف يلقي الخصوصية، بحيث لو لم يكن حكم الرجوع مذكورا في صحيحة ابن سنان أيضا لاستفدنا من الروايتين حكم الرجوع أيضا.

و الظاهر أن ابن مسلم أيضا استفاد ذلك.

و السرّ في ذلك هو أنّ مسألة تعيين الموضع الذي يثبت عنده القصر كانت مبحوثا عنها بين فقهاء الجمهور:

فروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلّى بهم ركعتين في منزله.

و قال عطاء: إذا خرج من بيته قصر، و قال الشافعي و أبو حنيفة و مالك و أحمد: لا يجوز القصر حتى يفارق البلد، و لم يشترط خفاء الجدران و لا الأذان. و عن قتادة أنه قال:

إذا جاوز الجسر أو الخندق قصّر. و لم يكونوا يفرّقون في ذلك بين الخروج و الرجوع. (1)

و كان أذهان أصحاب الأئمة عليهم السلام أيضا مسبوقة بهذا البحث، و صار هذا سببا


1- راجع التذكرة 1- 189 (ط. أخرى 4- 378)، في الشرط الثاني من شروط القصر، المسألة 625، و المغني 2- 96.

ص: 310

لسؤال ابن مسلم و ابن سنان في الروايتين، و بعد ما أجاب الإمام عليه السلام انسبق إلى أذهانهما لا محالة دوران القصر و الإتمام مدار غيبة المسافر عن بلده، بحيث لا يخفى عليه آثاره، و حضوره فيه كذلك.

و إن شئت قلت: ليس المتبادر من كلام الإمام عليه السلام كونه بصدد بيان حكم تعبدي محض، بل المتبادر منه بمناسبة الحكم و الموضوع هو أنّ اعتبار تواري البيوت و خفاء الأذان، من جهة أنهما ما لم يخفيا لم يحصل عرفا مفهوم السفر الذي أخذ فيه الغيبوبة عن الوطن، فيتوقف القصر على تجاوز المسافر عن الحدود التي يتردد فيها أهالي البلد غالبا ترددهم في نفس البلد و يكون الكون فيها بنظرهم كونا في نفس البلد بحيث يعدّونه مصداقا للحضور من جهة ظهور آثار البلد من البيوت و نحوها و سماع الأصوات المرتفعة فيه، و لا يكون بحسب نظر العرف فرق في ذلك بين الخروج و الرجوع قطعا كما لا يخفى وجهه، اللهم إلّا أن يقال: إنّ مقتضى هذا البيان اعتبار المسافة أيضا من حدّ الترخص، فتدبّر.

و بالجملة الشهرة المحققة القريبة من الإجماع، و قوله في صحيحة ابن سنان:

«و إذا قدمت من سفرك فمثل ذلك»، و شهادة العرف بتساوي الخروج و الرجوع ملاكا مما تدلّ على دوران القصر و الإتمام مدار حدّ الترخص خروجا و رجوعا.

فلا يعتنى إلى الأخبار المعارضة الظاهرة أو الصريحة في بقاء القصر إلى أن يدخل المسافر بيته، (1) و إن اعتنى بها بعض المتأخرين. (2)

إذ يرد عليها أوّلا: أن الأخبار الشاذة التي أعرض عنها الأصحاب ساقطة عن الحجّية و إن لم يكن لها معارض فكيف في صورة المعارضة؟! إذ عمدة الدليل على حجية الأخبار بناء العقلاء على العمل بها، و لا شكّ في أن الخبر الواصل إلى عبيد


1- راجع الوسائل 5- 507 (ط. أخرى 8- 474)، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر.
2- منهم: الفيض و البحراني و السبزواري- قدّس اللّٰه أسرارهم- راجع مفاتيح الشرائع 1- 26، و الحدائق 11- 412، و الكفاية- 33.

ص: 311

المولى إذا كان ممّا أعرض عنه بطانة المولى و خواصّه العارفون بمرامه لا يعتني به العبيد قطعا، و ليس بناؤهم على العمل به البتة، و إن كان في غاية الصحة سندا، بل كلّما ازداد صحة ازداد ضعفا.

و ثانيا: أنه لو سلّم حجّية الأخبار الشاذّة في أنفسها فلا إشكال في سقوطها عن الحجية إذا عارضها أخبار أخر اشتهر بين الأصحاب العمل بها و الإفتاء على وفقها، لما ورد في باب الخبرين المتعارضين من وجوب الأخذ بأشهرهما، و قد بيّنا في محلّه أنّ المراد بهذه الشهرة هو الشهرة في مقام العمل و الإفتاء، لا اشتهار الرواية فقط. (1)

و ثالثا: أن هذه الأخبار موافقة لبعض من العامّة كما عرفت بخلاف أخبار حدّ الترخص، فإنّ اعتبار حدّ الترخص من متفردات الإمامية و لم يعتبره المخالفون لا في الذهاب و لا في الرجوع، فيجب الأخذ بما خالفهم، لأنّ الرشد في خلافهم. و مورد تلك الأخبار و إن كان صورة الرجوع لكن مقتضى إلقاء الخصوصية الذي يساعده العرف تعرضها لحكم الخروج و الرجوع معا، فتتعارض مع أخبار حدّ الترخص في كلا الطرفين، فيجب طرح تلك الأخبار، أو توجيهها بأن يقال: إن المراد بدخول البيت المذكور فيها هو الوصول إلى حدّ الترخص، من جهة أن العرف يطلقون على من وصل إلى حدود بلده بحيث ظهر له آثاره أنه وصل إلى بيته و منزله و أنه دخلهما، فتدبّر.

هل يعتبر حدّ الترخّص في محلّ الإقامة؟

المسألة الثانية: كما يعتبر حدّ الترخص في الخروج من الوطن و الرجوع إليه كما مرّ فهل يعتبر في محل الإقامة بقسميها أيضا في الدخول و الخروج، أو لا يعتبر مطلقا، أو يفصّل بين الدخول فيه و الخروج منه فيعتبر في الثاني دون الأول؟

في المسألة وجوه.


1- راجع نهاية الأصول- 541، المقصد السابع في الظنّ.

ص: 312

و يوجّه الأوّل: بأن الإقامة قاطعة للسفر موضوعا كما مرّ بيانه في محلّه، فهي تجعل السفر سفرين شرعا. فالمسافر بوصوله إلى محلّ الإقامة يخرج من كونه مسافرا حتى ينشى ء سفرا جديدا، و قد عرفت في المسألة السابقة أنّ اعتبار حد الترخص ليس تعبدا محضا، بل هو من جهة أنّ الشخص ما لم يخرج من فناء البلد و لم يتجاوز عن حدوده و توابعه المتصلة به لا يعدّ بنظر العرف مسافرا، بل يعدّ حاضرا في هذا البلد ما لم يخف عليه آثاره المدركة بالسمع أو البصر، و مقتضى هذا البيان أن يخرج المسافر بوصوله إلى حدّ ترخص محل الإقامة من كونه مسافرا في طرف الدخول، و أن لا يصدق عليه هذا العنوان ما لم يصل إليه في طرف الخروج.

و يوجّه الثاني: بأنّ أدلة ثبوت القصر للمسافر مطلقة، و غاية ما ثبت بسبب الصحيحتين السابقتين تقييدها بالنسبة إلى الوطن فقط، فإنّه و إن لم يذكر فيهما لفظ الوطن و لذلك ربما ادعي إطلاقهما لكل بلد أنشى ء منه السفر لكنهما تنصرفان إلى الوطن قطعا. و يؤيد ذلك قوله في صحيحة ابن سنان: «و إذا قدمت من سفرك فمثل ذلك»، فيبقى محل الإقامة مشمولا لعمومات أدلة القصر. و ما ذكر من وحدة الملاك في الوطن و محل الإقامة بعد تسليم القاطعية الموضوعية ممنوع، إذ العرف أيضا يفرق بينهما، فيعدّ المسافر الذي لم يخف عليه آثار بلده حاضرا فيه، بخلاف من خرج من محل الإقامة، فإنّه بعد ما أعرض عنه بالخروج يصدق عليه عنوان المسافر و إن لم يصل بعد إلى حدّ الترخص. و السرّ في ذلك أن محل الإقامة بالخروج منه يخرج من كونه مقرّا للإنسان بالكلية و يصير بالنسبة إليه كغيره من البلدان.

و يوجّه الثالث: بأنّ الإقامة بعد ما تحققت تقطع السفر و تجعل محلها بمنزلة الوطن فيترتب عليه آثاره، و أما قبل تحققها فلا يترتب على المحل حكم الوطن و لا يخرج الإنسان بالوصول إليه من كونه مسافرا. هذا.

و الأحوط في المسألة هو الجمع. أو تأخير الصلاة إلى أن يصل إلى محلّ لا يشك في حكمه و لا سيما في طرف الدخول.

ص: 313

عدم اعتبار الحدّ في غير الوطن و محلّ الإقامة

المسألة الثالثة: لا يعتبر حدّ الترخص في السفر الشرعي المنشأ من غير الوطن و محل الإقامة.

و ذلك كالعاصي بسفره إذا تبدّل في الأثناء قصده إلى الطاعة، و كالمسافر بلا قصد للمسافة إذا قصدها في الأثناء، و كالمكاري مثلا إذا قصد في الأثناء سفرا في غير شغله، و نحو ذلك.

ففي هذه الموارد يثبت القصر بصرف الشروع في السفر الموجب له، كما يدلّ عليه إطلاقات أدلّة القصر. و غاية ما ثبت بالصحيحتين تقييدها بالنسبة إلى الوطن أو بإضافة محل الإقامة، فيبقى غيرهما مشمولا للإطلاقات.

و السرّ في ذلك ما أشرنا إليه من أن عدم ثبوت القصر بالنسبة إلى من لم يصل إلى حدّ الترخص ليس تعبدا محضا، بل من جهة أنه يعدّ حاضرا في البلد ما لم يتوار عنه جدرانه و لم يخف عليه أذانه، و إنّما يصدق عليه بحسب نظر العرف عنوان المسافر إذا تجاوز الحدّين و خفي عليه آثار البلد بالكلية.

و هذا البيان لا يجري في غير الوطن و ما بحكمه، فإنّ العاصي بالسفر مثلا إذا تبدّل قصده في الأثناء لا يتوقف صدق عنوان المسافر عليه على التجاوز عن حدّ خاص، بل العنوان كان صادقا عليه قبل تبدل القصد أيضا، غاية الأمر عدم ثبوت القصر له لوجود مانع يمنع عنه و هو العصيان، فإذا ارتفع المانع ثبت القصر بلا حالة منتظرة، إذ ليس مكان تبدل القصد مثلا وطنا للمسافر حتى يعد كونه في حدوده و توابعه حضورا فيه و يتوقف صدق عنوان السفر على التجاوز عن حدوده بالكلية، فتدبّر.

ص: 314

إذا اعتقد الوصول إلى الحدّ فصلّى قصرا.

المسألة الرابعة: قال في العروة: «إذا اعتقد الوصول إلى الحدّ فصلّى قصرا ثم بان أنه لم يصل إليه وجبت الإعادة أو القضاء تماما. و كذا في العود إذا صلّى تماما باعتقاد الوصول فبان عدمه وجبت الإعادة أو القضاء قصرا. و في عكس الصورتين بأن اعتقد عدم الوصول فبان الخلاف ينعكس الحكم، فيجب الإعادة قصرا في الأولى و تماما في الثانية». (1)

أقول: إن كان مراده «قده» هو الإعادة أو القضاء في نفس الموضع الذي صلّى فيه أوّلا صحّ ما ذكر، و إن كان مراده الإعادة أو القضاء مطلقا في أي موضع كان، كما هو ظاهر عبارته، فيرد عليه أن هذا الشخص بعد ما وقع صلاته الأولى باطلة يجب عليه أن يراعي في الإعادة وظيفته الفعلية، فإن كان قبل الحدّ أتم و إن كان بعده قصّر. و في القضاء أيضا يجب عليه مراعاة حاله في آخر الوقت، فإنّه زمان الفوت، فإن كان في آخر الوقت قبل الحدّ قضاها تماما، و إن كان بعده قضاها قصرا، فتدبّر.

حكم من وصل في أثناء الطريق إلى ما دون الحدّ

المسألة الخامسة: و قال فيها أيضا: «إذا سافر من وطنه و جاز عن حدّ الترخص ثم في أثناء الطريق وصل إلى ما دون إمّا لاعوجاج الطريق، أو لأمر آخر، كما إذا رجع لقضاء حاجة أو نحو ذلك، فما دام هناك يجب عليه التمام، و إذا جاز عنه بعد ذلك وجب عليه القصر إذا كان الباقي مسافة». (2)


1- العروة الوثقى 2- 138 في الشرط الثامن من شروط القصر، المسألة 68.
2- المصدر السابق 2- 139 في الشرط الثامن، المسألة 69.

ص: 315

أقول: قد مرّ منا سابقا أن مبدأ المسافة يعتبر من البلد لا من حدّ الترخص، فما دون حدّ الترخص يحسب من المسافة مع ثبوت الإتمام فيه قطعا. و على هذا فالوصول إلى ما دون حدّ الترخّص لاعوجاج الطريق و نحوه لا يوجب انقطاع السفر و عدم انضمام المسافة السابقة إلى اللاحقة، و لا يجعل السفر سفرين، بل القسمة الواقعة فيما دون الحدّ أيضا تحسب من المسافة قطعا، لعدم كونها أسوء حالا من القسمة الواقعة بين البلد و حدّ الترخص في ابتداء السفر، و بالجملة لا ملازمة بين وجوب الإتمام و عدم الاحتساب من المسافة، فلو سلّم وجوب الإتمام عليه إذا وصل إلى ما دون المسافة لاعوجاج الطريق فقاطعيته للسفر و عدم احتساب هذه القسمة من المسافة ممنوعة.

و يمكن أن يستشكل في أصل وجوب الإتمام أيضا، إذ الشخص بخروجه من البلد صار مسافرا حقيقة، و لذا تحسب المسافة من نفس البلد، غاية الأمر أنه ثبت بأدلة اعتبار حدّ الترخص ثبوت الإتمام فيما دونه تعبدا.

و حينئذ فلأحد أن يقول بانصراف الصحيحتين إلى خصوص مبدأ السفر و منتهاه.

فالمسافر ما لم يصل في ابتداء سفره إلى حدّ الترخص لم يثبت له القصر شرعا، بل لعلّ العرف أيضا لا يعتبر خروجه من البلد بالكلية، و قس عليه حكم الانتهاء.

و أمّا في الأثناء فلا دليل على ثبوت الإتمام بعد صدق عنوان السفر حقيقة.

اللّهم إلّا أن يقال بأن اعتبار حدّ الترخص ليس تعبدا محضا كما مرّ سابقا، بل من جهة أنّ المسافر ما لم يتوار عنه آثار بلده لم يعد مسافرا بل يعدّ حاضرا في بلده عرفا، و لا يفرّقون في ذلك بين المبدأ و المنتهى، و بين الأثناء. هذا.

و لكن يرد على ذلك أن مقتضاه اعتبار المسافة أيضا من حدّ الترخص، مع وضوح بطلانه، كما مرّ في محلّه.

ص: 316

حكم الوصول إلى حدّ الترخّص في أثناء الصلاة
اشارة

المسألة السادسة: و قال في العروة أيضا: «إذا كان في السفينة أو العربة فشرع في الصلاة قبل حدّ الترخص بنية التمام، ثمّ في الأثناء وصل إليه، فإن كان قبل الدخول في قيام الركعة الثالثة أتمها قصرا و صحّت، بل و كذا إذا دخل فيه قبل الدخول في الركوع، و إن كان بعده فيحتمل وجوب الإتمام، لأنّ الصلاة على ما افتتحت، لكنّه مشكل، فلا يترك الاحتياط بالإعادة قصرا أيضا. و إذا شرع في الصلاة في حال العود قبل الوصول إلى الحدّ بنية القصر، ثمّ في الأثناء وصل إليه أتمها تماما و صحّت، و الأحوط في وجه إتمامها قصرا ثمّ إعادتها تماما». (1)

أقول: الظاهر أنّ القصر و الإتمام ليسا من العناوين القصدية التي تتعين بالقصد و النية، نظير حيثية الظهرية و العصرية المتقومتين بالقصد، بل صلاة الظهر مثلا إذا حصلت أربعا في الخارج كانت تامّة، و إذا حصلت ثنائية كانت مقصورة. و بعبارة أخرى: ليست المقصورة و التامة طبيعتين مختلفتين متقومتين بالقصد و النية، بل صلاة الظهر مثلا طبيعة واحدة، غاية الأمر أنّها قد توجد في الخارج رباعية فيطلق عليها أنها تامّة، و قد توجد ثنائية فيطلق عليها المقصورة بلا دخل للقصد في ذلك.

نعم حيثية الظهرية و العصرية من العناوين المتقومة بالقصد، نظير حيثية التعظيم و التحقير و نحوهما من العناوين الإنشائية التي لا تنطبق على معنوناتها إلا بالقصد و النية.

و يشهد لذلك ما دلّ على العدول من العصر إلى الظهر، و ما دلّ على بطلان صلاة العصر مثلا إذا أتى بها في الوقت المختص بالظهر، إذ يظهر بذلك أنّ صرف وقوع الصلاة أوّلا لا يكفي في انطباق عنوان الظهر عليها، بل هي أمر تتحقق خارجا بالقصد، و يكون التفاوت بين الظهر و العصر بحسب القصد بعد اشتراكهما بحسب


1- المصدر السابق 2- 138 في الشرط الثامن، المسألة 67.

ص: 317

الصورة. كيف! و لو كانت الظهرية بمجرد وقوع الصلاة أوّلا لم يتصور تقدم العصر عليها، و لم يكن معنى للعدول من إحداهما إلى الأخرى، كما لا يخفى.

و كيف كان فالقصر و الإتمام ليس من العناوين المتحققة بالقصد، بل التفاوت بينهما بصرف وقوع التسليم على رأس الاثنتين أو الأربع.

و على هذا ففي الصورة الأولى من صورتي المسألة و إن كان الشروع في الصلاة بنيّة التمام لكن القصد لا أثر له بل يقع لغوا، و إنّما يجب على المكلف أن يراعي في صلاته العنوان الفعلي المنطبق عليه من كونه بحيث يسمع أذان بلده أو لا يسمع، فيتمّها على حسب وظيفته الفعلية، فإن وصل في حال التشهد الأوّل مثلا إلى مكان لا يسمع فيه الأذان صار مشمولا لقوله عليه السلام: «و إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر». (1) و لا يضر بذلك وقوع ما سبق بقصد التمام، فإنّ هذا القصد لا يوجب تعين المأتي به، لما عرفت من عدم كون القصر و الإتمام من العناوين القصدية المتعينة بالقصد و النية.

و بهذا البيان يندفع ما استدلّ به على وجوب الإتمام في مفروض المسألة من أنّ الصلاة على ما افتتحت، لاختصاص ذلك بالعناوين المتقومة بالقصد مثل الظهرية و العصرية و نحوهما.

و قد ظهر بما ذكرنا أنّه لو التفت قبل القيام للثالثة إلى قرب الوصول إلى حدّ الترخص لم يجز له القيام، بل وجب عليه أن يصبر حتى يصل إليه و يسلّم. هذا.

و لكن لأحد أن يدّعي انصراف قوله: «و إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر» عن مثل هذا الفرض، إذ المتبادر منه ثبوت القصر لمن وقع جميع صلاته في الموضع الذي لا يسمع فيه الأذان، لا لمن وقع جميع صلاته ما عدا السلام مثلا فيما دون حدّ الترخص ثم وصل إليه فتردد أمره بين أن يسلّم على الثنتين أو يضيف ركعتين.


1- الوسائل 5- 506 (ط. أخرى 8- 472)، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.

ص: 318

و بعبارة أخرى: الظاهر كون الإمام عليه السلام بصدد تعيين الوظيفة لمن أراد أن يشرع في صلاته فقال: «إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر»، أي اقرأ صلاة المقصورة.

و أمّا على فرض شموله للمقام فيصير معناه: اجعل المقروءة مقصورة، و هو خلاف الظاهر جدّا، لا أقول: إنّ قصد الإتمام أوّلا يضرّ حتى يدفع بعدم كون القصر و الإتمام من العناوين القصدية، بل أقول: إنّ الرواية إمّا أن تكون ناظرة إلى بيان الوظيفة لمن أتمّ تشهده مثلا و تردد أمره بين أن يسلّم أو يقوم، فيكون معنى قوله «قصّر»: «اجعل ما بيدك مقصورة»، و إمّا أن تكون ناظرة إلى تعيين الوظيفة لمن أراد أن يشرع في صلاته، و يكون معنى قوله «قصّر»: «اقرأ صلاة مقصورة». و لا يخفى أنّ المتبادر هو الثاني، و أمّا الحمل على الجامع بين المعنيين فمشكل جدا.

و الحاصل أنّ شمول الرواية لمثل من شرع في صلاته قبل الوصول إلى حدّ الترخص بنية الإتمام، و وصل إلى الحدّ في أثنائها مشكل، فيرجع إلى ما هو الأصل في الصلاة، و هو الإتمام، فإنّها بحسب طبعها غير مقصورة، كما يستفاد ذلك مما دلّ على كون عدد الفرائض و النوافل إحدى و خمسين.

و قد اختار هذا القول في التذكرة أيضا، حيث قال: «و لو أحرم في السفينة قبل أن تسير و هو في الحضر، ثم سارت حتى خفي الأذان و الجدران لم يجز له القصر، لأنّه دخل في الصلاة على التمام». (1)

و الظاهر أن مراده «قده» من تعليله هو ما ذكرناه من كون أدلّة القصر ناظرة إلى بيان الوظيفة لمن وقع جميع صلاته في السفر، و لا يشمل إطلاقها لهذه الصلاة التي وقعت عمدتها فيما دون حدّ الترخص، و لم يرد كون القصر و الإتمام من العناوين القصدية، و إن كان ربما يوهمه ظاهر كلامه، فتدبّر.

و ربّما يتمسّك في المقام لإثبات وجوب التمام بالاستصحاب، بتقريب أنّ هذا


1- التذكرة 1- 189 (ط. أخرى 4- 382)، في الشرط الثاني من شروط القصر، المسألة 628.

ص: 319

المكلّف حين ما شرع في هذه الصلاة كان مأمورا بالإتمام فيستصحب.

و فيه أنّ الذي ثبت وجوب الإتمام فيها هي الصلاة الواقعة بأجمعها فيما دون الحدّ، و أمّا الصلاة التي يقع بعضها فيما دون الحدّ فحكمها مشكوك فيه من أوّل الأمر، إذ لو علم المصلّي من أول الأمر أنّ صلاته هذه لا تقع بأجمعها فيما دون الحدّ لكان يشكّ في وظيفته من الأوّل. هذا.

مضافا إلى أنّ الرجوع إلى الأصل إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام دليل اجتهادي، و فيما نحن فيه تكون عمومات أدلّة الإتمام محكمة كما مرّ.

هذا كلّه فيما يتعلق بالصورة الأولى، و مما ذكرناه يظهر حكم الصورة الثانية أيضا، أعني ما إذا شرع في الصلاة في حال العود قبل الوصول إلى الحدّ بنيّة القصر ثم في الأثناء وصل إليه.

ثمّ لا يخفى أنّ نظائر هذه المسألة كثيرة:

منها: ما إذا شرع المتردد في الإقامة في صلاته بنيّة القصر و في أثنائها كمل الثلاثون.

و منها: ما إذا شرع العازم على الإقامة في صلاته بنيّة الإتمام و في أثنائها تبدّل قصده إذا كانت هذه الصلاة أوّل صلاة تامّة شرع فيها.

حكم من بدا له الإقامة و هو في الصلاة

و منها: ما إذا شرع المسافر في صلاته بنيّة القصر و في أثنائها عزم على الإقامة.

و قد ورد في هذا الفرض روايتان حكم فيهما بوجوب الإتمام:

الأولى: ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن يقطين أنّه سأل أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن الرجل يخرج في السفر ثمّ يبدو له في الإقامة و هو في الصلاة؟ قال:

«يتمّ إذا بدت له الإقامة.» و رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن يقطين. و رواه الشيخ بإسناده عن علي، عن أبيه. (1)


1- الوسائل 5- 534 (ط. أخرى 8- 511)، الباب 20 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.

ص: 320

الثانية: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سهل، عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يخرج في سفر تبدو له الإقامة و هو في صلاته، أ يتم أم يقصّر؟ قال: «يتم إذا بدت له الإقامة». (1)

و لأحد أن يدّعي استفادة حكم الفروض السابقة أيضا من هاتين الروايتين بسبب إلقاء الخصوصية:

بتقريب أن يقال: إنّ مورد السؤال و إن كان خصوص من بدا له الإقامة في أثناء صلاته، لكن الظاهر بحسب نظر العرف أنّ محطّ نظر السائل في سؤاله هو أنّ المسافر إذا تعين عليه في أوّل صلاته القصر أو الإتمام ثم تبدّل حاله في أثناء الصلاة بنحو يوجب تبدّل الوظيفة، فهل يكون وظيفته بالنسبة إلى الصلاة التي بيده على طبق حالته عند الشروع فيها، أو على طبق الحالة الطارئة في الأثناء.

و على هذا فيستفاد من جواب الإمام عليه السلام أن المدار في تبدّل الحالات هي الحالة الطارئة و إن كان طروءها في أثناء الصلاة.

هذا و لكن دعوى القطع بعدم دخالة خصوصية المورد لا تخلو من إشكال، و لا سيّما مع افتراق مورد الروايتين مع بعض الصور السابقة، كمن شرع في صلاته قبل الوصول إلى حدّ الترخص و في أثنائها وصل إليه، فإنّه قبل الوصول إليه مصداق للحاضر و بعد الوصول إليه يتبدّل العنوان حقيقة، فيصير مصداقا للمسافر، و أمّا في مورد الرواية فيكون الشخص قبل أن يبدو له الإقامة مصداقا للمسافر، و بعد ما عزم عليها أيضا يكون مصداقا، له غاية الأمر تبدّل وظيفته حسب تبدّل القصد و النيّة.

فاستفادة حكم تلك الصورة مثلا مما ورد في بيان وظيفة هذا الشخص مما يشبه القياس مع الفارق، فتدبّر.


1- المصدر السابق و الباب، الحديث 2.

ص: 321

خاتمة

اشارة

قد فرغنا من بيان شروط القصر و بقي في باب صلاة المسافر ثلاثة أمور مهمة يجب أن يبحث عنها:

1- هل القصر بعد ما تحقق شروطه رخصة أو عزيمة؟

و من فروع ذلك أيضا البحث عن التخيير في الأماكن الأربعة.

2- حكم من قصّر في موضع الإتمام، أو بالعكس.

3- حكم من كان في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا، أو بالعكس.

القصر في السفر عندنا عزيمة

اشارة

الأمر الأول: القصر في السفر فرض و عزيمة عند أصحابنا، و به نطقت أخبارنا المروية عن الأئمة عليهم السلام.

و وافقنا في ذلك أبو حنيفة أيضا إلّا أنّه قال: إن زاد على ركعتين فإن كان تشهد في الثانية صحّت صلاته، و ما زاد على الثنتين يكون نافلة.

و أمّا أصحابنا الإماميّة فلم يقل أحد منهم في المقام بصحة صلاة من أتمّ عن علم و عمد و إن جلس بقدر التشهد، مع أن بعضا منهم قال بصحة صلاة من زاد في

ص: 322

صلاته ركعة سهوا إذا كان قد جلس بعد الرابعة بقدر التشهد. و لعلّ تسالمهم على البطلان في المقام من جهة الأخبار الواردة في المسألة الحاكمة بوجوب الإعادة على من أتمّ في موضع القصر. هذا.

و قال الشافعي: التقصير في السفر أفضل، و قال المزني: الإتمام أفضل. (1)

ثبوت التخيير في المواطن الأربعة
اشارة

مسألة: يستثني مما ذكرنا من تعيّن القصر في السفر: المواطن الأربعة المعروفة، أعنى مكّة، و المدينة، و المسجد الجامع بالكوفة، و الحائر. حيث إنّ المسافر يختار فيها بين القصر و الإتمام، بل الإتمام أفضل و إن لم ينو المقام.

و الكلام في هذه المسألة في مقامين:

1- في إثبات أصل الحكم.

2- في بيان موضوعه من حيث العدد و من حيث السعة و الضيق.

إثبات أصل الحكم

أمّا المقام الأوّل فملخص الكلام فيه أنّ المشهور من عصر شيخ الطائفة «قده» إلى عصرنا هذا جواز الإتمام في المواطن الأربعة لمن لم يعزم على الإقامة و كونه أفضل من القصر. و عن السيّد المرتضى «قده» تعيّن الإتمام فيها. و عن الصدوق القول بتعيّن القصر على من لم يقم، و حمل ما دلّ على فضل الإتمام فيها على استحباب اختيار الإقامة فيها ليتمّ. (2) هذا.


1- راجع الخلاف 1- 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321، و الوسائل 5- 530 (ط. أخرى 8- 505)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، و المختلف- 132 (ط. أخرى 2- 378)، الفصل الأوّل من الباب الرابع من كتاب الصلاة، المسألة 266.
2- راجع المختلف- 167 (ط. أخرى 2- 552)، الفصل السادس من الباب الرابع من كتاب الصلاة، المسألة 400، و الجواهر 14- 329.

ص: 323

و الأخبار في المسألة كثيرة جدّا، فلنذكر بعضها تيمنا:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن الحسن بن علي بن النعمان، عن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن مهزيار و أبي علي بن راشد جميعا، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: «من مخزون علم اللّٰه الإتمام في أربعة مواطن: حرم الله، و حرم رسوله، و حرم أمير المؤمنين، و حرم الحسين بن علي عليهم السلام.» (1)

2- ما رواه الصدوق مرسلا، قال: قال الصادق عليه السلام: «من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن: مكّة، و المدينة، و مسجد الكوفة، و حائر الحسين عليه السلام.» (2)

3- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن عبد الملك القمي، عن إسماعيل بن جابر، عن عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «تتمّ الصلاة في أربعة مواطن: في المسجد الحرام، و المسجد الرسول، و مسجد الكوفة، و حرم الحسين عليه السلام». و رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد. (3)

4- ما رواه الشيخ بإسناده عنه، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التمام بمكة و المدينة؟ فقال:

«أتمّ و إن لم تصل فيهما إلّا صلاة واحدة.» (4)

5- ما رواه عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إنّ هشاما روى


1- الوسائل 5- 543 (ط. أخرى 8- 524)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 1.
2- المصدر السابق 5- 549 (ط. أخرى 8- 531) و الباب، الحديث 26.
3- المصدر السابق 5- 546 (ط. أخرى 8- 528) و الباب، الحديث 14.
4- المصدر السابق 5- 544 (ط. أخرى 8- 525) و الباب، الحديث 5.

ص: 324

عنك أنّك أمرته بالتمام في الحرمين، و ذلك من أجل الناس؟ قال: «لا، كنت أنا و من مضى من آبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة و استترنا من الناس.» (1)

6- ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام في الصلاة بمكة؟

قال: «من شاء أتمّ، و من شاء قصّر.» (2)

7- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن الحسين بن المختار، عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: قلت له: إنّا إذا دخلنا مكة و المدينة نتمّ أو نقصّر؟ قال: «إن قصّرت فذلك، و إن أتممت فهو خير تزداد.» (3)

8- ما رواه الشيخ بإسناده عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن أبيه، عن محمد بن الحسن، عن الحسن بن متيل، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد اللّٰه، عن صالح بن عقبة، عن أبي شبل، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: أزور قبر الحسين عليه السلام؟ قال: «نعم، زر الطيب و أتمّ الصلاة عنده.» قلت: بعض أصحابنا يرى التقصير؟ قال: «إنما يفعل ذلك الضعفة». و رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد. (4)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المسألة.

و بالجملة الظاهر كون الإتمام في المواطن الأربعة أفضل، وفاقا للمشهور، و يدلّ عليه روايات كثيرة.

و قد عرفت إنكار الصدوق لذلك. و وافقه في ذلك الوحيد البهبهاني و السيّد بحر العلوم «قدهما». (5)


1- المصدر السابق 5- 544 (ط. أخرى 8- 526) و الباب، الحديث 6.
2- المصدر السابق 5- 545 (ط. أخرى 8- 526) و الباب، الحديث 10.
3- المصدر السابق 5- 547 (ط. أخرى 8- 529) و الباب، الحديث 16.
4- المصدر السابق 5- 545 (ط. أخرى 8- 527) و الباب، الحديث 12.
5- راجع الجواهر 14- 330.

ص: 325

و لعل مستند هما ما يستفاد من بعض الروايات من استقرار بناء الفقهاء من أصحابنا المعاصرين للأئمة عليهم السلام عملا على التقصير، مع كون أخبار الإتمام بمرآهم و كونهم بأنفسهم راوين لها:

فعن جعفر بن محمّد بن قولويه في كتاب كامل الزيارات عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّٰه، قال: سألت أيّوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد: مكّة، و المدينة، و الكوفة، و قبر الحسين عليه السلام الأربعة و الذي روي فيها؟ فقال: أنا أقصّر، و كان صفوان يقصّر، و ابن أبي عمير و جميع أصحابنا يقصّرون. (1)

و روى الشيخ بإسناده عن على بن مهزيار، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام: إن الرواية قد اختلفت عن آبائك عليهم السلام في الإتمام و التقصير للصلاة في الحرمين، فمنها: بأن يتمّ الصلاة و لو صلاة واحدة، و منها: أن يقصّر ما لم ينو مقام عشرة أيّام، و لم أزل على الإتمام فيهما إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليّ بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة أيام، فصرت إلى التقصير، و قد ضقت بذلك حتى أعرف رأيك.

فكتب عليه السلام إليّ بخطّه: «قد علمت- يرحمك اللّٰه- فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما، فأنا أحب لك إذا دخلتهما أن لا تقصر و تكثر فيهما من الصلاة».

فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة: إنّي كتبت إليك بكذا، و أجبتني بكذا.

فقال: «نعم» فقلت: أيّ شي ء تعني بالحرمين؟ فقال: «مكّة و المدينة». الحديث. (2)

و الحاصل أنّه يستفاد من خلال الأخبار أنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام من الطبقة السادسة و السابعة و الثامنة كان بناؤهم فتوى و عملا على التقصير مع كونهم راوين لأخبار الإتمام، و قد عرفت منّا مرارا أنّ الشهرة الفتوائية كانت بمرتبة من الأهمية عند


1- كامل الزيارات- 248، الباب 81. الحديث 7.
2- راجع الوسائل 5- 544 (ط. أخرى 8- 525)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4، عن التهذيب 5- 428. و ما نقل هنا يوافق نقل الكليني «ره» في الكافي 4- 525.

ص: 326

الشيعة بحيث كانوا يطرحون لأجلها الأخبار المخالفة لها و يحملونها على التقية أو على محامل أخر، و وجه ذلك أنّ اشتهار الفتوى بين أصحاب الأئمة و بطانتهم المطلعين على مذاقهم عليهم السلام مما يكشف كشفا قطعيا عن مرادهم الجدّي.

و بالجملة الشهرة في المقام موهنة لأخبار الإتمام و إن كانت مستفيضة بل متواترة إجمالا، فيجب حملها على التقية، أو على ما حملها الصدوق من استحباب العزم على الإقامة حتى يتمّ.

فإن قلت: يأبى هذا الحمل ما دلّ على فضل الإتمام و إن مرّ بهما مارا أو لم يصلّ فيهما إلّا صلاة واحدة.

قلت: أكثرها قابلة لهذا الحمل، و ما لا يقبله خبر واحد يطرح بسبب الشهرة على خلافه.

فإن قلت: ردّ هذه الشهرة ذيل صحيحة ابن مهزيار.

قلت: الرواية غير مقطوع الصدور، فلا تقبل لردّ الشهرة.

فإن قلت: يعارض هذه الشهرة على الإتمام من عصر الشيخ «قده» إلى زماننا هذا.

قلت: لا اعتداد بالشهرة المتأخرة، كيف! و لو فرضنا أنفسنا في عصر الشيخ لم نجد إلّا اشتهار القصر بين أصحاب الأئمة، و لا يعقل كون الشهرة المتأخرة حجة لمن تقدم عليها.

هذه غاية ما يمكن أن يقرّب بسببه كلام الصدوق و العلمين «قدهم».

أقول: لا يخفى اختلاف أخبار المسألة بحسب الظاهر و المضمون: فظاهر كثير منها تعيّن الإتمام و في بعضها التصريح بالإتمام و لو كانت صلاة واحدة و في بعض منها أنّ الإتمام في الحرمين من الأمر المذخور، أو من مخزون علم اللّٰه، و المستفاد من طائفة أخرى منها ثبوت التخيير بين القصر و الإتمام و كون الإتمام أفضل، و بإزاء هاتين

ص: 327

الطائفتين الطائفة ثالثة تدلّ على تعيّن القصر ما لم يعزم على مقام عشرة أيام.

إذا عرفت هذا فنقول: حمل أخبار الإتمام على استحباب العزم على المقام حتى يتمّ، كما نسب إلى الصدوق، و إن كان لا ينافيه جلّها لكنه يوجب طرح ما يدلّ بالصراحة على الإتمام و إن لم يصلّ فيهما إلّا صلاة واحدة، هذا مضافا إلى أنّه يأبى هذا الحمل ما في بعضها من كون الإتمام من مخزون علم اللّٰه أو من الأمر المذخور، إذ يستفاد من ذلك امتياز هذه المواطن من غيرها من الأماكن، اللهم إلّا أن يقال: إنّ امتيازها من غيرها إنّما هو باستحباب العزم على المقام فيها دون غيرها، و لكنه بعيد جدّا، و كذلك يأبى هذا الحمل صحيحة ابن مهزيار الطويلة، إذ مورد سؤاله صورة عدم العزم على الإقامة. و بالجملة الالتزام بما ذكره الصدوق يوجب طرح كثير من الأخبار.

فإن قلت: يحمل أخبار الإتمام على التقية لا على ما حملها الصدوق.

قلت: لا أرى وجها للتقية في هذه المسألة، إذ المخالفون في باب صلاة المسافر على قولين من غير أن يفرّقوا بين الأماكن: فاختار أبو حنيفة تعيّن القصر، و الشافعي و جمع من أصحابه منهم عثمان و عائشة ثبوت التخيير بين القصر و الإتمام، و لم يفت أحد منهم بتعين الإتمام مطلقا أو في الحرمين حتى يكون الأمر بالإتمام في أخبارنا لموافقة. (1) هذا مضافا إلى دلالة خبر عبد الرحمن بن الحجاج السابقة (الخامسة مما سبق) على عدم كون الأمر بالإتمام للتقية، فراجع.

و كيف كان فالظاهر أن أصل جواز الإتمام في المواطن الأربعة مما لا ريب فيه بحسب الأدلّة، و ما تقدم من شهرة القصر عملا بين أصحاب الأئمة عليهم السلام غير متحققة، بل الظاهر ثبوت الاختلاف في المسألة من أوّل الأمر إلى الآن، إذ لو


1- راجع الخلاف 1- 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321، و التذكرة 1- 186 (ط. أخرى 4- 355)، و المغني 2- 107.

ص: 328

تتبعت الأخبار و تدبّرت فيها ظهر لك أنّ فقهاء الأصحاب في جميع الأعصار كانوا على قولين: فبعضهم يتمّ و بعضهم يقصّر، و منشأ اختلافهم اختلاف الأخبار التي كانت بأيديهم، و قد سرى الاختلاف من فقهاء كلّ طبقة إلى طبقة اللاحقة، و هكذا إلى هذه الأعصار، حيث إنّ سلسلة فقهنا- معاشر الإمامية- لم تنقطع منذ تأسيسه أعني من عصر الصادقين عليهما السلام إلى عصرنا هذا، فكان كلّ طبقة تتلقى الفقه من سابقتها بلا حصول فترة. و أما اختلاف الأخبار فلعلّه لمصالح رآها الأئمة عليهم السلام في إلقاء الاختلاف، و لا ندري ما هو السبب في صدور هذه الأخبار المختلفة، فإنّ أوضاع عصرهم و أحوال صحابتهم ليست بأجمعها مبيّنة لنا. و لعلّ صدور أخبار القصر في المسألة كان لأجل تقيتهم عليهم السلام من بعض الشيعة الضعفة، كما يلوح ذلك من خبر أبي شبل (الثامن مما سبق)، فإنّ عقائد الشيعة و سلائقهم كانت مختلفة جدّا. ألا تنظر إلى تقية فقهاء العصر من بعض مقلّديهم و عدم تمكنهم من إظهار فتاويهم الواقعية لهم و اضطرارهم إلى إظهارها بنحو لا تخالف أنظار الناس و ارتكازاتهم؟

و بالجملة لم يثبت في المسألة شهرة على القصر، فلا محيص عن الرجوع إلى الأخبار، و ما يدلّ منها على جواز الإتمام بلغت في الكثرة حدّا يمكن دعوى القطع بصدور بعضها، و لا يحتمل فيها التقية كما عرفت، فيجب الأخذ بها، و ظهور بعضها في تعيّن الإتمام لا يمنع عن القول بالتخيير بعد صراحة بعضها في التخيير. فيبقى ما تدلّ على تعين القصر، و هي قليلة جدّا لا تقاوم هاتين الطائفتين، و قد عرفت آنفا تأويلها، فتدبّر جيّدا.

بيان موضوع المسألة

و أما المقام الثاني، أعني البحث عن موضوع المسألة فملخّص الكلام فيه أنّ مفاد الأخبار في المقام مختلف جدّا

ص: 329

أما الحرمان فقد عبّر عنهما تارة بالحرمين، و أخرى بحرم اللّٰه و حرم رسوله، و ثالثة بمكة و المدينة، و رابعة بالمسجد الحرام و مسجد الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله.

و أشمل هذه العناوين و أوسعها هو الحرم، فإنّ حدود حرم اللّٰه تعالى كانت معينة من زمن الخليل عليه السلام، و قد نصبت لها أعلام باقية إلى الآن، و هو أوسع من بلد مكة، و حرم الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله حسب ما يستفاد من بعض الأخبار عبارة عما بين جبلي عير و وعير. (1)

و حينئذ فهل المعيار و ما هو تمام الموضوع للحكم هو الحرمان بسعتهما، و يكون ذكر البلد أو المسجد من باب الغلبة، حيث إنّ الصلاة تقع غالبا في المسجدين أو البلدين، أو يكون الموضوع خصوص البلدين أو المسجدين، و يكون ذكر الحرمين من جهة ثبوت الحكم فيهما إجمالا بثبوته في بعضهما؟ في المسألة وجهان.

فإن قلت: لا مجال لاحتمال كون الحرمين تمام الموضوع للحكم بعد ما فسرا في بعض الأخبار بنفس البلدتين، كقوله في صحيحة ابن مهزيار: فقلت أي شي ء تعني بالحرمين؟ فقال: «مكّة و المدينة» (2)، و قوله في رواية عثمان بن عيسى: سألت أبا الحسن عليه السلام عن إتمام الصلاة في الحرمين: مكّة و المدينة. (3)

قلت: يمكن أن يكون سؤال الراوي عن الحرمين و تفسيرهما له لأجل الجهل بالمراد منهما، بأن احتمل كون المراد منهما غير الحرمين المعروفين، لا لأجل الجهل بحدود الحرمين المعروفين و مقدارهما، فيكون جواب الإمام عليه السلام أيضا ناظرا إلى بيان


1- راجع الوسائل 5- 497 (ط. أخرى 8- 460)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12، و ج 10 ص 283 (ط. أخرى 14- 362)، كتاب الحج، الباب 17 من أبواب المزار.
2- الوسائل 5- 544 (ط. أخرى 8- 525)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.
3- المصدر السابق 5- 547 (ط. أخرى 8- 529) و الباب، الحديث 17، عن قرب الإسناد- 123 (ط. أخرى- 300).

ص: 330

المراد منهما إجمالا لا إلى تحديدهما.

اللّٰهم إلّا أن يقال: إنّه من المستبعد جدّا جهل الرواة بهما من حيث الموضع، و لا سيّما مع كون الراوي في الرواية الأولى علي بن مهزيار، و قد ذكر اختلاف الأصحاب في المسألة و أنّه بنفسه كان يتمّ فيهما إلى أن أشاروا إليه بالتقصير. فيعلم من ذلك عدم جهله بالحرمين من حيث الموضع و أن المراد بهما: الحرمان المعروفان، و إنما أراد بسؤاله الاستفسار عن حدودهما التي يثبت فيها الإتمام.

و على هذا فما وقع فيه تفسير الحرمين بالبلدتين يقع مفسرا لجميع أخبار الحرمين، فيرتفع التعارض بينها و بين ما عبّر فيه بالبلدتين.

و حينئذ فيتردد الأمر بين الأخذ بظاهر لفظتي مكة و المدينة و بين تخصيص الحكم بخصوص المسجدين، إذ مقتضى الأوّل كون البلد تمام الموضوع للحكم بلا دخالة لحيثية المسجدية في ذلك، و مقتضى الثاني كون خصوصية المسجدية أيضا دخيلة، فيتعارضان نحو تعارض المطلق و المقيد المثبتين بعد إحراز وحدة الحكم، إذ مع احتمال تعدده لا تنافي بينهما حتى يحمل أحدهما على الآخر.

فإن قلت: لا دليل في المقام على وحدة الحكم، لاحتمال كون الاختلاف بحسب مراتب الفضيلة و الاستحباب، فيكون استحباب الإتمام في المسجدين آكد من غيرهما، فلا تعارض بين الروايات حتى يحمل بعضها على بعض، إذ المعارضة فرع وحدة الحكم، ألا ترى أن المشهور بينهم عدم حمل المطلق على المقيد في المستحبات، و السرّ في ذلك أنه لا سبيل فيها إلى إحراز وحدة الحكم، لاحتمال كون الاختلاف فيها بحسب اختلاف مراتب الفضيلة.

قلت: يبعّد ذلك تصفح أخبار المسألة و ملاحظة الأسئلة و الأجوبة الواقعة فيها، إذ بالدقة فيها يظهر أنّ المقصود في جميعها بيان حكم واحد مختلف فيه بين الأصحاب، و هو أنّ تعيّن القصر على المسافر هل يكون ثابتا مطلقا أو ورد عليه

ص: 331

تخصيص و استثناء بالنسبة إلى بعض المواطن في الجملة؟

فالمقصود في جميع أخبار الإتمام سؤالا و جوابا ثبوت امتياز ما للبلدين من سائر البلدان، فلا يتمشى في المقام احتمال تعدد الحكم أصلا.

فينحصر علاج التعارض في المسألة في حمل المطلق على المقيّد أو بالعكس، و لا يخفى أنّ ظهور دليل المقيّد في دخالة القيد أقوى من ظهور دليل المطلق في كون الحيثية المطلقة تمام الموضوع للحكم، فيجب حمل أخبار البلدين على الأخبار الدالّة على دخالة خصوصية المسجدين، و لا سيّما مع كون المترائى من أخبار البلدين عدم كونها بصدد بيان تمام الموضوع للحكم، بل بصدد بيان أصل ثبوت الحكم إجمالا و امتياز البلدين من غيرهما في الجملة، فالتمسك بالإطلاق فيها مشكل جدّا.

هذا مع انصرافهما إلى خصوص المسجدين، إذ الغالب وقوع الصلاة فيهما، و هذه الغلبة مانعة عن التمسك بالإطلاق.

اللّٰهم إلّا أن يقال: إنّ الغلبة كما تمنع عن التمسك بالإطلاق تمنع عن ظهور دليل المقيد في دخالة القيد أيضا لاحتمال كون القيد واردا مورد الغالب، هذا.

و لكن مع ذلك كلّه الاقتصار على خصوص المسجدين لا يخلو من قوّة إمّا من جهة حمل المطلق على المقيد أو من جهة الأخذ بالقدر المتيقن في الحكم المخالف لعمومات التقصير.

فإن قلت: ليس نسبة المسجد إلى البلد كنسبة المقيد إلى المطلق، بل كنسبة الجزء إلى الكل، بداهة أنه لم يقصد بالمسجد الحرام مثلا مفهوم مكة المقيدة.

قلت: لا يلاحظ النسبة بين المسجد و البلد، بل بين الإتمام في المسجد و الإتمام في البلد، فتدبّر، هذا.

و لكن لا يخفى أنّ تفسير الحرمين في رواية ابن مهزيار بنفس البلدتين لمّا لم يكن بلحاظ تعيين الموضعين من بين بقاع الأرض، لعدم جهل ابن مهزيار بذلك كما مرّ،

ص: 332

فلا محالة يكون بلحاظ تحديد ما هو موضوع الحكم و بيان مقداره، و على هذا فيكون الرواية ظاهرة جدّا في ثبوت الحكم لجميع أجزاء البلدين، فافهم.

هذا تمام الكلام في الحرمين.

و أما مسجد الكوفة ففي روايات عبد الحميد، و حذيفة بن منصور عمن سمع، و أبي بصير، و مرسلة الصدوق، و حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا التعبير ب «مسجد الكوفة». (1)

و في خبر زياد بن مروان القندي التعبير بلفظ «الكوفة». (2)

و في خبر حمّاد بن عيسى و مرسلة الشيخ التعبير ب «حرم أمير المؤمنين». (3)

و الظاهر أنّ المراد به أيضا هو الكوفة كما ورد في بعض الأخبار أنّ مكة حرم اللّٰه، و المدينة حرم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله، و الكوفة حرم أمير المؤمنين عليه السلام. (4) و كونها حرما له من جهة كونها محلا لهجرته عليه السلام كالمدينة للنبي صلّى اللّٰه عليه و آله. و على هذا فلا تشمل النجف.

و أمّا احتمال أن يراد بحرمه مدفنه عليه السلام كما تعارف إطلاق لفظ الحرم في أعصارنا على مدفنه و مدفن سائر الأئمة فبعيد جدّا كما لا يخفى.

و بالجملة الأمر يدور بين بلدة الكوفة و بين خصوص مسجدها، و حيث إنّ أخبار المسجد أكثر وجب الأخذ بها، و عليها يحمل خبر حمّاد و مرسلة الشيخ، حمل المطلق على المقيّد، كما مرّ نظيره في الحرمين. و أمّا خبر زياد فضعيف من حيث السند، فتأمّل.

و أما الموضوع الرابع ففي روايات أبي شبل، و زياد القندي، و إبراهيم بن أبي


1- راجع المصدر السابق 5- 550- 546 (ط. أخرى 8- 532- 528)، الباب 25، الأحاديث 14 و 23 و 25 و 26 و 29.
2- راجع المصدر السابق 5- 546 (ط. أخرى 8- 527) و الباب، الحديث 13.
3- راجع المصدر السابق 5- 543 و 548 (ط. أخرى 8- 524 و 530) و الباب، الحديثين 1 و 24.
4- راجع المصدر السابق 10- 282 (ط. أخرى 14- 360)، كتاب الحج، الباب 16 من أبواب المزار، الحديث 1.

ص: 333

البلاد، و عمرو بن مرزوق التعبير بقوله: «عند قبر الحسين». (1)

و في روايات حمّاد بن عيسى، و عبد الحميد، و حذيفة بن منصور عمن سمع، و أبي بصير، و مرسلة الشيخ التعبير ب «حرم الحسين». (2)

و في مرسلة الصدوق: «حائر الحسين». (3)

و في خبر حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا لفظ «الحائر». (4)

و لا يخفى أنه لا يستفاد من الطائفة الأولى حد معين، إذ العندية مقولة بالتشكيك، و أقرب مراتبها أن يكون المصلّي متصلا بالقبر الشريف، و من الواضح عدم التمكن فعلا من هذه المرتبة مع وجود الضريح المطهر. و إرادة سائر المراتب غير معلومة، فيجب الرجوع إلى مفاد سائر الأخبار فنقول:

أمّا الحرم فيراد به ما يجب احترامه و يحرم انتهاكه، كما في حرم اللّٰه و حرم رسوله و غيرهما.

و قد اختلف الروايات في تحديد حرم الحسين عليه السلام:

ففي رواية: «حريم قبر الحسين عليه السلام خمسة فراسخ من أربع جوانبه». (5) و في رواية أخرى: «حرم الحسين عليه السلام فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر». (6) و في خبر إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: «إنّ لموضع


1- المصدر السابق 5- 545 و 546، و 548 و 550 (ط. أخرى 8- 527 و 530 و 532)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الأحاديث 12 و 13 و 22 و 30.
2- المصدر السابق 5- 543 و 546 و 548 و 549 (ط. أخرى 8- 524 و 528 و 530 و 531) و الباب، الأحاديث 1 و 14 و 23 و 25 و 24.
3- المصدر السابق 5- 549 (ط. أخرى 8- 531) و الباب، الحديث 26.
4- المصدر السابق 5- 550 (ط. أخرى 8- 532) و الباب، الحديث 29.
5- التهذيب 6- 71، كتاب المزار، الباب 22، الحديث 1.
6- المصدر السابق، الحديث 2.

ص: 334

قبر الحسين عليه السلام حرمة معروفة من عرفها و استجار بها أجير.» قلت: فصف لي موضعها جعلت فداك. قال: «امسح من موضع قبره اليوم خمسة و عشرين ذراعا من قدّامه، و خمسة و عشرين ذراعا من عند رأسه، و خمسة و عشرين ذراعا من ناحية رجليه، و خمسة و عشرين ذراعا من خلفه. و موضع قبره من يوم دفن فيه روضة من رياض الجنة.» الحديث. (1)

و روى عبد اللّٰه بن سنان عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سمعته يقول:

«قبر الحسين عليه السلام عشرون ذراعا مكسرا روضة من رياض الجنة.» (2)

و الظاهر حمل اختلاف الروايات على مراتب الفضل و الشرف، فيكون عنوان الحرم أيضا مقولا بالتشكيك، و القدر المتيقن منه في المقام ما تدلّ عليه الرواية الأخيرة، و يصدق على هذا المقدار عرفا مفهوم العندية أيضا كما لا يخفى. هذا.

و أمّا الفقهاء فالمذكور في كلماتهم لفظ الحائر، و قد أطلق الحائر و الحير في كثير من الأخبار على مدفنه عليه السلام، كما ورد أنّ علي بن محمد النقي عليه السلام لما اشتدّ مرضه قال:

«ابعثوا إلى الحير.» (3)

و روى الطبري ما حاصله: أنّ الرشيد أمر بإحضار ابن أبي داود- و كان عند الحير-، فقال له الحسن بن راشد: إنّه إن سألك عن سبب سكونتك في الحير فقل له:

أمرني بذلك أمّ موسى، فلمّا حضر عند الرشيد و سأله هو عن ذلك أجابه بما لقّنه الحسن، فلها عنه، و أمر بهدم القبر في آخر هذه السنة. (4) هذا.


1- المصدر السابق، الحديث 3، و الكافي 4- 588، كتاب الحج، باب النوادر، الحديث 6.
2- التهذيب 6- 72، الحديث 4.
3- الكافي 4- 567، كتاب الحج، أبواب الزيارات، الباب 14، الحديث 3. و راجع كامل الزيارات- 272، الباب 90، و بحار الأنوار 98- 112 (ط. إيران 101- 112)، كتاب المزار، الباب 32. و فيه: «يا أبا هاشم، ابعث رجلا من موالينا إلى الحير يدعو اللّٰه لي».
4- «تاريخ الأمم و الملوك» لابن جرير الطبري 6- 536. و لم نجد فيه مضمون الجملة الأخيرة، و لكن حكى أصل أمره بالهدم في أعيان الشيعة 1- 627 عن كتاب تسلية المجالس. و راجع أمالي الشيخ 1- 333 أيضا.

ص: 335

و يستفاد من كلمات اللغويين أيضا أنّ المراد بالحير و الحائر مدفن الحسين عليه السلام. (1)

فهذا إجمالا مما لا ريب فيه، و إنما الإشكال في أنّ المراد بهما مدفنه عليه السلام بسعته أعني أرض كربلاء، أو خصوص الموضع المنخفض الذي وقع القبر الشريف في وسطه، حيث إنّ اللفظين بحسب أصلهما يطلقان على الأرض المنخفضة من جهة أن الماء إذا جمع فيها يحار فيها و لا يجد طريقا إلى الجريان و الخروج، أو خصوص ما دار عليه جدران حرمه الشريف فعلا؟ فيه وجوه.

و في السرائر: «و المراد بالحائر: ما دار سور المشهد و المسجد عليه، دون ما دار سور البلد عليه، لأنّ ذلك هو الحائر حقيقة، لأنّ الحائر في لسان العرب: الموضع المطمئن الذي يحار الماء فيه، و قد ذكر ذلك شيخنا المفيد في الإرشاد في مقتل الحسين عليه السلام، لمّا ذكر من قتل معه من أهله، فقال: و الحائر محيط بهم إلّا العباس عليه السلام، فإنه قتل على المسناة». (2)

و لا يخفى إجمال ما قاله ابن إدريس أيضا بحسب المقدار و الحدّ، حيث لم يبق السور الذي كان دائرا في الأزمان السابقة على المشهد الشريف، و لا يعلم موضعه، و قد اختلف جدّا بحسب التغييرات الحاصلة في الأعصار المختلفة.

ثم المراد بالسور هل هو سور الحرم، أو الرواق، أو الصحن الشريف؟

كلّ محتمل، فلا بدّ أن يقتصر في المقام على القدر المتيقن، فإنّ أخبار الإتمام في المقام بالنسبة إلى أدلة القصر في السفر من قبيل المخصص المنفصل المجمل، فيقتصر


1- راجع القاموس المحيط 2- 16- 15، و لسان العرب 4- 223 و 226، و الصحاح 2- 641.
2- السرائر 1- 342، باب صلاة المسافر.

ص: 336

في التخصيص على الأقلّ، كما لا يخفى وجهه على من تأمل.

نعم الظاهر أنّ ما تضمنه رواية عبد اللّٰه بن سنان السابقة، أعني عشرين ذراعا مكسرا، هو القدر المتيقن من بين ما يستفاد من أخبار الباب. و ما ذكر فيها من كونه روضة من رياض الجنة أيضا يناسب حكم الإتمام، فإنّ الإتمام إنّما هو لشرف المكان و فضله، و القدر المتيقن من الحرم و الحائر و العندية أيضا ليس بأضيق ممّا دلّ عليه هذه الرواية قطعا، فيجوز الأخذ بهذا المقدار بلا إشكال.

و لا يخفى أنّ مقتضى ذلك ثبوت الحكم في كلّ طرف من أطراف القبر الشريف بمقدار خمسة أذرع تقريبا، إذ القبر يقرب من عشرة أذرع.

و كيف كان فأصل الحكم مما لا يقبل الإنكار، لدلالة الأخبار عليه و اشتهاره بين الأصحاب أيضا، فلا وجه لتشكيك صاحب المدارك فيه و تخصيصه الحكم بالحرمين، (1) فتدبّر.

حكم من أتمّ في موضع القصر

اشارة

الأمر الثاني: إذا تعين القصر فأتمّ فصوره أربع:

1- أن يكون عن علم و عمد.

2- أن يكون ناشئا عن الجهل بالحكم.

3- أن يكون ناشئا عن نسيان الحكم.

4- أن يكون ناشئا عن نسيان الموضوع.

ففي الصورة الأولى يجب الإعادة في الوقت و خارجه عند علمائنا أجمع، (2) و يدلّ عليه أيضا الأخبار الآتية.


1- راجع المدارك 4- 467.
2- راجع مفتاح الكرامة 3- 601.

ص: 337

و في الصورة الثانية أفتى المشهور بعدم وجوب الإعادة لا في الوقت و لا في خارجه إن كان منشأ الإتمام الجهل بأصل ثبوت القصر للمسافر، لا الجهل بالخصوصيات الأخر، كوجوب القصر على من كثر سفره مثلا في السفر الأوّل. (1)

و في الصورة الرابعة أفتوا بوجوب الإعادة في الوقت لا في خارجة. (2)

و سيظهر حكم الصورة الثالثة أيضا في أثناء البحث.

أخبار المسألة و وجه الجميع بينها

و العمدة في المقام هو الجمع بين أخبار المسألة، و هي خمسة، فلنذكرها ثم نشرح مفادها:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حماد بن عثمان، عن عبيد اللّٰه بن علي الحلبي، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: صلّيت الظهر أربع ركعات و أنا في سفر؟ قال: «أعد.» (3)

و مقتضى ترك الاستفصال في الرواية شمولها للعالم، و الجاهل و الناسي بأقسامهما. و الظاهر أنّ قوله: «أعد» أيضا مطلق يشمل الإعادة في الوقت و خارجه.

لا يقال: إنّ مثل الحلبي لا يصلّي صلاته على خلاف ما أمر به عن علم و عمد.

فإنّه يقال: الظاهر إنّه لم يرد بسؤاله السؤال عن حكم واقعة شخصية اتفقت لنفسه، بل كان بصدد استعلام حكم المسألة بنحو الإطلاق، و إنّما ذكر نفسه من باب المثال. (4)


1- راجع المختلف- 164 (ط. أخرى 2- 537)، الفصل السادس من الباب الرابع من كتاب الصلاة، المسألة 395، و الحدائق 11- 431، و مفتاح الكرامة 3- 602.
2- راجع المختلف- 164 (ط. أخرى 2- 537)، المسألة 395، و الجواهر 14- 343.
3- الوسائل 5- 531 (ط. أخرى 8- 507)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 6.
4- و لو سلّم انصرافها عن العالم العامد موضوعا دلّت على حكمه بالفحوى، كما لا يخفى.

ص: 338

و بالجملة يستفاد من الرواية وجوب الإعادة في جميع صور المسألة.

2- ما رواه في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد عليه السلام في حديث شرائع الدين، قال: «و التقصير في ثمانية فراسخ، و هو بريدان. و إذا قصرت أفطرت. و من لم يقصّر في السفر لم تجز صلاته، لأنّه قد زاد في فرض اللّٰه عز و جل.» (1)

و هذه الرواية أيضا كسابقتها تشمل جميع صور المسألة، و الحكم فيها أيضا يعمّ الوقت و خارجه.

3- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن رجل صلّى و هو مسافر فأتمّ الصلاة؟ قال: «إن كان في وقت فليعد، و إن كان الوقت قد مضى فلا.» و رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب، و بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين. (2)

و ربما يدّعى انصراف الرواية إلى خصوص الناس للموضوع (3)، فلو سلّم ذلك فهو، و إلّا فتحمل بسبب ترك الاستفصال على العموم. نعم لا يبعد دعوى انصرافها عن العالم العامد، إذ يبعد جدا إتمام المسافر عمدا مع علمه بتعيّن القصر عليه و التفاته إلى ذلك.

4- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان، عن سويد القلاء، عن أبي أيّوب، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سألته عن الرجل ينسى فيصلّي في السفر أربع ركعات؟ قال: «إن ذكر في ذلك


1- الوسائل 5- 532 (ط. أخرى 8- 508)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.
2- المصدر السابق 5- 530 (ط. أخرى 8- 505) و الباب، الحديث 1.
3- راجع كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري «قده»- 403، و الجواهر 14- 348.

ص: 339

اليوم فليعد، و إن لم يذكر حتى يمضي ذلك اليوم فلا إعادة عليه.» و روى الصدوق بإسناده عن أبي بصير نحوه. (1)

و ربما يتوهم شمول قوله: «ينسى» لكلّ من ناسي الموضوع و ناسي الحكم.

أقول: إطلاقه إنّما هو بتبع إطلاق متعلقة، و ليس متعلقة مذكورا في كلام السائل، و يبعد جدّا أن يكون متعلقة في نظره لفظا عاما كلفظة «شيئا» مثلا حتى يعمّ الحكم و الموضوع معا، بل الظاهر أنّ نظره كان إلى أحدهما، غاية الأمر أنّه لم يذكره، و الأظهر كونه ناظرا إلى نسيان الموضوع، فإنّ نسيان حكم السفر، أعني وجوب القصر، بعد العلم به بعيد جدّا، و إنّما الذي يتفق غالبا هو نسيان الموضوع و الغفلة عنه.

و بالجملة شمول النسيان المذكور في كلام السائل لنسيان الموضوع و الحكم معا مشكل. نعم لو لم يكن المتبادر من سؤاله نسيان الموضوع أمكن أن يستدلّ على العموم بترك استفصال الإمام عليه السلام، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظاهر رجوع تفصيل الإمام عليه السلام في هذه الرواية إلى التفصيل الوارد في رواية العيص، إذ الظاهر بقرينة لفظ اليوم فرض السائل وقوع النسيان في صلاة نهارية مثل الظهر أو العصر، و مضى اليوم في مثلهما مساوق لمضي الوقت، فليس لمضي اليوم بما هو يوم خصوصية، و إنّما الاعتبار بمضي الوقت كما في رواية العيص.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الرواية و إن اختصت بالناسي فلا تدلّ على حكم غيره، لكنها لا تنافي الروايات العامة السابقة كرواية العيص مثلا، لإمكان اشتراك غير الناسي أيضا معه في هذا الحكم غاية الأمر سكوت الرواية عنه من جهة كون المسؤول عنه خصوص الناسي.

و على هذا فمقتضى الجمع بين الروايات المذكورة إلى هنا حمل الروايتين


1- الوسائل 5- 530 (ط. أخرى 8- 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

ص: 340

الأوليين على رواية العيص حمل المطلق على المقيد، فإنّ الثلاثة مطلقة بحسب الموضوع، و لكن الحكم بالإعادة في الأوليين مطلق و في رواية العيص فصل فيه بين الوقت و خارجه.

فالمتحصل من الجميع بعد الجمع العرفي هو أن المتمّ في موضع القصر بعيد في الوقت دون خارجه عالما كان أو جاهلا أو ناسيا، إن لم نقل بانصراف رواية العيص عن العالم العامد كما هو الظاهر، و إلّا كان المرجع في حكم العامد ما يقتضيه العمومات و الأصل الأوّلي من وجوب الإعادة مطلقا.

5- ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي نجران، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز عن زرارة و محمّد بن مسلم، قالا: قلنا لأبي جعفر عليه السلام: رجل صلى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟ قال: «إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه.» و رواه الصدوق بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم. (1)

و الظاهر أنّ المراد من قوله: «و فسرت له» تفسيرها بنحو يستفاد منها تعيّن القصر، حيث إن المستفاد منها بدون التفسير كون القصر رخصة لا عزيمة، و قد أخذ بذلك أكثر المخالفين كما عرفت. فمحصل كلامه عليه السلام: أنه إن كان قرئت عليه الآية و علم وجوب القصر بسبب تفسيرها أعاد، و إن لم تقرأ أو قرئت و لم تفسر له بنحو يستفاد منها الوجوب و العزيمة فلا إعادة عليه.

ثمّ إنّ المراد بالفقرة الثانية خصوص الجاهل بأصل وجوب القصر على المسافر، لا الأعمّ منه و من الجاهل بالخصوصيات، كمن علم بأصل وجوب القصر عليه و لكنه لم يعلم أنّ من كثر سفره مثلا إذا أقام في بلده عشرا وجب عليه القصر في السفر الأوّل، أو أنّ العاصي بسفره إذا عدل إلى الطاعة في الأثناء و كان الباقي مسافة وجب


1- الوسائل 5- 531 (ط. أخرى 8- 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.

ص: 341

عليه أن يقصّر، و نحو ذلك، ففي هذه الموارد إذا أتمّ جهلا بوظيفته لم يشمله الفقرة الثانية من الحديث، بداهة أنّ المستفاد من قراءة آية القصر و تفسيرها ليس أزيد من وجوب القصر على المسافر بحسب طبعه الأوّلي، و أمّا الخصوصيات الأخر فلا تستفاد منها، فيدخل الجاهل بهذه الخصوصيات في الفقرة الأولى من الحديث إن استفدنا منها العموم، أو في موضوع رواية العيص و نحوها من الروايات العامة الحاكمة بوجوب الإعادة المحمولة على رواية العيص لا محالة حمل المطلق على المقيد كما عرفت بيانه. و بالجملة الفقرة الثانية من الحديث تختصّ بمن جهل أصل وجوب القصر على المسافر.

و أمّا الفقرة الأولى من الرواية فهل تشمل جميع الأقسام أو لا؟ الظاهر انصرافها عن العالم العامد، لما عرفت من أنّه يبعد جدّا إتمام العالم بوجوب القصر عليه عن عمد و التفات. (1)

و يمكن أن يدّعى انصرافها إلى خصوص ناسي الحكم، كما يشعر بذلك التعبير بالماضي في قوله: «إن كان قرئت عليه.».

و على هذا فكلتا الفقرتين ناظرتان إلى جهة الحكم، و يكون المفروض فيهما جهل المكلف بوظيفته حين صلاته، فيصير محصّل جواب الإمام عليه السلام: أنّ المتمّ عن جهل بالحكم إن لم يعلم به أصلا لم يعد، و إن علم به ثم نسيه فعليه الإعادة، و قد عرفت دلالة الروايتين الأوليين أيضا على وجوب الإعادة مطلقا في جميع الصور.

و حينئذ فلو سلم انصراف رواية العيص أيضا إلى ناسي الموضوع كما ادّعي صار المتحصل من مجموع روايات المسألة وجوب الإعادة على العالم و العامد مطلقا، و كذا على الجاهل بالخصوصيات و الناسي لأصل الحكم، و عدم وجوبها على الجاهل


1- نعم تدلّ الرواية على وجوب الإعادة عليه بالفحوى، كما لا يخفى.

ص: 342

بأصل الحكم كذلك، و التفصيل بين الوقت و خارجه في ناسي الموضوع، و هذا هو الموافق للمشهور كما عرفت.

هذا كلّه بناء على تسليم تلك الانصرافات.

و أمّا على تقدير عدم تسليمها فنقول: إنّ روايتي الحلبي و الأعمش كما عرفت مطلقتان موضوعا و حكما، فتحملان على روايتي العيص و زرارة و محمّد بن مسلم حمل المطلق على المقيد، فيبقى الكلام في الجمع بين رواية العيص و رواية زرارة و محمد بن مسلم، و النسبة بين رواية العيص و كلّ واحدة من فقرتي روايتهما عموم من وجه:

فإن أخذ بإطلاق كلتا الفقرتين من روايتهما لزم طرح رواية العيص رأسا، فإنّ الفقرتين تعمّان جميع الأقسام موضوعا، و إطلاق الحكم بوجوب الإعادة في الفقرة الأولى و بعدم وجوبها في الفقرة الثانية أيضا يشمل الوقت و خارجه.

و إن عكس الأمر، فأخذ بإطلاق رواية العيص موضوعا و حمل الفقرتان من روايتهما عليها بحمل الأولى الحاكمة بوجوب الإعادة على الوقت و الثانية الحاكمة بعدم الوجوب على خارجه، فيصير محصل المجموع اشتراك العالم و الجاهل و الناسي مطلقا في وجوب الإعادة في الوقت و عدم وجوبها في خارجه، صار مقتضاه طرح روايتهما، إذ هي صريحة في افتراق العالم و الجاهل و كون الجهل سببا للعذر، مع أنّ مقتضى ما ذكرت من حملها على رواية العيص عدم التفاوت بين العالم و الجاهل أصلا.

فيبقى في المقام احتمالان آخران:

الأوّل: أن يقيّد بسبب رواية العيص الفقرة الثانية من روايتهما و يجعل الفقرة الأولى من روايتهما باقية على إطلاقها، فيصير مقتضى ذلك وجوب الإعادة على العالم و الناسي بقسميه و الجاهل بالخصوصيات، سواء كان في الوقت أو في خارجه،

ص: 343

و ثبوت التفصيل في الجاهل بأصل الحكم بين الوقت و خارجه.

الثاني: أن يقيّد بسبب رواية العيص الفقرة الأولى من روايتهما و يبقى الفقرة الثانية على إطلاقها، فيصير مقتضاه عدم وجوب الإعادة على الجاهل بأصل الحكم مطلقا و ثبوت التفصيل بين الوقت و خارجه في العالم و الناسي بقسميه و الجاهل بالخصوصيات.

و على كلا الاحتمالين يفترق الجاهل و العالم و لا يلزم طرح رواية العيص و لا روايتهما.

نعم الاحتمال الأوّل مخالف لما عليه المشهور (1)، إذ المشهور كون الجاهل بأصل الحكم معذورا مطلقا من غير فرق بين الوقت و خارجه. و أمّا الاحتمال الثاني فيقرب من قولهم بعد إخراج العالم العامد الملتفت بادعاء انصراف الروايتين عنه، إذ مقتضى هذا الاحتمال على هذا عدم وجوب الإعادة على الجاهل بأصل وجوب القصر لا في الوقت و لا في خارجه، و التفصيل بين الوقت و خارجه في الناسي بقسميه و الجاهل بالخصوصيات، و أمّا العالم العامد فيحكم بانصراف الروايتين عنه من أوّل الأمر، لما عرفت من أنّ الإنسان الذي هو بصدد الإطاعة يبعد جدا أن يخالف وظيفته مع العلم و العمد، و على فرض عدم الانصراف أيضا يخرج من عموم الروايتين بالإجماع.

و بالجملة الاحتمال الثاني- أعني التصرف في الفقرة الأولى من رواية زرارة و محمد بن مسلم بسبب التفصيل الوارد في رواية العيص و إبقاء الفقرة الثانية على إطلاقها- يقرب من قول المشهور إلّا بالنسبة إلى العالم العامد، و هو أيضا خارج من أوّل الأمر إمّا بالانصراف أو بالإجماع.


1- و لرواية أبي بصير أيضا، حيث فصل فيها بالنسبة إلى الناسي بين الوقت و خارجه، بناء على حمل التفصيل الواقع فيها على ذلك كما عرفت. ح ع- م.

ص: 344

و على هذا فيجب أن يؤخذ بهذا الاحتمال دون الأوّل.

هذا مضافا إلى أنّ حفظ ظهور الروايتين أيضا يقتضي تقديم هذا الاحتمال.

توضيح ذلك أنّ الظاهر كون محطّ النظر في رواية زرارة و محمّد بن مسلم بيان كون الجهل معذّرا و موجبا لسقوط الإعادة، كما هو مفاد الفقرة الثانية، و أمّا وجوب الإعادة على العالم كما هو مفاد الفقرة الأولى فليس فيه إعمال للتعبد أصلا، إذ هو مقتضى الأصل في التكليف الذي لم يمتثل، فليست الرواية بصدد بيان حكمين، أعني وجوب الإعادة في بعض الصور و عدم وجوبها في بعضها، بل هي بصدد بيان حكم واحد، و هو سقوط الإعادة عن الجاهل بسبب جهله.

و على هذا فيكون ظاهر الرواية كون الجهل تمام الموضوع لسقوط الإعادة التي يقتضيها الأصل الأوّلي.

و كذلك محطّ النظر في رواية العيص بيان كون مضي الوقت موجبا لسقوط الإعادة، و أمّا عدم سقوطها في الوقت فليس فيه إعمال تعبد زائد.

فالروايتان سيقتا لبيان ما يكون معذّرا و يوجب سقوط الإعادة بعد كون مقتضى القاعدة عدم السقوط. فظاهر رواية زرارة و محمّد بن مسلم كون الجهل بنحو الإطلاق تمام الموضوع لسقوط الإعادة، و ظاهر رواية العيص كون مضي الوقت تمام الموضوع له، و مقتضى الجمع بين الروايتين أن يقال: إنّ كلّا منهما تمام الموضوع بحيث لا يحتاج في كونه معذّرا إلى ضمّ الآخر، فيكون للعذر علتان مستقلتان غاية الأمر أنّهما تجتمعان في الجاهل بالنسبة إلى خارج الوقت، و هذا هو الموافق للاحتمال الثاني من الاحتمالين.

و أمّا بناء على الأوّل منهما فيلزم سقوط كلّ من الجهل و مضي الوقت عن كونه علة تامّة للعذر، و كون العذر متوقفا على تحقق كليهما، و هذا مخالف لظاهر الروايتين.

و بالجملة حفظ الظهور في كلتا الروايتين يقتضي القول بكون كلّ من الجهل

ص: 345

و مضي الوقت علة تامة للعذر غاية الأمر اجتماعهما معا في الجاهل بالنسبة إلى خارج الوقت.

و حينئذ فيوافق مفادهما لما عليه المشهور بعد إخراج العالم العامد، إذ المشهور بينهم كما عرفت عدم وجوب الإعادة على الجاهل بوجوب القصر مطلقا، و التفصيل بين الوقت و خارجه في الناسي، و وجوب الإعادة مطلقا على العالم العامد، بل هو إجماعي كما مرّ.

و أمّا ما حكي عن العماني من القول بوجوب الإعادة على الجاهل مطلقا، و عن الإسكافي و الحلبي من وجوب الإعادة عليه في الوقت دون خارجه، (1) فيردّهما الشذوذ. و لعلّ العماني لم يعثر في المسألة إلّا على روايتي الحلبي و الأعمش، و الإسكافي و الحلبي لم يعثرا على رواية زرارة و محمّد بن مسلم، فتدبّر.

هذا كلّه حكم من أتمّ في موضع القصر بالنسبة إلى صلاته. و مثل ذلك أيضا صومه، كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة (2) اشتهر بينهم العمل بها. فما في الجواهر في المقام من قوله: «و لا يبعد إلحاق الصوم بالصلاة» (3) لا يخلو عن شي ء، إذ التعبير بالإلحاق إنّما يصحّ فيما إذا لم يكن المسألة بخصوصها منصوصا عليها.

تذنيب في حكم من قصّر في موضع الإتمام

لا يخفى أنّ ما ذكر إلى هنا كان بالنسبة إلى من أتمّ في موضع القصر، و أمّا من قصّر في موضع الإتمام فيجب عليه الإعادة مطلقا، وفاقا للمشهور، (4) و لما يقتضيه القاعدة الأوّلية، حيث إنّه لم يمتثل ما هو وظيفته.


1- راجع المختلف- 164 (ط. أخرى 2- 538)، المسألة 395، و الكافي للحلبي- 116.
2- راجع الوسائل 7- 127 (ط. أخرى 10- 179)، الباب 2 من أبواب من يصحّ منه الصوم.
3- الجواهر 11- 345.
4- راجع الروض- 398، و الحدائق 11- 436، و مفتاح الكرامة 3- 602.

ص: 346

نعم ها هنا روايتان يستفاد منهما معذورية الجاهل في المقام أيضا:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن موسى بن عمر، عن علي بن النعمان، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام، قال: سمعته يقول: «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيّام فأتم الصلاة، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه إعادة.» (1)

و الرواية ضعيفة بموسى بن عمر كما لا يخفى.

2- ما رواه بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن محمّد بن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن امرأة كانت معنا في السفر و كانت تصلّي المغرب ركعتين ذاهبة و جائية؟ قال: «ليس عليها قضاء.» و رواه الصدوق بإسناده عن الحسين بن سعيد، و بإسناده عن ابن أبي عمير نحوه. (2) هذا.

و لكن لا يخفى أنّ الأصحاب أعرضوا عن العمل بالروايتين، و قد عرفت سابقا أنّ الرواية الشاذّة ليست حجة شرعية و إن لم يعارضها غيرها، إذ عمدة الدليل على حجية الخبر بناء العقلاء، و ليس بناؤهم على العمل بما رويت عن المولى إذا أعرض عنها بطانته و خواصّه العارفون بآرائه و عقائده، و ليس للعبد أن يحتج على المولى بهذا القبيل من الروايات.

كيف! و الكلام المسموع من الإمام عليه السلام بلا واسطة أيضا لم يكن حجة عند الأصحاب في مقام العمل بعد ما أعرض عنه بطانته و خواصّه المطلعون على قاعدة و إسراره، فكيف بالرواية الحاكية لقوله؟

فانظر إلى ما رواه الكليني و الشيخ عن عبد اللّٰه بن محرز [عبد اللّٰه بن محمد- التهذيب]: قال «أوصى إليّ رجل، و ترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم، و له ابنة، و قال: لي عصبة بالشام. فسألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن ذلك، فقال: «أعط الابنة


1- الوسائل 5- 530 (ط. أخرى 8- 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- المصدر السابق 5- 531 (ط. أخرى 8- 507) و الباب، الحديث 7.

ص: 347

النصف، و العصبة النصف الآخر.» فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا بقوله، فقالوا: اتّقاك. فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثم حججت، فلقيت أبا عبد اللّٰه عليه السلام، فأخبرته بما قال أصحابنا، و أخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة. فقال: «أحسنت، إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك»، (1) كيف أخذ الراوي بحسب فطرته و وجدانه ما قاله أصحابنا بالكوفة، و ترك ما سمعه من الإمام عليه السلام بعد ما أعرض عنه أصحابنا المطلعون على آرائه و عقائده.

و بالجملة الروايتان الدالّتان على معذورية من قصّر في موضع الإتمام جهلا قد أعرض عنهما الأصحاب، فيجب العمل على وفق ما تقتضيه القاعدة و هو وجوب الإعادة مطلقا، فتدبّر.

ورود إشكال عقلي في المقام و الجواب عنه

بقي في المقام إشكال عقلي ربما يتوهم بالنسبة إلى معذورية الجاهل.

و ملخصه على ما ذكره الشيخ في الرسائل: أنّ الظاهر كلام الأصحاب ثبوت العذر من حيث الحكم الموضعي، و هي الصحة، بمعنى سقوط الفعل ثانيا، دون المؤاخذة. فحينئذ يقع الإشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي و صحّت عقوبته عليه كان مقتضاه بقاء حكم القصر في حقّه، و ما يأتي به من الإتمام إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ و إن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟! ثم أشار «قده» إلى دفع الإشكال بوجوه ستة: يرجع أربعة منها إلى إنكار الأمر بالقصر فعلا، و واحد منها إلى إنكار الأمر بالإتمام بالتزام أن غير الواجب مسقط


1- المصدر السابق 17- 444 (ط. أخرى 26- 104)، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين و الأولاد، الحديث 4، عن الكافي 7- 87، و التهذيب 9- 278.

ص: 348

للواجب، و يرجع الأخير إلى ثبوت الأمرين معا بنحو الترتب.

و إن شئت الاطلاع على تفصيل ما ذكره فارجع إلى الرسائل. (1)

و نحن نقول أوّلا: إنّ تسالم الأصحاب على ثبوت العقاب في المقام غير معلوم.

و ثانيا: إنّ المسألة ليست مسألة فقهية حتى يعتمد فيها على الإجماع و التسالم، و الإجماع إنّما يكون حجة في إثبات المسائل الفقهية إذا أجمع عليها الفقهاء بما هم فقهاء من جهة كونه كاشفا عن كون المسألة متلقاة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام يدا بيد.

و ثالثا: إنّ ما ذكر في تقريب الإشكال من أنّ هذا الشخص في هذا الحال مأمور بالقصر أو بالإتمام أو بهما معا، مردود بأنّ الأمر المتعلق بالمسافر ليس أمرا مغايرا لما تعلق بالحاضر حتى يلزم بالنسبة إلى الجاهل اجتماع أمرين، بل الأمر بالنسبة إلى جميع المكلّفين أمر واحد تعلّق بطبيعة الصلاة، و كلّ واحد منهم مأمور بإيجاد هذه الطبيعة، غاية الأمر أنّ مصاديق هذه الطبيعة تختلف بحسب حالات المكلّفين.

فالصلاة عنوان بسيط ينتزع عن مجموع الأجزاء التي اعتبرها الشارع و يوجدها المكلف، و منطبق هذا العنوان و منشأ انتزاعه بالنسبة إلى بعض المكلّفين أربع ركعات مثلا و بالنسبة إلى بعض آخر ركعتان، و كذلك في سائر الحالات المختلفة التي تعرض للمكلّفين من كونهم واجدين للماء، أو فاقدين له، خائفين أو غير خائفين، قادرين أو عاجزين.

فالأمر و كذا المأمور به بالنسبة إلى جميع المكلّفين واحد، و إنّما الاختلاف في مصاديق المأمور به و ما ينطبق عليه عنوانه.

فصلاة الظهر مثلا طبيعة واحدة أمر بها جميع المكلّفين: من واجد الماء و فاقده، و الحاضر و المسافر، و نحو ذلك، و ليست التامّة و المقصورة طبيعتين مختلفتين حتى


1- راجع الرسائل (فرائد الأصول)- 308 (ط. أخرى- 523)، فيما استثني من عدم معذورية الجاهل.

ص: 349

يتعلّق بكلّ واحدة منهما أمر مستقلّ، لما عرفت من عدم كون القصر و الإتمام من العناوين القصدية، (1) بل الأمر تعلّق بنفس طبيعة صلاة الظهر مثلا، و كلّ واحد من المسافر و الحاضر مأمور بإيجاد هذه الطبيعة، و اختلافهما إنّما هو في مصداق هذه الطبيعة و منشأ انتزاعها، فمصداقها بالنسبة إلى المسافر ركعتان و بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات.

إذا عرفت هذا فنقول: بعد ما دلّت الأدلّة الشرعية على صحّة صلاة الجاهل في المقام، و فرغنا من مقام إثباته، فلنا أن نقول في تصوير ذلك ثبوتا: إنّه من الممكن أن يكون مصداق الصلاة بالنسبة إلى الجاهل بوجوب القصر عبارة عن الركعتين كما في سائر المسافرين، و الركعتان المزيدتان تقعان لغوا من دون أن تكون هذه الزيادة مضرّة بانطباق عنوان الصلاة المأمور بها على الركعتين الأوليين، لعدم وقوعها في أثناء الصلاة إمّا لعدم وجوب السلام، أو لعدم جزئية مطلقا أو في حق الجاهل. (2)

فإن قلت: الجاهل قصد امتثال الأمر الإتمامي جهلا، و المفروض إنّ المتوجه إليه واقعا هو الأمر القصري، فما قصد ليس مأمورا به، و ما هو المأمور به لم يقصد، فكيف يحكم بثبوته و تحققه؟


1- راجع الشرط السادس من شروط القصر، المسألة السادسة. (ص 316).
2- لأحد أن يقول: إنّ احتمال عدم وجوب السلام أو عدم جزئية بنحو الإطلاق غير متمش بعد ما ثبت بالأدلّة خلافهما، فيبقى في المقام احتمال عدم جزئية بالنسبة إلى خصوص الجاهل، أو عدم اعتبار الموالاة بين السلام و بين سائر الأجزاء بالنسبة إليه، أو عدم إضرار الركعتين بالموالاة إذا لم يأت بهما قصد التشريع و البدعة. لا يقال: اختصاص الجزئية بالعالم يستلزم الدور. فإنه يقال: إنّما يلزم الدور إذا أخذ العلم بحكم في موضوع نفسه، و أمّا في المقام فقد أخذ العلم بوجوب القصر في موضوع وجوب التسليم. ثم إنّ مقتضى ما ذكره الأستاذ مدّ ظلّه العالي في تصوير صحة صلاة الجاهل هو صحّة صلاة الناسي و نحوه أيضا مطلقا، بداهة عدم انطباق عنوان ردّ الصدقة على صلاتهم أيضا. ح ع- م.

ص: 350

قلت: قد عرفت أنّ الثابت في حق الحاضر و المسافر أمر واحد، و هو قوله تعالى:

أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ (1) مثلا، و كلّ واحد منهما أيضا بصدد امتثال هذا الأمر، غاية الأمر أنّ مصداق الصلاة بالنسبة إليهما مختلف، فالجاهل في المقام أيضا لم يقصد إلّا امتثال الأمر المتعلق بطبيعة صلاة الظهر مثلا، إلّا أنّه تخيّل بسبب جهله أنّ مجموع الأربع يقع مصداقا لهذه الطبيعة، مع كون مصداقها بالنسبة إليه ركعتين، و هذا الاشتباه لا يضرّ بقصد امتثال الأمر.

فإن قلت: مقتضى ما ذكرت وقوع صلاة العالم العامد أيضا صحيحة إذا أتمّ في موضع القصر.

قلت: من الممكن أن يكون ازدياد الركعتين عن علم و عمد سببا لانطباق عنوان قبيح على الركعتين الأوليين، و باعتبار انطباق هذا العنوان تخرج الركعتان من صلاحية وقوعهما مصداقا للمأمور به، و لا يكون هذا العنوان القبيح منطبقا على صلاة الجاهل، و قد ورد أنّ إسقاط الركعتين في السفر صدقة من اللّٰه تعالى على عباده، فلعلّ العنوان القبيح المنطبق على عمل العالم في المقام الموجب لفساده هو ردّ صدقة اللّٰه و إظهار عدم الاعتناء بفضله بسبب هذا العمل، و هذا المعنى غير متحقق فيمن جهل بوجوب القصر عليه كما لا يخفى.

هذه خلاصة ما ربما يحتمل في دفع الإشكال العقلي الوارد في المقام.

و أمّا الأجوبة التي ذكرها الشيخ «قده» فبعضها مما ينافي مبانيه القطعية، مضافا إلى الاعتراضات الواردة عليها، فتدبّر.

حكم ما إذا قصّر الجاهل من باب الاتفاق

مسألة: إذا قصّر الجاهل بوجوب القصر من باب الاتفاق، بأن سلّم على الثانية


1- سورة الإسراء (17)، الآية 78.

ص: 351

بتخيّل كونها رابعة، فهل يصحّ صلاته أو لا؟

نسب إلى المشهور القول بالبطلان و وجوب الإعادة. (1)

و لكن يجب أن يعلم أن المسألة ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة عليهم السلام يدا بيد حتى يتمسك فيها بالإجماع أو الشهرة، بل هي مسألة تفريعية استنباطية، فيجب المشي فيها على طبق ما يقتضيه القواعد:

فنقول: بعد الرجوع إلى ما ذكرناه سابقا لا يبقى إشكال في صحّة الصلاة في المقام.

و إن شئت إعادة الكلام، فنقول: قد ظهر لك مما تقدم منا أمران:

الأوّل: أنّ القصر و الإتمام ليسا من العناوين القصدية المتعينة بالقصد و النية، فليس قصد الإتمام مثلا موجبا لتعين المأتي به للتمامية، بل الفرق بين المقصورة و التامّة إنّما هو بزيادة الركعتين الأخيرتين و عدمها، بلا دخل للقصد و النيّة في ذلك.

و يظهر ذلك من الشيخ «قده» أيضا في الخلاف، حيث قال: «القصر لا يحتاج إلى نيّة القصر، بل يكفي نية فرض الوقت، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: لا يجوز القصر إلّا بثلاثة شروط: أن يكون سفرا يقصّر فيه الصلاة، و أن ينوي القصر مع الإحرام، و أن يكون الصلاة أداء لا قضاء.» (2)

و وافق الشيخ في ذلك جمهور المتأخرين، (3) و لأجل ذلك جوّزوا في أماكن التخيير العدول من القصر إلى الإتمام و بالعكس. (4)

الثاني: أنّ الأمر المتوجه إلى المسافر ليس وراء الأمر المتوجه إلى الحاضر، بل الأمر المتوجه إليهما أمر واحد متعلق بطبيعة واحدة، و هي صلاة الظهر مثلا، غاية الأمر أنّ


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 604، و الجواهر 14- 350.
2- الخلاف 1- 579، كتاب صلاة المسافر، المسألة 335.
3- راجع مفتاح الكرامة 2- 323، في نيّة الصلاة- الموضع السادس.
4- راجع الجواهر 14- 341.

ص: 352

مصداقها بالنسبة إلى المسافر ركعتان و بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات، فكلّ واحد من المتمّ أو المقصّر لا يتصدى إلّا لامتثال قوله تعالى مثلا أَقِمِ الصَّلٰاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المصداق الواقعي لصلاة الظهر مثلا بالنسبة إلى الجاهل أيضا هو الركعتان لا الأربع كما عرفت تصويره، و الفرض أنّه أتى به بقصد امتثال الأمر المتوجه إليه، أعني الأمر بطبيعة صلاة الظهر الذي يشترك فيه الحاضر و المسافر، غاية الأمر أنّه تخيّل كون فردها بالنسبة إليه عبارة عن الأربع، و لكن لا يضرّ هذا التخيّل بعد ما أتى بما هو الواجب عليه واقعا بقصد امتثال الأمر المتوجه إليه، فلا وجه لعدم صحته بعد ما لم يخلّ بشي ء من أجزاء العمل و لا بالنيّة.

و مما ذكرنا يعلم أيضا حكم القضاء بالنسبة إلى الجاهل إذا فاته الصلاة في الوقت، و أنّه يجب عليه القضاء قصرا، و لا وجه لتوهم استقرار القضاء عليه تماما، إذ الثابت عليه هو القصر كسائر المسافرين، غاية الأمر دلالة الأخبار على إجزاء التمام إذا أتى بها في الوقت كذلك، و لكن المفروض عدم الإتيان بها في الوقت.

و بالجملة لا يستفاد من الأخبار تبدّل وظيفة الجاهل واقعا، و كون مصداق الصلاة بالنسبة إليه عبارة عن الأربع، بل غاية ما يستفاد منها هو إجزاء الأربع إذا أتى بها جهلا، و المفروض في المقام عدم الإتيان بها، و قد عرفت منّا في مقام التصوير أنّ الأربع لا تقع بمجموعها منطبقة لعنوان الصلاة، فتدبّر.

حكم ما إذا كان في بعض الوقت حاضرا و في بعضه مسافرا

اشارة

الأمر الثالث: إذا كان في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا، أو بالعكس، فهل يراعي في صلاته حال تعلق الوجوب أعني به أوّل الوقت، أو حال الأداء، أو يتخير، أو يفصّل بين سعة الوقت للإتمام و عدمها؟ فيه خلاف بين الأصحاب.

ص: 353

و ليعلم أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يصلّ في أوّل الوقت حتى تبدّل عنوانه من الحضور إلى السفر، أو بالعكس، و أمّا إذا أتى بصلاته قبل تبدّل عنوانه فهي تقع صحيحة بلا خلاف بينهم.

و بالجملة إذا كان في أوّل الوقت حاضرا مثلا فلا خلاف بينهم في أنّه يجوز له أن يأتي بصلاته تامّة، و تجزي قطعا و إن كان ناويا للسفر، و لا يجب عليه التأخير إلى أن يسافر. و كذلك في عكس المسألة يجوز له أن يأتي بصلاته في السفر قصرا، و تجزي البتة و إن كان يعلم بتحقق الحضور قبل مضي الوقت.

فمحل الكلام ما إذا لم يصلّ حتى تبدّل عنوانه.

إذا عرفت محلّ النزاع فنقول: ينبغي أوّلا بيان ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في المقام:

فلأحد أن يقول: إنّ مقتضى القاعدة مراعاة حال الأداء. بتقريب أنّ إطلاق ما دلّ على وجوب الإتمام على الحاضر يشمل من كان حاضرا في بعض الوقت أيضا، و كذلك إطلاق ما دلّ على وجوب القصر على المسافر يشمل من كان مسافرا في بعض الوقت. ثمّ إنّ تخيّر المكلّف بين أجزاء الوقت تخيّر عقلي لا شرعي، إذ هو مكلف مثلا بإيجاد طبيعة صلاة الظهر المقيدة بوقوعها بين الحدّين، أعني من الزوال إلى الغروب، و هذه الطبيعة المقيدة كما يكون لها أفراد عرضية فكذلك لها أفراد طولية حسب أجزاء الوقت، و الحاكم بتخيّر المكلّف بين أفراد الطبيعة هو العقل. و على هذا فمقتضى هذا التخيير العقلي و هذين الإطلاقين هو أن المصلّي يتخيّر بين أن يوجد الطبيعة في أوّل الوقت أو في آخره و أنّه يجب عليه أن يراعي حاله حين أداء الصلاة، فإن كان حاضرا كان مصداق الصلاة في حقّه أربع ركعات، و إن كان مسافرا كان مصداقها في حقّه ركعتين، فتدبّر.

و لقائل أن يقول: إنّ مقتضى القاعدة مراعاة حاله في أوّل الوقت، أعني حال

ص: 354

توجه التكليف، فإنّه في أوّل الوقت يتوجه إليه التكليف لا محالة، و حينئذ فإذا كان في أوّله مسافرا يكون التكليف المتوجه إليه صلاة مقصورة، و تتنجز هي في حقّه، فيجب عليه الخروج من عهدتها و إن تبدّل عنوانه، و كذلك من كان في أول الوقت حاضرا كان المتوجه إليه صلاة تامة، فيجب عليه امتثالها.

و يمكن أن يستدل لهذا الوجه بالاستصحاب أيضا.

و لكن لأحد أن يناقش فيه بأنّ الاستصحاب يحتاج إلى متيقن سابق، و حكم من تبدّل عنوانه مشكوك فيه من أوّل الأمر، فتدبّر.

و ها هنا احتمال ثالث، و هو القول بوجوب الإتمام في كلتا المسألتين. بتقريب أنّ أدلّة القصر في السفر منصرفة عمن كان مسافرا في بعض الوقت.

و احتمال رابع، و هو القول بثبوت القصر فيهما بادعاء انصراف أدلّة الإتمام عنه. هذا.

و لكن الاحتمالين الأخيرين لم يلتزم بهما أحد، فبقي الأوّلان.

هذا تمام الكلام فيما يقتضيه القاعدة في المقام، و لكن العمدة هي الأخبار الواردة، فيجب الدقّة في مفادها.

و الأولى هنا عقد ثلاث مسائل و إفراد كلّ منها ببحث يخصّها:

1- حكم من كان في أوّل الوقت مسافرا و في آخره حاضرا.

2- عكس ذلك.

3- وظيفتهما بالنسبة إلى القضاء إذا فاتهما الصلاة في الوقت.

حكم من كان في أوّل الوقت مسافرا

المسألة الأولى: إذا كان في أوّل الوقت مسافرا و لم يصلّ حتى صار حاضرا فهل يجب عليه مراعاة حال الوجوب أو حال الأداء؟

المشهور بين الأصحاب شهرة محققة في جميع الأعصار أنّه يجب عليه مراعاة حال

ص: 355

الأداء، (1) و به أفتى الجمهور أيضا، (2) و عن ابن الجنيد التخيير بين القصر و الإتمام. (3)

و في النهاية: «فإن دخل من سفره بعد دخول الوقت و كان قد بقي من الوقت مقدار ما يتمكن فيه من أداء الصلاة على التمام فليصلّ و ليتمّم، فإن لم يكن قد بقي مقدار ذلك قصّر.» (4)

و في مفتاح الكرامة: «و حكى في الذكرى و الروض القول بالتقصير، و قد تظهر هذه الحكاية من نهاية الإحكام و المنتهى، و اعترف جماعة بعدم معرفة قائله». (5)

و بالجملة الأقوال المحكية في المسألة أربعة:

1- تعيّن الإتمام، و هو الأقوى وفاقا للمشهور.

2- تعيّن القصر، و لم نجد به قائلًا، و لكن عرفت حكايته عن بعض.

3- التخيير، و هو المحكي عن ابن الجنيد.

4- التفصيل بين سعة الوقت للإتمام و ضيقه، اختاره الشيخ في النهاية.

و منشأ الاختلاف اختلاف الأخبار، و هي بين ما يتعرّض لحكم المسألتين، و ما يتعرّض لهذه المسألة فقط، و ما يتعرّض للمسألة الثانية فقط. و أربعة منها مروية عن محمّد بن مسلم: تعرض واحدة منها لحكم هذه المسألة، و واحدة منها للمسألة الثانية فقط، و ثنتان منها للمسألتين، و قد فرّقها في الوسائل، و لكن المناسب جمعها في النقل ليكون بعضها قرينة على بعض.

و كيف كان فلنذكر الأخبار:

1- ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن صفوان و محمّد بن سنان جميعا،


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 490، ذيل قول المصنف: و كذا لو حضر من السفر في أثناء الوقت.
2- راجع التذكرة 1- 186 (ط. أخرى 4- 354). قال فيه: و هو قول واحد للشافعي.
3- راجع المختلف- 166 (ط. أخرى 2- 548)، المسألة 397.
4- النهاية- 123.
5- مفتاح الكرامة 3- 490.

ص: 356

عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: يدخل عليّ وقت الصلاة و أنا في السفر فلا أصلّي حتى أدخل أهلي؟ فقال: «صلّ و أتمّ الصلاة.» قلت: فدخل عليّ وقت الصلاة و أنا في أهلي أريد السفر فلا أصلّي حتى أخرج؟ فقال: «فصل و قصّر، فإن لم تفعل فقد خالفت و اللّٰه رسول اللّٰه.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن إسماعيل بن جابر. (1)

و الرواية صحيحة من حيث السند. و هي تدلّ على كون الاعتبار بحال الأداء في كلتا المسألتين.

و قوله: «فقد خالفت و اللّٰه رسول اللّٰه» يدلّ على وجود مخالف في المسألة إجمالا، فيمكن أن يكون مخالفته في خصوص هذه المسألة، أعني حكم من تبدّل عنوانه في أثناء الوقت، و يمكن أن تكون في أصل تعيّن القصر في السفر، و لعلّه الأظهر، فيكون قوله هذا إشارة إلى ردّ العامّة القائلين بكون القصر في السفر رخصة لا عزيمة. (2) و أمّا الاحتمال الأوّل فيضعّفه أنّ الظاهر أنّه لم ينقل عن رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في حكم من تبدّل عنوانه شي ء حتى يكون كلامه عليه السلام في هذه الرواية إشارة إليه، فافهم.

2- ما رواه الشيخ عنه، عن صفوان، عن العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر، ثمّ يدخل بيته قبل أن يصلّيها؟ قال: «يصلّيها أربعا.» و قال: «لا يزال يقصّر حتى يدخل بيته.» (3)

و هذه الرواية أيضا صحيحة، و هي تدلّ على كون الاعتبار بحال الأداء في خصوص هذه المسألة.


1- الوسائل 5- 535 (ط. أخرى 8- 512)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
2- راجع الخلاف 1- 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321، و الفقه على المذاهب الأربعة 1- 471.
3- الوسائل 5- 535 (ط. أخرى 8- 513)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 4.

ص: 357

3- ما رواه بإسناده عن سعد بن عبد اللّٰه، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن جعفر بن بشير، عن حمّاد بن عثمان، عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة؟ فقال: «إن كان لا يخاف فوت الوقت فليتمّ، و إن كان يخاف خروج الوقت فليقصّر.» (1)

و رواة الحديث كلّهم ثقات. و سعد من الطبقة الثامنة، و محمّد بن الحسين من الطبقة السابعة، و ابن بشير من الطبقة السادسة، و حمّاد و إسحاق من الطبقة الخامسة. و رواه أيضا بإسناده عن سعد، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن رجل، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام. و رواه الصدوق بإسناده عن الحكم بن مسكين في كتابه، قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام، و ذكر مثله. (2)

و هذه الرواية هي مستند الشيخ «قده» في المسألة، حيث فصل بين سعة الوقت و ضيقه.

و لكن لا يبعد أن يكون مراده عليه السلام: أنّه إن لم يخف فوت الوقت أخّر الصلاة حتى يدخل منزله فيتمّها، و إن خاف فوته أتى بها في السفر قصرا. و هذا احتمال قريب يجب أن يلتزم به جمعا بين أخبار المسألة.

4- ما رواه بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عبد الحميد، عن سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول:

«إذا كان في سفر فدخل عليه وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله فسار حتى يدخل أهله، فإن شاء قصّر و إن شاء أتمّ، و الإتمام أحبّ إلي.» (3)

و محمّد بن أحمد بن يحيى أشعري قمي ثقة من كبار الطبقة الثامنة هاجر من


1- المصدر السابق 5- 536 (ط. أخرى 8- 514) و الباب، الحديث 6.
2- المصدر السابق و الباب، الحديث 7.
3- المصدر السابق و الباب، الحديث 9.

ص: 358

قم إلى الري، له كتاب نوادر الحكمة المسمى عند القميين ب «دبّة شبيب»، لاحتوائه على كلّ شي ء. (1) و ابن عبد الحميد من الطبقة السابعة، و سيف بن عميرة من الطبقة الخامسة، و حينئذ فربما يستبعد رواية عنه، و لكن ابن عميرة كان من المعمّرين و أدرك الطبقة السابعة، فلا يبعد رواية ابن عبد الحميد عنه.

و ظاهر هذه الرواية يوافق فتوى ابن الجنيد، و لكن يحتمل فيها نظير ما احتملناه في سابقتها، فيكون مراده عليه السلام أنّه يتخير بين أن يصبر حتى يدخل أهله فيتمّ، و بين أن يصلّي في السفر قصرا، و الأوّل أفضل و أحبّ، و يجب الالتزام بهذا الاحتمال أيضا جمعا.

فالأقوى في هذه المسألة، أعني حكم من كان في أوّل الوقت مسافرا و لم يصلّ حتى حضر أهله، تعيّن الإتمام، وفاقا للمشهور. و الأمر في هذه المسألة سهل، و الخلاف فيها غير معتنى به، و ما يوهم خلافه من الأخبار لها محامل قريبة:

فمنها الرواية الثالثة، و كذا الرابعة، و قد عرفت تأويلهما.

و منها أيضا بعض روايات محمد بن مسلم، و هي بعد جمعها و تفسير بعضها ببعض لا يبقى لها دلالة على الخلاف، فلنذكرها بأجمعها، و هي أربعة:

1- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى و فضالة بن أيّوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يقدم من الغيبة، فيدخل عليه وقت الصلاة؟ فقال: «إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل و ليتمّ، و إن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصلّ و ليقصّر.» (2)

و هذا الخبر شاهد قويّ لما احتملناه في روايتي إسحاق بن عمّار و منصور بن


1- راجع رجال النجاشي- 348، الرقم 939.
2- الوسائل 5- 536 (ط. أخرى 8- 514)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 8.

ص: 359

حازم، فهو شاهد للجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في المسألة، و به يرتفع التهافت بينها و يقوّى قول المشهور.

2- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يدخل من سفره و قد دخل وقت الصلاة؟ قال: «يصلّي ركعتين، و إذا خرج إلى سفر و قد دخل وقت الصلاة فليصلّ أربعا.» (1)

3- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى و فضالة بن أيّوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الرجل يدخل من سفره و قد دخل وقت الصلاة و هو في الطريق؟ فقال:

«يصلّي ركعتين، و إن خرج إلى سفره و قد دخل وقت الصلاة فليصلّ أربعا» و بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن علي بن حديد و الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّٰه، عن محمد بن مسلم مثله. و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حريز، عن محمد بن مسلم. (2)

و الظاهر اتحاد هذه الرواية مع سابقتها، لاتحادهما سندا و تقاربهما متنا، و يبعد جدّا أن يكون ابن مسلم سأل عن حكم المسألة مرّتين. و بالجملة الروايتان ترجعان إلى واحدة، و الاختلاف الجزئي في متنهما نشأ من قبل الرواة عن ابن مسلم.

و قوله: «و هو في الطريق» قيد لقوله: «يدخل من سفره»، أو لقوله: «دخل وقت الصلاة.» و على الأوّل فلا تنافي الرواية لقول المشهور، إذ يكون السؤال حينئذ عن وظيفته و هو بعد في الطريق، و يكون المراد بقوله: «يدخل» كونه قاصدا للدخول و في معرضة. و كذلك في الفرض الثاني يكون المسؤول عنه وظيفته قبل أن يخرج إلى


1- المصدر السابق 5- 537 (ط. أخرى 8- 516) و الباب، الحديث 11.
2- المصدر السابق 5- 535 (ط. أخرى 8- 513) و الباب، الحديث 5.

ص: 360

السفر. و يشهد لهذا الحمل الرواية الأولى لابن مسلم و الرواية الرابعة له.

و الحاصل أنّ ملاحظة مجموع ما روي في المسألة عن محمد بن مسلم يوجب العلم بعدم مخالفتها للمشهور، فإنّ بعضها يفسر بعضا. و لعلّها لو وصلت إلينا بالقرائن المحفوفة بها لاستفدنا من جميعها ما اختاره المشهور من كون الاعتبار بحال الأداء.

4- ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن العلاء، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: رجل يريد السفر (فيخرج) متى يقصّر؟ قال: «إذا توارى من البيوت.» قلت: الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول الشمس؟ فقال: «إذا خرجت فصل ركعتين.» و رواه الكليني أيضا عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، ثم قال: و روى الحسين بن سعيد، عن صفوان و فضالة، عن العلاء مثله. و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الكليني. و رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم. (1)

و الرواية تدلّ على حكم المسألة الثانية فقط، و يستفاد منها كون الاعتبار بحال الأداء.

و قوله: «فيخرج حين تزول الشمس» يحتمل أن يراد به كون الخروج مقارنا للزوال، و أن يراد به تحقق الزوال قبله بمقدار يفي بالصلاة. و على الأوّل أيضا يمكن أن يستدلّ به لكون الاعتبار بحال الأداء لا حال التعلق، إذ الخروج من البلد و إن قارن الزوال لكنه يفي بالصلاة قطعا المقدار من الزمان المتوسط بين الخروج منه و بين التجاوز عن حدّ الترخص، اللهم إلّا إنّ يقال: إن المتبادر من قوله عليه السلام: «يخرج» بقرينة صدر الرواية هو الخروج من حدّ الترخص لا نفس البلد، فتدبّر. (2)


1- المصدر السابق 5- 534 (ط. أخرى 8- 512) و الباب، الحديث 1، و 5- 505 (ط. أخرى 8- 470)، الباب 6 منها، الحديث 1. و الرواية مقطّعة في الوسائل في البابين جمعها هنا في المتن. راجع التهذيب 2- 12، و 4- 230، و الكافي 3- 434، و الفقيه 1- 435.
2- لأحد أن يقول: إنّه لو فرض كون الاعتبار بحال تعلّق التكليف فلا يفرّق فيه بين أن يبقى في البلد بمقدار يفي بالصلاة أم لا، إذ الحضور ليس شرطا لصحّة الإتمام فرضا، فله أن يلتزم بأنّ الحضور في أول الوقت سبب لتنجز الخطاب بالإتمام سواء سافر بعده بلا فصل أم لا. ح ع- م.

ص: 361

فهذه أربع روايات مروية عن محمد بن مسلم في المسألتين، و قد عرفت أنّها لا تنافي المشهور بعد تفسير بعضها ببعض، و عرفت أيضا تأويل روايتي إسحاق بن عمّار و منصور بن حازم. فالمتبع في هذه المسألة ما يستفاد من صحيحتي إسماعيل بن جابر و العيص بن القاسم، أعني كون الاعتبار بحال الأداء، بعد ما أفتى به المعظم، و لم يوجد في قبال الصحيحتين ما يخالفهما بالصراحة. و بالجملة حكم المسألة الأولى سهل، و إنّما الإشكال في المسألة الثانية، فانتظر.

حكم ما إذا كان في أوّل الوقت حاضرا

المسألة الثانية: إذا كان في أوّل الوقت حاضرا و لم يصلّ حتى خرج من بلده، فهل يراعي حال الأداء، أو حال تعلّق الوجوب، أو يتخيّر، أو يفصّل بين سعة الوقت و ضيقه؟

فيه أقوال، و الأوّل مختار جماعة منهم الشيخ علي بن بابويه و السيّد المرتضى و المفيد و ابن إدريس، (1) و الثاني مختار الصدوق و ابن أبي عقيل، (2) و الثالث مختار الشيخ في خلافه و ذكره في كتابي الحديث أيضا احتمالا، (3) و الرابع مختاره في النهاية و به قال ابن البرّاج أيضا. (4)


1- راجع المقنعة- 211، باب أحكام فوائت الصلاة، و السرائر 1- 332. و نقله عن مصباح السيّد في السرائر 1- 334، و عن رسالة علي بن بابويه في المختلف- 165 (ط. أخرى 2- 541)، المسألة 396. و راجع مفتاح الكرامة 3- 486.
2- راجع الجوامع الفقهية- 10، باب الصلاة في السفر من كتاب المقنع. و نقله عن ابن أبي عقيل في المختلف- 165 (ط. أخرى 2- 540)، المسألة 396.
3- راجع الخلاف 1- 577، المسألة 332، و التهذيب 3- 223، ذيل الحديث 560، و الاستبصار 1- 241، ذيل الحديث 858.
4- راجع النهاية- 123، باب الصلاة في السفر. و نقله عن ابن البرّاج في المختلف- 165 (ط. أخرى 2- 540)، المسألة 396.

ص: 362

و منشأ القولين الأوّلين الأخبار المختلفة الواردة في المسألة، و أمّا الأخيران، أي التخيير و التفصيل، فلا رواية على وفقهما في هذه المسألة، و لعلّ القول بالتفصيل نشأ من الجمع بين الأخبار، أو من قياس المسألة بالمسألة السابقة، و القول بالتخيير نشأ إمّا من الجمع بين الأخبار بحمل كلّ واحدة من الطائفتين على كونها بصدد بيان أحد فردي التخيير فيكون التخيير واقعيا، أو من جهة ما ورد من الحكم بالتخيير بين المتعارضين فيكون التخيير ظاهريا.

و كيف كان فليست هذه المسألة بوضوح المسألة السابقة، لتعارض النصوص و الأقوال فيها جدا، فلنذكر الأخبار ثم نتعرض لما هو الحق فيها.

فنقول: أمّا ما يدلّ على كون الاعتبار بحال الأداء فأربع روايات:

1- صحيحة إسماعيل بن جابر، و قد مرّت في المسألة الأولى، و هي صريحة في بيان حكم كلتا المسألتين.

2- الرابعة من روايات محمد بن مسلم، و قد مرّ شرحها أيضا.

3- ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن الوشاء، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: «إذا زالت الشمس و أنت في المصر و أنت ترديد السفر فأتمّ، فإذا خرجت بعد الزوال قصّر العصر.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن محمد، و بإسناده عن محمد بن يعقوب. (1)

و الفقرة الأولى من الرواية ناظرة إلى بيان أنّ صرف نيّة السفر لا توجب القصر ما لم يتلبس به، و قد عرفت سابقا ما عن الحارث بن أبي ربيعة من أنّه أراد سفرا فصلّى بهم ركعتين في منزله، (2) و فيهم الأسود بن يزيد و غير واحد، فلم يردعوه.


1- الوسائل 5- 537 (ط. أخرى 8- 516)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 12.
2- راجع ص 309 من الكتاب.

ص: 363

و اعلم أنّ الحسين بن محمد من القميين، (1) و لكنّه لم يرو عنهم، بل هو راوية معلّى بن محمد البصري. و ربما نسب معلّى إلى الغلوّ، (2) و لكن لم نجد في كتابه ما يدلّ على ذلك.

4- ما في الفقيه الرضوي: «و إن خرجت من منزلك و قد دخل عليك وقت الصلاة و لم تصلى حتى خرجت فعليك التقصير، و إن دخل عليك الوقت الصلاة و أنت في السفر و لم تصلّ حتى تدخل أهلك فعليك التمام» (3). و قد عرفت سابقا حال فقه الرضا و أنّه لم يثبت لنا جواز الاعتماد عليه. (4) و احتمل بعض المعاصرين أن يكون عبارة عن كتاب التكليف للشلمغاني.

و إمّا ما يدلّ على كون الاعتبار بحال تعلّق الوجوب فخمس روايات:

1- الرواية الثانية من روايات محمد بن مسلم، و قد مرّت في المسألة السابقة.

2- الرواية الثالثة منها، و قد مرّت أيضا.

و لا يخفى أنّ الرواية ابن مسلم أصحّ ما في الباب سندا، حيث رواها المشايخ الثلاثة بأسانيد متعددة صحيحة.

و لكنك عرفت عدم جواز الاعتماد عليها، إذ من المحتمل جدّا أن يكون رواياته الأربع رواية واحدة تعددت و اختلفت باختلاف الرواة عنه، فإنّه من البعيد أن يسأل ابن مسلم حكم مسألة واحدة مرّتين أو مرّات. و المستفاد من الأولى و الرابعة منها كون الاعتبار بحال الأداء. و من الثانية و الثالثة كون الاعتبار بحال تعلق الوجوب.

و إذا اختلفت مضمونا سقطت عن الاعتبار رأسا.


1- هو الحسين بن محمد بن عامر الأشعري، كما صرّح به في الكافي 1- 205، في سند الحديث 1 من باب أنّ الأئمة عليهم السلام ولاة الأمر.
2- راجع رجال النجاشي- 418، الرقم 1117، و مجمع الرجال 6- 113.
3- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام- 162، باب صلاة المسافر و المريض.
4- راجع ص 126 من الكتاب.

ص: 364

و لو سلّم تعدّدها أيضا سقطت عن الحجية بسبب المعارضة. هذا مضافا إلى ما عرفت من أنّ بعضها يفسّر بعضا، فإذا دلّت الأولى منها على كون الاعتبار في المسألة الأولى بحال الأداء، و الرابعة على كون الاعتبار في المسألة الثانية أيضا بحال الأداء، و كانتا صريحتين في مفادهما، وجب حمل الثانية و الثالثة أيضا عليهما و إن أوجب التصرف فيهما، فيحمل قوله: «يدخل من سفره» على كونه بصدد الدخول و في معرضة لا على الدخول الفعلي، و قوله: «خرج إلى سفر» على كونه بقصد الخروج و لما يخرج بعد، فتدبّر.

3- ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن داود بن فرقد، عن بشير النبّال، قال: خرجت مع أبي عبد اللّٰه عليه السلام حتى أتينا الشجرة، فقال لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام: يا نبّال، قلت: لبيك، قال: «إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري و غيرك، و ذلك أنّه دخل وقت الصلاة قبل أن تخرج.» و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد، و بإسناده عن الكليني. (1)

و الرواية ظاهرة في كون الاعتبار بحال تعلّق الوجوب، و لكنها ليست بصريحة في ذلك، إذ من المحتمل أن يكونا قد صلّيا قبل الخروج من المدينة (2)، فلا تقاوم لمعارضة صحيحة إسماعيل بن جابر الصريحة في كون الاعتبار بحال الأداء و كون مخالفته مخالفة لرسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله.


1- راجع الكافي 3- 434، باب من يريد السفر.، الحديث 3، و الوسائل 5- 536 (ط. أخرى 8- 515)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10، عن التهذيب 3- 224. و رواه الشيخ أيضا في التهذيب 3- 161 عن الكليني.
2- و يؤيّد هذا الاحتمال أنّه لو كان مراده عليه السلام بيان وجوب الإتمام عليهما فعلا لكان الأنسب أن يقول: «لا يجب» بدل قوله: «لم يجب». فيظهر بذلك كونه بصدد بيان الحكاية لما مضى. ح ع- م.

ص: 365

هذا مع أن بشير قليل الرواية جدّا، فيعلم من ذلك عدم كونه من فقهاء أصحاب الأئمة عليهم السلام، فلا يقاوم نقله نقل فقهاء الأصحاب من قبيل ابن مسلم و ابن جابر، فإنّ ضبط العامّي و إن كان ورعا جدا لا يقاس بضبط الفقيه المطلع. كيف! و اشتباه العوامّ و خطأهم في فهم ما يسمعونه و ضبطه أكثر من أن يحصى. و بشير بن ميمون و أخوه «شجرة» من أسراء العجم، (1) و لم يكونا من أهل اللغة العربية العارفين بأساليبه.

هذا مضافا إلى أنّه يحتمل أن يكون المراد بالشجرة في الحديث غير مسجد الشجرة.

و بالجملة ما حكاه بشير قضية في واقعة شخصية، فلا يقاوم ما تدلّ عليه صحيحة ابن جابر، فتدبّر.

4- ما عن البحار و المستدرك، نقلا من كتاب محمد بن المثنى الحضرمي، عن جعفر بن محمد بن شريح، عن ذريح المحاربي، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إن خرج الرجل مسافرا و قد دخل وقت الصلاة كم يصلّي؟ قال: «أربعا.» قال: قلت:

و إن دخل وقت الصلاة و هو في السفر؟ قال: «يصلّي ركعتين قبل أن يدخل أهله، فإن دخل المصر [و إن وصل العصر- خ. ل] فليصلّ أربعا.» (2)

و هذه الرواية تدلّ على كون الاعتبار في المسألة السابقة بحال الأداء، و في هذه المسألة بحال تعلّق الوجوب، و لكنّها أيضا ليست بصريحة، إذ من المحتمل أن يكون مراده عليه السلام الترغيب على الإتيان بالصلاة قبل الخروج من حدّ الترخص، و الخروج يصدق مع عدم الوصول إلى حدّ الترخص أيضا، فلا تقاوم الرواية صحيحة ابن جابر الصريحة في الخلاف.

هذا مضافا إلى أنّه لا يجوز الاعتماد على أمثال هذه الروايات في إثبات


1- راجع رجال الشيخ- 108 و 125، و 156 و 218، في أصحاب الإمام الباقر، و أصحاب الإمام الصادق عليهما السلام.
2- بحار الأنوار 86- 55 (ط. إيران 89- 55)، باب وجوب قصر الصلاة، الحديث 18، و مستدرك الوسائل 6- 541، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.

ص: 366

الأحكام الشرعية، فإنّ محمّد بن المثنى من الطبقة السادسة، و لم يكن كتابه معروفا شائعا بين الأصحاب إلى أن عثر عليه المجلسي بعد ألف سنة تقريبا، و كان اعتماده عليه لا محالة من جهة أنّه أتي له بكتاب مكتوبا عليه مثلا: «كتاب محمد بن المثنى»، و بمثل هذه الروايات الموجودة في أمثال هذه الكتاب غير المقروءة على المشايخ لا يمكن إثبات الأحكام الشرعية، ثم بمثلها كيف يرفع اليد عن الروايات الصحيحة الصريحة المودعة في الجوامع و المقروءة على الشيوخ في جميع الأعصار المكتوب عليها إجازاتهم في نقلها و روايتها؟! 5- ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب جميل بن درّاج، عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام أنه قال في رجل مسافر نسي الظهر و العصر في السفر حتى دخل أهله، قال: «يصلّي أربع ركعات.» و قال لمن نسي صلاة الظهر و العصر و هو مقيم حتى يخرج، قال: «يصلّي أربع ركعات في سفره.» و قال: «إذا دخل على الرجل وقت صلاة و هو مقيم ثمّ سافر صلى تلك الصلاة التي دخل وقتها عليه و هو مقيم أربع ركعات في سفره.» (1)

و لا يخفى أن الرواية تشتمل على ثلاث فقرأت: أمّا الأولى فيحتمل ارتباطها بباب القضاء، كما يشهد بذلك لفظ النسيان الظاهر في استيعابه تمام الوقت، و كذا الكلام في الفقرة الثانية. و على هذا فلا ربط لهما بالمسألتين. و يحتمل أيضا ارتباطهما بهما و يكون التعبير بالنسيان مع عدم مضي الوقت من جهة أنّ بناء المسلمين عملا كان على الإتيان بالصلوات في أوائل الأوقات. هذا. و لكن يحتمل حينئذ أن يراد بقوله: «يصلّي أربع ركعات» في الفقرة الثانية مجموع الصلاتين، و هذا و إن كان مخالفا للظاهر لكن يجب المصير إليه جمعا بينها و بين صحيحة ابن جابر مثلا. و أما الفقرة الثالثة فدلالتها على كون الاعتبار في المسألة الثانية بحال تعلّق


1- الوسائل 5- 537 (ط. أخرى 8- 516)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديثان 13 و 14.

ص: 367

الوجوب أوضح، و لا يتمشى فيها هذا الاحتمال المشار إليه، و لكن يمكن أن تحمل على الإتيان بالصلاة فيما دون حدّ الترخص. هذا.

و الذي يسهّل الخطب أنّ ابن إدريس كان في القرن السادس، و الفصل بينه و بين جميل كثير جدّا، و لم يكن هو كغيره من الفقهاء من أهل الاستجازة و الإجازة في نقل الأحاديث، و لم يكن ممن يعمل بخبر الواحد أصلا و إنّما نقل في آخر السرائر بعض الأخبار تطفلا من الكتب المنسوبة إلى بعض الأصحاب، و قد وقع منه اشتباهات كثيرة في أسانيدها عثرنا عليها بالتتبع، فلا يقاوم نقله نقل المشايخ العظام من الكتب المعتبرة المقروءة في جميع الأعصار على شيوخ الإجازة.

فهذه هي أخبار المسألة، و قد عرفت حالها.

و أمّا موثقة عمّار الواردة في المقام فهي رواية مضطربة لا يثبت بها حكم شرعي، فراجع. (1)

و ربما يستدلّ أيضا للمقام بعموم التعليل المستفاد من رواية زرارة الآتية في مسألة القضاء.

و لكن يرد عليه عدم الملازمة بين حكم الأداء و القضاء، فافهم.

و قد تخلص مما ذكرناه أن ما تدلّ على كون الاعتبار في المسألة بحال الأداء تدلّ عليه بالصراحة، و أمّا ما تدلّ على الخلاف فقابلة للحمل و التأويل، فيجب حملها على الطائفة الأولى. هذا مضافا إلى أنّ أصحها سندا روايتا ابن مسلم، و هما معارضتان بالروايتين الأخيرين له. و أمّا غيرهما فمن حيث السند لا يقاوم مثل رواية إسماعيل بن جابر الصحيحة الصريحة.

و مما ذكرنا يظهر أنّ الأقوى في هذه المسألة أيضا كون الاعتبار بحال الأداء.

و يمكن تأييده أيضا مضافا إلى ما مرّ بموافقته للكتاب و الأخبار الحاكمة بكون


1- راجع الوسائل 3- 62 (ط. أخرى 4- 85)، الباب 23 من أبواب أعداد الفرائض و نوافلها.

ص: 368

الصلاة في السفر ركعتين. و دعوى عدم شمول إطلاق الآية و الروايات لمن كان في أوّل الوقت حاضرا ثمّ سافر، غير مسموعة، إذ الظاهر منها أنّه يجب على المصلّي حينما أراد الصلاة أن يلاحظ حالته من الحضور و السفر، فيأتي في كلّ منهما بما يقتضيه وظيفته، و لو لم يكن الأخبار الواردة في المسألتين لما شككنا في حكمهما، بل كنا نستفيد حكمهما من الإطلاقات المشار إليها، و قد مضى شطر من الكلام في ذلك في أوّل المبحث.

و بالجملة يمكن أن يستند في ترجيح الأخبار الدالة على كون الاعتبار بحال الأداء على كونها موافقة للكتاب و لما دلّ على ثبوت القصر في السفر بنحو الإطلاق، فتدبّر.

و أما ترجيح أحد القولين في المسألة بالشهرة فمما لا وجه له، إذ كلاهما مشهوران في هذه المسألة. نعم في المسألة السابقة اشتهر بينهم كون الاعتبار بحال الأداء، و لذا أفتى العلّامة في المسألة السابقة بكون الاعتبار بحال الأداء، و في هذه المسألة قوي كون الاعتبار بحال الوجوب. (1) و أمّا صاحب الجواهر فجعل كون الاعتبار بحال الأداء في المسألة السابقة من المسلّمات، ثمّ قاس عليه هذه المسألة. (2)

حكم ما إذا فاتته الصلاة

المسألة الثالثة: لو كان في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا أو بالعكس، و فاته الصلاة رأسا، فهل يراعي في القضاء أوّل الوقت، أو آخره، أو يتمّ مطلقا، أو يتخير؟

في المسألة وجوه، و ربما عبّروا عن ذلك بأنّ الاعتبار بحال الوجوب، أو حال الفوات؟

و قبل الورود في تحقيق المسألة يجب أن ينبه على أمرين:

الأوّل: إذا كان في جميع الوقت حاضرا أو مسافرا و فاتت منه الصلاة فلا إشكال


1- راجع المختلف- 166- 165 (ط. أخرى 2- 547- 540)، المسألتين 396 و 397.
2- راجع الجواهر 14- 354 و 361.

ص: 369

في أن الاعتبار في القضاء بحال الفوت لا بحال القضاء، فيقضي صلاة السفر قصرا و لو في الحضر، و صلاة الحضر تماما و لو في السفر، و المسألة إجماعية مضافا إلى النصوص المستفيضة الدالّة عليها. (1)

الثاني: أنّ النزاع في المسألة إنّما يتمشّى على القول بكون الاعتبار في المسألتين السابقتين بحال الأداء، و أمّا إذا قلنا فيهما بكون الاعتبار بحال تعلق الوجوب أعني أوّل الوقت ففي القضاء أيضا يتعيّن مراعاة أوّل الوقت قهرا، إذ مقتضى هذا القول أنّ الذي يكون في أوّل الوقت مسافرا مثلا يتعيّن عليه القصر و إن تبدّل عنوانه و أتى بصلاته في الحضر، و حينئذ فإذا فاتت منه هذه الصلاة التي تعيّن فيها القصر وجب عليه قضاؤها قصرا و لا محالة، و كذا الكلام في عكسه.

إذا عرفت هذا فنقول: قد اختار جماعة كون الاعتبار في القضاء بحال الفوت أعني آخر الوقت، و آخرون كون الاعتبار بحال تعلّق الوجوب، (2) و هنا احتمال ثالث، و هو التخيير، و لم نجد به قائلًا و إن ذكره بعضهم احتمالا. (3) و ليس في المسألة إجماع أو شهرة يعتمد عليهما، فيجب إتمامها على طبق القواعد.

فإن قلت: فلم لا يعتمد فيها على ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه سئل عن رجل دخل وقت الصلاة و هو في السفر، فأخّر الصلاة حتى قدم و هو يريد يصلّيها إذا قدم إلى أهله، فنسي حين قدم إلى أهله أن يصلّيها حتى ذهب وقتها؟ قال: «يصلّيها


1- راجع مفتاح الكرامة 3- 397، و الوسائل 5- 359 (ط. أخرى 8- 268)، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات.
2- راجع الجواهر 14- 382.
3- قال في العروة 2- 164، في فصل أحكام صلاة المسافر في المسألة 10: إذا فاتت منه الصلاة و كان في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا أو بالعكس فالأقوى أنّه مخير بين القضاء قصرا أو تماما.

ص: 370

ركعتين صلاة المسافر، لأنّ الوقت دخل و هو مسافر، كان ينبغي له أن يصلي عند ذلك.» (1)

حيث تدلّ على كون الاعتبار بأوّل الوقت؟

قلت: موسى بن بكر واقفي غير موثق في كتب الرجال، و لم يعلم روايته لذلك حال استقامته، و هو متفرد بنقل الرواية، فتصير موهونة، و لم يعتمد عليها الأصحاب أيضا، و القائل بكون الاعتبار بأوّل الوقت أيضا يتمّ المسألة على طبق القواعد بنظره لا بهذه الرواية، فهذا أيضا موهن آخر. هذا مضافا إلى أنه ربما يناقش في دلالتها على تعيّن المراعاة لأوّل الوقت، حيث عبّر في مقام التعليل عليه بقوله: «كان ينبغي له أن يصلّي عند ذلك.» و لكن يرد على ذلك أنّه من الممكن أن يكون رجحان الإتيان بالصلاة في أوّل وقته ملاكا لتعين القضاء على وفقه.

ثمّ لا يخفى أن بين هذه الرواية و الرواية الأولى من روايات ابن مسلم يوجد نحو تعارض، إذ المفروض في كلتيهما كون الشخص في أوّل الوقت مسافرا و في آخره حاضرا، و المستفاد من رواية ابن مسلم رجحان التأخير و الإتمام، و من هذه الرواية رجحان الإتيان بها في أوّل الوقت قصرا، فتدبر.

و كيف كان فيجب إتمام المسألة على طبق القواعد.

فنقول: قال في السرائر- بعد ما اختار كون الاعتبار بأوّل الوقت-: «لأنّ العبادات تجب بدخول الوقت و تستقرّ بإمكان الأداء، كما لو زالت الشمس على المرأة الطاهرة فأمكنها الصلاة فلم تفعل حتى حاضت استقرّ القضاء». (2)

و يرد عليه أنّ القضاء تابع للفوت، و لا يتحقّق الفوت بالتأخير عن أوّل الوقت، إذ لم يتعلّق الوجوب بالصلاة في أوّل الوقت، بل بالصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدّين


1- الوسائل 5- 535 (ط. أخرى 8- 513)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3.
2- السرائر 1- 335.

ص: 371

أعني من الزوال إلى الغروب، و لها أفراد طولية بحسب مراتب الزمان، ففواتها إنّما يتحقق بانقضاء جميع مراتبه، و بما ذكرنا يظهر الفرق بين ما نحن فيه و بين مثال الحائض، فإنّها و إن جاز لها تأخير الصلاة ظاهرا بمقتضى الاستصحاب، لكنها تكون بحسب متن الواقع مكلّفة بإتيان الصلاة في أوّل وقتها، فتأخيرها عنه يوجب الفوات المستلزم للقضاء، فافهم.

و قال في الجواهر: «لكن ظاهرهم، بل هو كصريح الشهيد منهم أنّ التمام حتى تعيّن في وقت من أوقات الأداء كان هو المراعى في القضاء و إن كان المخاطب به حال الفوات القصر. و عليه فمن كان حاضرا وقت الفعل ثم سافر فيه و فاتته الصلاة المخاطب بقصرها حاله وجب عليه التمام في القضاء، كما أنّه يجب عليه ذلك لو كان مسافرا في الوقت ثم حضر. و لعلّه لأنّ الأصل في الصلاة التمام. و فيه بحث إن لم يكن منع، بل في المفتاح أن الأكثر على مراعاة حال الفوات بالنسبة للسفر و الحضر لا الوجوب. و يؤيّده أنه الفائت حقيقة لا الأوّل الذي قد ارتفع وجوبه في الوقت عن المكلّف برخصة الشارع له في التأخير.» (1)

و في مصباح الفقيه: «فلو قيل بكون المكلّف مخيّرا بين مراعاة كلّ من حالتيه في القضاء لكان وجها».

و حاصل ما ذكره (2) في بيان ذلك بتقريب منّا: أنّ الأمر في الواجبات الموسعة يتعلّق بالطبيعة الكلية المقيّدة بوقوعها بين الحدّين، أعني من الظهر إلى الغروب مثلا، و هذه الطبيعة المقيدة كما يتصور لها أفراد عرضية يتصور لها أفراد طولية أيضا حسب مراتب الزمان و أجزائه، و التخيير بين أفراد الطبيعة تخيير عقلي، و على هذا فالتخيير بين أجزاء الزمان الوسيع تخيير عقلي لا شرعي. و نظير ذلك ظرف المكان أيضا إذا كان


1- الجواهر 13- 114. و راجع الذكرى- 136، المسألة 9، و مفتاح الكرامة 3- 399.
2- راجع مصباح الفقيه- 769.

ص: 372

وسيعا و صار قيدا للمأمور به، كعرفة بالنسبة إلى الوقوف. و مقتضى ذلك أن يقع كلّ فرد يؤتى به في أحد أجزاء الزمان الوسيع أو المكان الوسيع مصداقا للامتثال بما أنه فرد لتلك الطبيعة المقيدة بذلك الزمان أو المكان لا بما أنّه أتى به في هذا الجزء الخاص من هذا الزمان أو المكان.

ثمّ إنّ الصلاة التامّة و المقصورة ليستا طبيعتين مختلفتين أمر بهذه تارة و بتلك أخرى، بل الأمر بالنسبة إلى الحاضر و المسافر لم يتعلّق إلّا بطبيعة واحدة، فصلاة الظهر مثلا طبيعة واحدة أمر بها كلّ واحد من الحاضر و المسافر، و واجد الماء و فاقده، و نحو ذلك، غاية الأمر أنّ مصاديقها تختلف باختلاف حالات المكلّفين و منها السفر أو الحضور، فمصداقها بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات، و بالنسبة إلى المسافر ركعتان، و قد مرّ توضيح ذلك سابقا. (1)

و حينئذ فمن يكون في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا أو بالعكس لا يكون مكلّفا إلّا بإتيان طبيعة صلاة الظهر مثلا مقيدة بكونها من الظهر إلى الغروب، من دون أن يكون الخصوصيات المفردة- من الإتيان في أوّل الوقت أو في آخره، أو الإتيان بها قصرا في السفر أو إتماما في الحضر- واقعة تحت الأمر، فإذا أتي بها في آخر الوقت أيضا في السفر قصرا مثلا يكون ما أتي به محققا للامتثال بما أنه مصداق لطبيعة الصلاة الواقعة بين الظهر و الغروب لا بما أنها صلاة مقصورة أتي بها في آخر الوقت.

و بالجملة تخيّره بين الخصوصيات الفردية التي منها الإتيان في أوّل الوقت أو في آخره، و منها الإتيان بها تماما في الحضر أو قصرا في السفر تخيّر عقلي، و الأمر إذا تعلّق بنفس الطبيعة ثمّ انحصرت في فرد، بحيث لم يتمكن المكلّف من سائر الأفراد و توقف امتثاله على إتيان هذا الفرد، لا يصير هذا سببا لتجافي الأمر و تخطيه من نفس الطبيعة إلى الخصوصيات المفردة المنضمة إليها، بل الأمر بعد باق متعلقا بنفس حيثية


1- راجع ص 348 من الكتاب.

ص: 373

الطبيعة.

و على هذا فإذا كان الشخص مسافرا مثلا، ثمّ حضر و فات منه الصلاة رأسا، فلا يستند الفوت إلى ترك آخر فرد كان يتمكن منه، لعدم تعينه شرعا و عدم الأمر به بخصوصه، بل الفوت يستند إلى ترك الطبيعة في مجموع الوقت الذي كان في بعضه حاضرا و في بعضه مسافرا. لا أقول: إنّ الفوت يصدق في أوّل الوقت و وسطه أيضا حتى يقال: إنّ عدم الطبيعة في أوّل الوقت ليس مصحّحا لصدق الفوت لإمكان التدارك، بل أقول: إنّ الفوت يصدق في آخر الوقت، و لكن المصحّح لصدقه هو عدم الطبيعة في جميع الوقت المضروب لها لا عدمها في آخر الوقت لعدم الأمر بها بخصوصها. و إن شئت قلت: إنّ الأمر تعلّق بطبيعة يكون لها أفراد طولية بحسب أجزاء الزمان، فوجودها بوجود فرد ما منها، و عدمها يستند إلى عدم جميع الأفراد لا عدم فرد خاص منها. و على هذا فالفائت من المكلّف في المقام طبيعة الصلاة لا خصوص الصلاة المقصورة أو التامّة المتعينة في آخر الوقت. انتهى.

هذه غاية ما يمكن أن يقال في تقريب كلامه.

أقول: يرد عليه «قده» أوّلا أنّ ما ذكر لا يقتضي التخيير في القضاء، إذ مقتضى ما ذكر هو كون المكلّف في الوقت مكلّفا بأصل طبيعة صلاة الظهر مثلا، غاية الأمر كون مصداقها بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات و بالنسبة إلى المسافر ركعتين، من دون أن يكون خصوصية القصر أو الإتمام واقعة تحت الأمر، فلو كان يصلّيها في الوقت لكان يجب عليه مراعاة حاله من الحضور أو السفر في إيجاد فرد الطبيعة. و لكن هذه البيان لا يقتضي كونه في القضاء مخيّرا بعد كونه في حال القضاء حاضرا مثلا، بل نحتاج إلى دليل خارجي يعيّن ما هو الفرد لها بحسب حالته الفعلية، و يجب الاحتياط إن لم نعثر عليه، أو نقول: إنّ الأصل الأولي في الصلاة بحسب التشريع حيث كان هو الإتمام فاللازم في المقام هو القضاء تماما، سواء كان في أوّل الوقت حاضرا و في

ص: 374

آخره مسافرا أو بالعكس.

و بالجملة إذا لم يكن خصوصية القصر أو الإتمام، أو الوقوع في أوّل الوقت أو في آخره واقعة تحت الأمر كان الفائت من المكلّف الذي تبدّل عنوانه في الوقت نفس طبيعة الصلاة الواقعة بين الحدّين، و كونه في الوقت مخيّرا عقلا بين أن يوجدها في الحضر تماما أو في السفر قصرا بحيث لو أتى بها لكان يجوز له إيجادها في ضمن أيّ منهما أراد، لا يقتضي بقاء التخيير في القضاء بعد ما لم يبق الحالة المغيّرة للفردية.

و ثانيا أنّ الأمر و إن تعلّق أوّلا بنفس طبيعة الصلاة من دون أن يسري إلى حيثية الإتمام أو القصر، لكن الأخبار الدالّة على أنّ صلاة السفر تقضى قصرا و صلاة الحضر تقضى تماما تدلّ على اعتبار الخصوصيتين في باب القضاء.

و حينئذ فمن كان في أوّل الوقت حاضرا و في آخره مسافرا مثلا و إن فات منه خصوصيتان لكنّ الخصوصية الأولى كان تركها إلى بدل و بإذن الشارع، فما يكون محقّقا لفوت الطبيعة من رأس هو تركها في ضمن الخصوصية الثانية، فيجب في القضاء مراعاة أصل الطبيعة بخصوصيتها التي فاتت في ضمنها.

و على هذا فلا يبعد في المسألة القول بكون الاعتبار بحال الفوت، و إن كان الاحتياط بالجمع لا ينبغي تركه، فتدبّر.

و الحمد للّٰه ربّ العالمين، و صلّى اللّٰه على سيّدنا محمّد خاتم النبيين و على آله الطيبين الطاهرين، و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

و قد وقع الفراغ من تقرير ما ألقاه السيّد الأستاذ (مدّ ظلّه العالي) في باب صلاة المسافر في الثالث من ربيع الثاني من شهور السنة 1369 ه. ق.

و أنا العبد المفتقر إلى رحمة اللّٰه و فضله، ابن من لا أطيق أداء حقوقه الحاج على المنتظريّ، حسين علي المنتظريّ النجف آباديّ.

ص: 375

ص: 376

فهرس المصادر

1- اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي». أصله «معرفة الناقلين»: لأبي عمرو، محمد بن عمر الكشّي (من أعلام القرن الرابع). اختاره شيخ الطائفة. تحقيق الشيخ حسن المصطفوي. نشر جامعة مشهد الرضوي.

2- الإرشاد» إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان): للعلّامة الحلّي، جمال الدين أبي منصور، الحسن بن يوسف بن المطهر (648- 726 ه-). تحقيق الشيخ فارس الحسّون. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، في مجلدين- 1410 ه. ق.

3- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: لشيخ الطائفة، أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه). تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان. نشر دار الكتب الإسلامية- طهران، 4 مجلدات.

4- الأشعثيات (الجعفريات): يرويه أبو علي، محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي (من أعلام القرن الرابع). طبعت مع قرب الإسناد. أفسيت مكتبة نينوى الحديثة- طهران.

5- أعيان الشيعة: للسيد محسن الأمين (1284- 1371 ه) تحقيق حسن الأمين. نشر دار التعارف- بيروت، 10 مجلدات- 1403 ه. ق.

ص: 377

. 6- الأمالي: للشيخ الطوسي (385- 460 ه). أفسيت مكتبة الداوري- قم، في مجلدين.

7- الانتصار: للسيد المرتضى، علي بن الحسين (355- 436 ه). أفسيت منشورات الشريف الرضي- قم.

8- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: للعلّامة، محمد بن باقر بن محمد تقي المجلسي (1037- 1111 ه): 1- أفسيت مؤسسة الوفاء- بيروت. 2- نشر دار الكتب الإسلامية- طهران، 110 مجلد. مع تفاوت الطبعتين في ترتيب أرقام بعض المجلدات.

9- بداية المجتهد و نهاية المقتصد: لأبي الوليد، محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي (520- 595 أو 597 ه). نشر مكتبة التجارية الكبرى- مصر، في مجلدين.

10- البيان: للشهيد الأوّل، شمس الدين، أبي عبد الله، محمد بن مكّي (734- 786 ه):

1- أفسيت مجمع الذخائر الإسلامية (من طبعته الحجرية)- قم. 2- تحقيق الشيخ محمد الحسّون. نشر بنياد فرهنگي المهدي «عج»- قم.

11- تاريخ الأمم و الملوك (تاريخ الطبري): لأبي جعفر، محمد بن جرير الطبري (224- 310 ه). أفسيت مكتبة أرومية- قم، 8 مجلدات.

12- التحرير (تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية): للعلّامة الحلّي (648- 726 ه). أفسيت مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث (من طبعته الحجرية). جزءان في مجلّد.

13- التذكرة (تذكرة الفقهاء): للعلّامة الحلّي (648- 726 ه): 1- أفسيت المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية (من طبعته الحجرية)- طهران، في مجلدين. 2-

ص: 378

تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «ع»- قم. خرج منه 5 مجلدات.

14- تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): لأبي عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 ه على قول). أفسيت دار إحياء التراث العربي- بيروت، 20 جزء في 10 مجلدات.

15- تنقيح المقال في علم الرجال: للشيخ عبد الله بن محمد حسن المامقاني (1290- 1351 ه) نشر المطبعة المرتضوية (طبعة حجرية)- النجف الأشرف، 3 مجلدات- 1352 ه.

16- التوحيد: للشيخ الصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن بابويه (ت 381 ه).

تصحيح و تعليق السيد هاشم الحسيني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين- قم.

17- التهذيب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة): للشيخ الطوسي (385- 460 ه): 1- تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان. أفسيت دار صعب و دار المتعارف- بيروت، 10 مجلدات- 1401 ه. 2- أفسيت مكتبة الفراهاني (من طبعته الحجرية)- طهران، في مجلدين.

18- جامع المقاصد في شرح القواعد: للمحقق الثاني، الشيخ علي بن الحسين الكركي (ت 940 ه). تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «ع»- قم، 14 مجلدا- 1415- 1408 ه.

الجعفريات. راجع الأشعثيات.

19- الجوامع الفقهية: مجموعة من تأليفات القدماء في الفقه، منها: المقنع، و الهداية، و الغنية. و الكتاب طبعتان

ص: 379

1- طبعة حجرية بخط محمد رضا الخوانساري و ابنه محمد علي- طهران، 1276 ه.

و فيها رسالة في ترجمة أبي بصير.

2- طبعة مصورة من تلك الطبعة، أفسيت انتشارات جهان- طهران، مع حذف الرسالة الرجالية.

20- الجواهر (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام): للشيخ محمد حسن بن باقر النجفي (ت 1266 ه). نشر دار الكتب الإسلامية- طهران، 43 مجلدا.

21- الحدائق (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة): للشيخ يوسف بن أحمد البحراني (1107- 1186 ه). نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 25 مجلدا.

22- الخصال: للشيخ الصدوق (ت 381 ه). تصحيح و تعليق علي أكبر الغفّاري. نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين- قم.

23- الخلاف (الخلاف في الأحكام، أو مسائل الخلاف): للشيخ الطوسي (385- 460 ه): 1- نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، خرج منه 4 مجلدات. 2- نشر المطبعة الإسلامية- طهران، جزءان في مجلد- 1369 ه. (المطبوع بأمر من آية الله العظمى البروجردي، بنفقة المغفور له: الحاج محمد حسين كوشانپور).

24- دراسات في المكاسب المحرّمة: من أبحاث المقرّر المحقق- دامت بركاته. نشر التفكّر- قم، خرج منه جزء واحد- 1415 ه.

25- دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية: من أبحاث المقرّر المحقق- دامت بركاته. نشر المركز العالي للدراسات الإسلامية، و دار الفكر- قم، 4 مجلدات- 1411- 1408 ه.

26- الدروس الشرعية في فقه الإمامية: للشهيد الأوّل، الشيخ محمد بن مكّي (734-

ص: 380

786 ه). تحقيق و نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 3 مجلدات.

27- دعائم الإسلام: للقاضي، أبي حنيفة، النعمان بن محمد (ت 363 ه). تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي. أفسيت مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث.

28- الذخيرة (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد): للمحقق السبزواري، محمد باقر بن محمد مؤمن (1017- 1090 ه). أفسيت مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث (من طبعته الحجرية).

29- الذكرى (ذكري الشيعة في أحكام الشريعة): للشهيد الأوّل، الشيخ محمد بن مكّي (734- 786 ه). أفسيت مكتبة بصيرتي (من طبعته الحجرية)- قم.

30- رجال الشيخ: للشيخ الطوسي (385- 460 ه). نشر المكتبة الحيدرية- النجف الأشرف، 1380 ه.

31- رجال النجاشي: لأبي العباس، أحمد بن علي النجاشي (372- 450 ه): 1- تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم. 2- أفسيت مكتبة الداوري- قم.

الرسائل. راجع فرائد الأصول.

32- رسائل الشريف المرتضى: لعلم الهدى، أبي القاسم، علي بن الحسين (355- 436 ه). إعداد السيد مهدي الرجائي. نشر دار القرآن الكريم- قم، 3 مجلدات- 1405 ه.

33- رسائل الشهيد: مجموعة من رسائل فقهية، منها: نتائج الأفكار، و رسالة مفصلة و أخرى مختصرة في حكم صلاة الجمعة و الترغيب فيها. للشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (911- 965 أو 966 ه). أفسيت مكتبة بصيرتي (من

ص: 381

طبعة الحجرية)- قم.

رسالة بحر العلوم. اسمها «مبلغ النظر في حكم قاصد الأربعة من مسائل السفر»: للسيد العلّامة، محمد مهدي بن مرتضى الطباطبائي البروجردي (ت 1212 ه). أوردها بتمامها في مفتاح الكرامة 3- 543- 503.

رسالة الجمعة المفصلة و المختصرة. راجع رسائل الشهيد.

34- روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: للشهيد الثاني (911- 965 أو 966 ه).

أفسيت مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث (من طبعته الحجرية).

35- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: للشهيد الثاني. تحقيق السيّد محمد كلانتر.

نشر دار العالم الإسلامي- بيروت، 10 مجلدات.

36- الرياض (رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل): للسيد علي الطباطبائي (1161- 1231 ه). تحقيق و نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، خرج منه 7 مجلدات.

37- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: لابن إدريس الحلّي، أبي جعفر محمد بن منصور (558- 598 ه): 1- تحقيق و نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 3 مجلدات. 2-

أفسيت منشورات المعارف الإسلامية (من طبعته الحجرية)- طهران، 1390 ه.

38- سنن ابن ماجة: لأبي عبد الله، محمد بن يزيد القزويني (207- 275 ه). تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. نشر دار إحياء التراث العربي- بيروت، في مجلدين- 1395 ه.

39- سنن البيهقي (السنن الكبرى): لأبي بكر، أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 ه).

أفسيت دار المعرفة- بيروت، 10 مجلدات- 1355 ه.

40- سيرة ابن هشام: لأبي محمد، عبد الملك بن هشام (ت 218 أو 213 ه). تحقيق

ص: 382

مصطفى السقاء، إبراهيم الأبياري و عبد الحفيظ شبلي. أفسيت دار إحياء التراث العربي- بيروت.

41- السيرة الحلبية: لعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (975- 1044 ه)، أفسيت دار إحياء التراث العربي- بيروت، 3 مجلدات.

42- الشرائع (شرائع الإسلام في مسائل الحلال و الحرام): للمحقق الحلّي، أبي القاسم، نجم الدين، جعفر بن الحسن (ت 676 ه): 1- تحقيق عبد الحسين محمد علي. نشر مطبعة الآداب- النجف الأشرف، 4 مجلدات- 1389 ه. 2- تعليق السيد صادق الشيرازي. نشر الاستقلال- طهران.

43- شرح تبصرة المتعلمين: للشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1361 ه): 1- تحقيق محمد هادي معرفة. نشر مطبعة مهر- قم. 2- تحقيق الشيخ محمد الحسّون. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، خرج منه 5 مجلدات.

44- الصحاح (تاج اللغة و صحاح العربية): لإسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه).

تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. نشر دار العلم للملايين- بيروت، 6 مجلدات.

45- الصحيفة السجادية: تشتمل على نيّف و خمسين دعاء للإمام الهمام، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب «ع» (38 أو 37 أو 36- 95 أو 94 ه).

46- العروة الوثقى: للسيّد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت 1337 ه). نشر المكتبة العلمية الإسلامية- طهران، في مجلدين- 1399 ه. مع تعليقات مراجع الشيعة الإمامية.

47- علل الشرائع: للشيخ الصدوق (ت 381 ه). نشر مكتبة الحيدرية- النجف الأشرف، 1385 ه.

ص: 383

48- عيون أخبار الرضا عليه السلام: للشيخ الصدوق (ت 381 ه). تحقق السيّد مهدي الحسيني.

نشر رضا المشهدي- قم، 1378 ه.

49- الغدير في الكتاب و السنة و الأدب: للعلّامة الأميني، الشيخ عبد الحسين أحمد (ت 1390 ه). نشر دار الكتاب العربي- بيروت.

الغنية: لأبي المكارم، حمزة بن علي بن زهرة (511- 585 ه). راجع الجوامع الفقهية.

50- فرائد الأصول: للشيخ الأعظم، مرتضى الأنصاري (1214- 1281 ه). 1-

أفسيت مكتبة المصطفوي (من طبعته الحجرية مع إضافات)- قم، 1374 ه. 2-

تحقيق و تعليق الشيخ عبد الله النوراني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1407 ه.

51- الفوائد الرضوية: للشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1290- 1359 ه). نشر «انتشارات مركزي»- إيران.

فقه الرضا. راجع الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام.

52- الفقه على المذاهب الأربعة: لعبد الرحمن الجزيري. أفسيت دار إحياء التراث العربي- بيروت.

53- الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه السلام. تحقيق مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث. نشر المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام- مشهد المقدسة، 1406 ه.

الفقيه. راجع كتاب من لا يحضره الفقيه.

54- القاموس المحيط: لمجد الدين، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي (729- 817 ه). أفسيت دار المعرفة- بيروت، 4 مجلدات.

55- قرب الإسناد: لأبي العباس، عبد الله بن جعفر الحميري القمي (من أعلام القرون الثالث و من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام). 1- أفسيت مكتبة نينوى الحديثة.

ص: 384

طهران. 2- تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «ع»- قم، 1413 ه.

56- القواعد (قواعد الأحكام في مسائل الحلال و الحرام): للعلّامة الحلّي (648- 726 ه). أفسيت منشورات الشريف الرضي (من طبعته الحجرية)- قم، جزءان في مجلد واحد.

57- الكافي: لأبي جعفر، محمد بن يعقوب الكليني (ت 328 ه). 1- تصحيح و تعليق علي أكبر الغفّاري. نشر دار الكتاب الإسلامية- طهران، 8 مجلدات. 2- الطبعة الحجرية للفروع من الكافي في مجلدين، 1315 ه.

58- الكافي: لأبي الصلاح، تقي الدين بن نجم الدين الحلبي (374- 447 ه). تحقيق الشيخ رضا أستادي. نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين «ع»- أصفهان.

59- كامل الزيارات: لأبي القاسم، جعفر بن محمد بن قولويه (ت 367 ه). تصحيح و تعليق العلامة، الشيخ عبد الحسين الأميني. نشر المطبعة المرتضوية- النجف الأشرف، 1356 ه.

60- كتاب الزكاة: من أبحاث المقرّر المحقّق- دامت بركاته. نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، و نشر التفكّر- قم، 4 مجلدات- 1413- 1409 ه.

61- كتاب الصلاة: للشيخ الأعظم، مرتضى الأنصاري (1214- 1281 ه). أفسيت مكتبة الرسول المصطفى- قم.

62- كتاب الصلاة: لآية الله العظمى، الشيخ عبد الكريم الحائري (1276- 1355 ه).

أفسيت مكتب الإعلام الإسلامي- قم.

63- كتاب من لا يحضره الفقيه: (الفقيه) للشيخ الصدوق (ت 381 ه): 1- تصحيح و تعليق علي أكبر الغفّاري. نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين-

ص: 385

قم، مجلدات. 2- نشر المطبعة الجعفرية- لكهنو- هند، في مجلدين- 1307 ه.

64- كشف الرموز: للفاضل الآبي، أبي علي، زين الدين، الحسن بن أبي طالب (من أعلام القرن السابع). تحقيق الشيخ علي پناه و الشيخ حسين اليزدي. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، في مجلدين- 1410- 1408 ه.

65- الكفاية (كفاية الأحكام): للمحقق السبزواري، محمد باقر بن محمد مؤمن (1017- 1090 ه). أفسيت المهدوي (من طبعته الحجرية)- أصفهان.

66- لسان العرب: لابن منظور، أبي الفضل، أحمد بن علي (630- 711 ه). أفسيت أدب الحوزة- قم، 16 مجلدا- 1405 ه.

67- المبسوط: لشيخ الطائفة، الطوسي (385- 460 ه). تصحيح و تعليق السيّد الكشفي و البهبودي. نشر المكتبة المرتضوية- طهران، 8 مجلدات.

68- مجمع البيان لعلوم القرآن: لأبي علي، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه).

تصحيح السيّد هاشم الرسولي و السيد فضل الله الطباطبائي. من منشورات شركة المعارف الإسلامية- طهران، 5 مجلدات- 1379 ه.

69- مجمع الرجال: للشيخ زكي الدين، المولى عناية الله بن علي القهپائي (من أعلام القرن الحادي عشر). تصحيح و تعليق السيّد ضياء الدين (العلامة الأصفهاني).

أفسيت مؤسسة إسماعيليان- قم، 7 أجزاء في 3 مجلدات.

70- مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان: للفقيه، المحقق، المولى أحمد، المقدس الأردبيلي (ت 993 ه). تحقيق الشيخ آقا مجتبى العراقي و الشيخ على پناه و الشيخ حسين اليزدي. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، خرج منه 12 مجلدا- 1414- 1402 ه.

ص: 386

71- المختصر النافع: للمحقّق الحلّي، أبي القاسم، جعفر بن الحسن (ت 676 ه). أفسيت مكتبة المصطفوي (من طبعته المصرية)- قم.

72- المختلف (مختلف الشيعة في أحكام الشريعة): للعلّامة الحلّي (648- 726 ه):

1- افسيت مكتبة نينوى الحديثة (من طبعته الحجرية)- طهران. 2- نشر مركز الأبحاث و الدراسات الإسلامية- قم، خرج منه 3 مجلدات.

73- المدارك (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام): للسيّد محمد بن علي الموسوي العاملي (ت 1009 ه). تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «ع»- قم، 8 مجلدات- 1410 ه.

74- المراسم: لسلّار، حمزة بن عبد العزيز الديلمي (ت 463 ه). تحقيق الدكتور محمود البستاني. أفسيت منشورات الحرمين- قم.

75- مروج الذهب و معادن الجوهر: لأبي الحسن، علي بن الحسين المسعودي (ت 346 ه). نشر دار الأندلس- بيروت، 4 أجزاء في مجلدين.

76- مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل: للمحدّث، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي (1254- 1320 ه): 1- أفسيت المكتبة الإسلامية (من طبعته الحجرية)- طهران، و مؤسسة إسماعيليان- قم، 3 مجلدات مع الخاتمة. 2- تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «عليهم السلام»- قم، 18 مجلدا بلا خاتمة المستدرك- 1407 ه.

77- مستند الشيعة في أحكام الشريعة: للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (ت 1244 و قيل 1245 ه). أفسيت المكتبة المرتضوية (من طبعته الحجرية)- طهران، في مجلدين.

78- مسند أحمد: لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (164- 241 ه). أفسيت دار صادر- بيروت.

ص: 387

79- مسند الإمام الكاظم «ع»: جمع و ترتيب الشيخ عزيز الله العطاردي. نشر المؤتمر العالمي للإمام الرضا «ع»- مشهد الرضوي، 3 مجلدات- 1409 ه.

80- مصباح الفقيه (كتاب الصلاة): للفقيه الهمداني، الحاج آقا رضا بن محمد هادي (ت 1322 ه). أفسيت مكتبة الداوري (من طبعته الحجرية)- قم.

81- المصباح المنير: لأحمد بن محمد الفيّومي (ت 770 ه). أفسيت دار الهجرة- قم، 1405 ه.

82- معارف الرجال: للشيخ محمد حرز الدين. أفسيت مكتبة آية الله المرعشي النجفي- قم، 3 مجلدات- 1405 ه.

83- المعتبر في شرح المختصر: للمحقّق الحلّي (ت 676 ه). نشر مؤسسة سيّد الشهداء- قم، في مجلدين.

84- المغازي: للواقدي، محمد بن عمر (130- 207 ه). أفسيت دار المعرفة الإسلامية- إيران.

85- المغني (في فقه الحنابلة): لابن قدامة، أحمد بن محمد (541- 620 ه). أفسيت دار الكتاب العربي- بيروت، 12 مجلدا.

86- مفاتيح الشرائع: للمولى محمد محسن، الفيض الكاشاني (ت 1019 ه). تحقيق السيّد مهدي الرجائي. نشر مجمع الذخائر الإسلامية- قم، 3 مجلدات.

87- مفتاح الكرامة في شرح القواعد العلّامة: للسيد محمد الجواد بن محمد الحسيني العاملي (ت 1226 ه). أفسيت مؤسسة آل البيت «ع» لإحياء التراث- إيران، 10 مجلدات.

ص: 388

المقنع: للشيخ الصدوق (ت 381 ه). راجع الجوامع الفقهية.

88- المقنعة في الأصول و الفروع: للشيخ المفيد، أبي عبد الله، محمّد بن محمّد بن النعمان (336- 413 ه). تحقيق و نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 1410 ه.

89- المنتقى (منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح و الحسان): لنجل الشهيد الثاني، الشيخ أبي منصور، الحسن بن زين الدين (ت 1011 ه). تصحيح و تعليق علي أكبر الغفّاري. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 3 مجلدات.

90- المنتهى (منتهى المطلب في تحقيق المذهب): العلّامة الحلّي (648- 726 ه).

أفسيت (؟) (من طبعته الحجرية)- إيران، في مجلدين.

91- المنجد في اللغة و الأعلام: لعدّة من المحققين. نشر دار المشرق- بيروت، الطبعة 21.

92- الموسوعة الرجالية: لآية اللّٰه العظمى السيّد حسين البروجردي (1292- 1380 ه).

تنظيم الشيخ حسن النوري الهمداني. نشر مجمع البحوث الإسلامية في الآستانة الرضوية المقدسة- 7 مجلدات، 1413 ه.

الموصليات و الميافارقيات: لعلم الهدى، السيد المرتضى (355- 463 ه). راجع رسائل الشريف المرتضى.

93- المهذّب: لابن البرّاج، القاضي عبد العزيز بن البرّاج (400- 481 ه). نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، في مجلدين- 1406 ه.

94- المهذّب البارع في شرح المختصر النافع: لابن فهد الحلّي، أبي العباس، أحمد بن محمد (757- 841 ه). تحقيق الشيخ مجتبى العراقي. نشر مؤسسة النشر الإسلامي- قم، 5 مجلدات.

ص: 389

95- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: لأبي عبد الله، محمد بن أحمد الذهبي (673- 748 ه). تحقيق علي محمد البجاوي. أفسيت دار الفكر- بيروت.

نتائج الأفكار: للشهيد الثاني (911- 965 و قيل 966 ه). راجع رسائل الشهيد.

96- نجاة العباد في يوم المعاد: لصاحب «الجواهر»، الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي (ت 1266 ه). الطبعة الحجرية، بخطّ محمد باقر، 1323 ه، مع ستّ تعليقات من الأعاظم و المراجع. منها تعليقة الشيخ الأنصاري، و تعليقة الآخوند الخراساني، و تعليقة السيّد محمد كاظم الطباطبائي «قدهم».

97- نفائس الفنون في عرائس العيون: لشمس الدين، محمد بن محمود الآملي (من أعلام القرن 8). تعليق الشيخ أبي الحسن الشعراني. نشر دار الكتب الإسلامية- طهران، 3 مجلدات- 1379 ه.

98- النهاية في مجرد الفقه و الفتاوي: لشيخ الطائفة، أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي (385- 460 ه). أفسيت «انتشارات القدس»- قم.

99- نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: للعلّامة الحلّي (648- 726 ه). تحقيق السيّد مهدي الرجائي. أفسيت مؤسسة إسماعيليان- قم، في مجلدين- 1410 ه.

100- نهاية الأصول: للمقرّر المحقق- دامت بركاته (تقريرا لأبحاث أستاذه، آية الله العظمى، السيّد حسين البروجردي). طبعته الحديثة المشتملة على المقاصد الثلاثة الأخيرة زيادة على المقاصد الخمسة الأولى المطبوعة سابقا. نشر التفكّر- قم، 1415 ه.

101- الوسائل (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): للشيخ محمد بن الحسن، الحرّ العاملي (1033- 1104 ه): 1- تصحيح و تعليق الشيخ عبد الرحيم

ص: 390

الرباني و الشيخ محمد الرازي. نشر المكتبة الإسلامية- طهران، 20 مجلدا. 2-

تحقيق و نشر مؤسسة آل البيت «ع»- قم، 30 مجلدا- 1412- 1409 ه. 3-

الطبعة الحجرية، المشتهرة بطبعة أمير بهادر- طهران، 3 مجلدات- 1324- 1323 ه.

102- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: لابن حمزة، محمد بن علي الطوسي (من أعلام القرن السادس). تحقيق الشيخ محمد الحسون. نشر مكتبة السيّد المرعشي النجفي.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.